الباب الحادى عشر: الـشعائر
الشــــعائــــــــــــــر Ceremonial Law; Religious Ceremonies
«الشعائر» في الخطاب الإسلامي هي ما دعا إليه الشرع الديني وأمر بالقيام به من صلوات وغيرها، مفردها «شعيرة»، و«شعائر الحج» هي مناسكه، ومواضع المناسك هي «المشاعر» ومفردها «مَشْعَر». وفي الخطاب الديني المسيحي يُشار إلى الشعائر بكلمة «الطقوس» ومفردها «طقس»، وهو نظام الخدمة والصلوات والاحتفالات الدينية. ويتم التمييز، في الفكر الديني عامة، بين «الشعائر» و«العقائد». وهي، في نهاية الأمر، تعبير عن ثنائية الجسد والروح (أو المادة وما وراء المادة) الكامنة في أي نسق ديني. ففي الإسلام، ثمة فارق بين الإيمان الداخلي وإشهار الإسلام الخارجي (دون أن يدخل الإيمان القلب).
ولكن، مع هذا، نجد أن الثنائية داخل إطار الديانات التوحيدية ثنائية فضفاضة لا تؤدي إلى استقطاب حاد، ولذا تظل إقامة الشعائر والمناسك أمراً أساسياً إذ أنها وسيلة كبح الذات الإنسانية والتقرب بها إلى الله، فهي تنفيذ لتعاليمه والدليل الخارجي على الإيمان الداخلي. ويُلاحَظ أن هذا التمييز بين العقائد والشعائر يأخذ شكلاً متطرفاً في الدين المسيحي على وجه الخصوص، إذ تؤكد العقيدة المسيحية الجانب الروحي على حساب الجانب المادي، وهذا ما يجعلها تميل أحياناً إلى شكل من أشكال الثنائية الصلبة التي تؤدي إلى الاستقطاب.
وللشعائر تاريخ طويل في اليهودية، فهي تعود إلى أيام عبادة يسرائيل والعبادة القربانية. وقد استمر تراكم الشعائر، وإن كان بعضها قد تساقط بعد هدم الهيكل واختفاء العبادة القربانية وشعائرها المرتبطة بالزراعة والأرض، مثل: السنة السبتية، والخلط المحظور بين النباتات، وبعض الصلوات كصلاة الاستسقاء، والتضحية بكبشين في يوم الغفران، وتقديم أولى ثمار المحاصيل، وافتداء الابن الأكبر.
والشعائر اليهودية كثيرة وصارمة. ومن أهمها الصلاة التي لا يمكن أن تُقام إلا بوجود النصاب (منيان)، وعلى المصلين ارتداء شال الصلاة (طاليت)، وتمائم الصلاة (مزوزاه وجمعها مزوزوت)، وطاقية الصلاة (يرملك). وتصاحب الأعياد والأيام الخاصة (مثل يوم السبت) شعائر كثيرة، ربما كان أهمها وأكثرها تعقيداً شعائر عيد الفصح.
وعلى اليهودي أن يقيم شعائر كثيرة من المهد إلى اللحد، فبعد الولادة يجري ختان المولود وإطلاق اسم عليه، وعند بلوغه سن الثانية عشرة (سن التكليف الديني)، تُقام شعائر (أو بالأحرى احتفالات) البرمتسفاه. وعليه، طوال حياته، أن يتبع قوانين الطعام، وخصوصاً الذبح الشرعي. وعند وفاة أحد أفراد أسرته، عليه قراءة القاديش وإقامة مراسم الدفن. وإلى جانب هذا، هناك عشرات الشعائر الأخرى، مثل: شعائر الطهارة والنجاسة، والحمام الطقوسي، وتمائم الباب (مزوزوت) واللحية والسوالف. ويعد الكثير من الأوامر والنواهي (متسفوت) تنفيذاً لهذه الشعائر.
والنساء غير مكلفات بالقيام بالشعائر المرتبطة بزمن محدد مثل إقامة الصلاة. ويُلاحَظ أن طريقة أداء بعض الشعائر عند الإشكناز تختلف عنها بين السفارد. كما أن شعائر الجماعات اليهودية الصغيرة المتفرقة، مثل يهود كوشين ويهود كايفنج ويهود الفلاشاه، تختلف جوهرياً عن شعائر اليهودية الحاخامية. واليهودية الحاخامية لا تعرف التفرقة بين الشعائر والعقائد، فهي لم تحاول توحيد اليهود عن طريق توحيد العقائد والرؤية والقيم الأخلاقية وتأكيد شموليتها وفاعليتها، وإنما حاولت أن تفعل ذلك عن طريق توحيد الشعائر وطريقة أدائها.
والشعائر تعزل اليهود وتوحِّدهم. وقد يُقال إن اليهودية تشبه، في هذا، الإسلام أو أي دين. ولكن ثمة فارقاً عميقاً، فاليهودية لم تحدد عقائدها الأساسية، الأمر الذي جعل الشعائر حركات خارجية لا تدل على شيء خارج نفسها (أي أنها دال دون مدلول). كما أن اليهودية، كتركيب جيولوجي تراكمي، تحوي داخلها طبقات عقائدية غير متجانسـة بل متعارضـة. وفي غـياب سلطة دينية مركزية، اكتسبت الشعائر مضامين عقائدية مختلفة حتى صارت الشعيرة نفسها تحمل مدلولات مختلفة، ولكنها مع هذا ظلت تُؤدَّى بالطريقة نفسها. وأصبحت طريقة الأداء أهم من المضمون الديني أو العقيدي، بل أصبح بإمكان اليهود الملاحدة أن يؤدوا الشعائر دون الإيمان بالإله.
وقد تساءل كثير من الفلاسفة اليهود عن هذه الشعائر، وهل تتفق مع العقل أم أنها جزء من التقاليد الدينية أو من الأوامر الإلهية التي على المؤمن قبولها. وقد انقسموا في هذا الشأن إلى ثلاثة أقسام، فمنهم من نادى بأنها عقلية، ومنهم من قال إنها لا علاقة لها بالعقل، ومنهم من أخذ موقفاً وسطاً. والتلمود هو الكتاب الذي يضم هذه الشعائر ويفصل بين أحكامها بعناية وتفصيل. وقد قام يوسف كارو بتلخيص هذه الأحكام وتصنيفها في كتاب واحد هو الشولحان عاروخ الذي صار كتاباً معتمداً لدى اليهود.
وقد حاول بعض دارسي العقائد اليهودية تفسير ظاهرة تزايد الشعائر وصرامتها. ونحن نذهب إلى أن تزايد درجة الحلولية في الأديان يؤدي إلى موقفين من الشعائر متناقضين تماماً، ولكنهما، في الوقت نفسه، متماثلان تماماً ويؤديان إلى النتيجة نفسها (وهذا هو الحال دائماً مع الثنائية الصلبة، إذ يتقابل النقيضان). أما الموقف الأول، فهو تزايد هذه الشعائر بشكل متطرف، وهو أمر مفهوم باعتبار أن تزايد درجة الحلولية يتبعه تزايد معدلات القداسة التي يظن الإنسان أنه يتمتع بها. ومن ثم تصبح كل أفعاله، وضمن ذلك أدنى الأفعال الإنسانية وأحطها وأكثرها دناءة، مقدَّسة. ولذا، يجب أن تتبع هذه الأفعال نظاماً مقدَّساً محدداً، أي الشعائر. والشعائر هنا، في النسق الحلولي، تحل محل الأخلاق في النسق التوحيدي.
إذ أن هدف الوجود في النسق الحلولي ليس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإنما التقرب من الإله والالتصاق به ثم التوحد معه عن طريق إقامة شعائر معينة، تنتهي في نهاية الأمر إلى التوصل إلى التحكم في الإرادة الإلهية (ومن ثم نجد أن هذه الشعائر ترتبط دائماً بالسحر). لكل هذا، تختفي النزعة الأخلاقية الروحانية تماماً وتكتسب الشعائر، خصوصاً شعائر الطهارة، أهمية بالغة. كما أن وظيفة الشعائر هنا تصبح عزل الإنسان (المقدَّس) عن محيطه الديني، التاريخي أوالنسبي أو الإنساني.
ورغم أن الحاخامات لم يعبِّروا عن هذا الرأي بهذا الشكل المباشر، فإن كثيراً من أقوالهم الخاصة بأن الشعائر منزلة من عند الإله، حتى يقترب اليهود منه ويصبحـوا جزءاً منه ويعزلوا عن الأغيـار، تحمل هـذا المضـمون أو على الأقـل تتضمنه. وقد وصل هذا التيار إلى قمته في القبَّالاه اللوريانية التي جعلت حركات اليهودي وسكناته أموراً ذات دلالة شعائرية عميقة، وجعلت صلاته وسيلةً لإنجاز الزواج المقدَّس بين الابن (التجلي السادس) والابنة (التجلي العاشر) والذي يأتي بالخلاص لليهود ولكل البشر، بل للإله نفسه. وقد عَدَّل القبَّاليون بعض الشعائر، وأضافوا من الأدعية والبركات ما يؤكد ذلك المعنى.
ولكن النسق الحلولي لا يمكنه أن يفسر هذه الظاهرة بمفرده، فثمة عناصر في الواقع التاريخي ساعدته على التحقق. ويمكننا أن نقول أيضاً إن تحوُّل اليهود إلى جماعات وظيفية كان عنصراً حاسماً في هذه القضية، فالجماعة الوظيفية ترى أنها موضع القداسة، وتعاني من مركب الشعب المختار، كما أنها لابد أن تحافظ على عزلتها عن طريق العديد من الشعائر. وقد دعمت السلطة الحاكمة سيطرة القيادة الدينية على الجماعات اليهودية، حتى يتسنى لها أن تضرب سياجاً من حولها يضمن لها أداء وظيفتها. وإقامة الشعائر كانت وسيلة أساسية لإنجاز هذا الهدف. ومن هنا، كانت الحكومات غير اليهودية حريصة على أن يحافظ أعضاء الجماعات اليهودية على أداء الشعائر اليهودية وعلى أن يؤدوها بانتظام.
لكن ثمة جانباً آخر لتزايد النزعة الحلولية، وهو أنها تنتهي بانفجار مشيحاني يتبدى في شكل خرق سائر الشرائع وعدم إقامة الشعائر وإسقاطها. فحينما تزداد قداسة الإنسان، يزداد حلول الإله فيه ويصل الحلول إلى نقطة وحدة الوجود، وعند هذه النقطة يفقد الإله نفسه ويبدأ في الشحوب، إلى أن يحل تماماً في الإنسان وبذا يصير الإنسان هو نفسه إلهاً. ولكن الإله لا يحل في الإنسان وحسب وإنما في الطبيعة أيضاً. ومن ثم، فإن الإله والإنسان يُردّان إلى الطبيعة حتى نصل إلى درجة الواحدية المادية الكونية حيث تُختَزل كل المستويات (الإنسانية والإلهية) إلى مستوى كوني أو طبيعي واحد (ويصبح الإنسان إنساناً طبيعياً).
ولذا، فإن الحلولية تؤدي إلى العلمانية والمادية وتأليه الإنسان وتطبيعه، أي دمجه في الطبيعة في الوقت نفسه، وهو اختفاء الجانب الروحي والأخلاقي. ومن ثم، تصبح إقامة الشعائر أمراً سخيفاً لا قيمة له. وهذا يتضح أيضاً في التراث القبَّالي وفي التفسيرات القبَّالية في الحديث عن توراة الفيض (مقابل توراة الخلق) وهي توراة لا يقرؤها إلا العارفون بأسرار القبَّالاه. وتتميز هذه التوراة بأنها لا تتضمن أية شعائر أو أوامر أو نواه (فالأوامر والنواهي تفترض الحدود، بينما العارفون بتوراة الفيض مقدَّسون لا حدود لهم ويتحكمون في الإرادة الإلهية نفسها). وقد تبدَّى هذا في الحركات الشبتانية حيث كان زعماء هذه الحركات يقومون بإبطال الشريعة والدعوة إلى خرق الشعائر. ولقد ذهب بعضهم إلى تحويل الوصايا العشر إلى نقائضها أو إلى إعادة تفسيرها. فوصية مثل «لا تسرق» تحولت إلى «لا تسرق إلا بحذر» أو «فلتسرق». والشيء نفسه يُقال عن الوصية الخاصة بالزنى. وقد وصل هذا إلى قمته في حركات مثل الدونمه والحركة الفرانكية.
ومرة أخرى، لم يكن النسق الحلولي يقدر بمفرده على أن يصل باليهود إلى هذه المرحلة الترخيصية دون وجود عناصر تاريخية وحضارية ساعدت على تَحقُّقه. ومن أهم هذه العناصر، انتشار يهود المارانو الذين لم يكونوا يعرفون الشعائر اليهودية، إذ كانت ديانتهم مجموعة من العقائد الخفية المنفصلة عن الشعائر التي لم يكن بوسعهم القيام بها. كما أن ضعف دور الجماعات اليهودية، كجماعة وظيفية، ولَّد لديهم رغبة في الانفـلات من العـزلة الجيتوية والشـعائرية التي فرضتها عليهم وظيفتهم. وأخيراً، كان عدد الشعائر قد تزايد بشكل رهيب مع بدايات القرن السابع عشر حتى صرح أحد اليهود، في منتصف القرن الثامن عشر، بأنه أصبح من الصعب على الإنسان أن يكون إنساناً ويهودياً في الوقت نفسه.
كما أن تزايد الشعائر سبَّب الكثير من المشاكل لأعضاء الجماعات اليهودية، فقد كان أعضاء الأغلبيات يتهمونهم بأنهم يعزلون أنفسهم عمداً عن بقية الشعب. بل يبدو أن تهمة الدم تعود إلى أن كثيراً من الناس لم يفهموا شعائر عيد الفصح البالغة التعقيد. ولعل أحد أسباب ظاهرة الجيتو هو حاجة اليهود، الواحد منهم إلى الآخر، حتى يتسنى لهم إقامة الشعائر الدينية.
وقد ظهر داخل اليهودية، منذ بداية تاريخها، نقد للتطرف الشعائري، فقد هاجم الأنبياء (المدافعون عن الفكر التوحيدي) الشعائر والقرابين وتكريس الذات لها بدلاً من الإيمان الحقيقي الداخلي. فالإله لا يُسرُّ بالذبائح وإنما بالعيش حسب قواعد الأخلاق. ويمكن القول بأن سبب الأزمات المختلفة التي واجهتها اليهودية كان يتمثل في تزايد الشعائر وصرامتها وجفافها على حساب العقائد. وقد انتصرت المسيحية على اليهودية في القرن الأول الميلادي لأن العبادة القربانية كانت قد تحولت إلى شعائر خارجية خالية من المعنى، وطرحت المسيحية بدلاً من ذلك فكرة الإيمان الذي يُفصح عن نفسه عن طريق قربان الشفتين والقلب (أي الإيمان والصلاة) وجعلته سبيل الخلاص.
ومع بدايات القرن السابع عشر، كانت اليهودية الحاخامية (كما أسلفنا) قد بدأت تواجه الأزمة نفسها مرة أخرى، إذ تزايدت الشعائر وتوارت العقائد وتراجع الإيمان. وقد شنت الحركات المشيحانية الهجوم على اليهودية الحاخامية، فكانت تخرق الشعائر وتبطلها تماماً. وقد ذهب مندلسون إلى أن اليهودية ليست ديناً بالمعنى المتعارف عليه، فهي مجموعة من القوانين والقواعد الأخلاقية السلوكية والشعائر المُرسَلة التي تهدف إلى وضع أسس لسلوك اليهود لا إلى تقنين تفكيرهم وعقيدتهم. أما العقائد اليهودية، من وجهة نظره، فهي أمور عقلية عامة وبديهية يستطيع العقل أن يصل إليها دون حاجة إلى دين مرسل. ومن هنا، فإن الشعائر تُجسد في نظره الخصوصية اليهودية (القومية)، أما العقائد فلا يوجد فيها ما يجعل اليهودية مختلفة عن غيرها من الديانات.
وقد تقبل اليهود الإصلاحيون هذه الأطروحة، ولكنهم خَلصوا منها إلى ضرورة الحفاظ على العقائد العقلية العامة وضرورة التخلص من الشعائر ومن الخصوصية ومن النزعة القومية التي تعزل اليهود وتمنعهم من الاندماج، وقد كان هذا الخط العام لحركة التنوير اليهودية. وذهب دعاة اليهودية المحافظة إلى ضرورة الحفاظ على الشعائر باعتبارها جزءاً من التقاليد اليهودية الشعبية، وعلى أساس أنه قد يكون من الضروري تغييرها وإعادة تفسيرها لتتفق مع روح العصر. ولكن عملية التغيير هذه يجب أن تتم بحذر شديد ومن خلال شكل من أشكال الاجتهاد أو الإجماع الشعبي.
وفي أواخر القرن الثامن عشر، وعبر القرن التاسع عشر، كانت الحكومات المطلقة في أوربا تحاول تشجيع أعضاء الجماعات بشتى الطرق للتخلي عن إقامة الشعائر، خصوصاً ما يعمق منها الهوية اليهودية ويعزل اليهود عن بيئتهم الحضارية، مثل إطلاق اللحية والسوالف. كما كانت تمنع أحياناً تعيين اليهود الذين يطلقون لحاهم، وتمنع تدريس التلمود في المدارس اليهودية.
وقد استجاب كثير من اليهود لهذه الدعاوى التنويرية، ولكن العقائد اليهودية ظلت غير واضحة أو مستقرة، ولم يتم تعريفها. ولذا، فإن اليهودي حينما يتخلى عن إقامة الشعائر لا يبقى له شيء من اليهودية. وهناك من السوابق التاريخية ما يبين أن التخلي عن الشعائر يؤدي إلى اختفاء اليهودية كما حدث مع يهود كايفنج مثلاً. ولعل هذا هو أيضاً ما حدث ليهود آشور بعد التهجير الآشوري. وهذا يفسر ارتفاع نسبة التنصُّر بين اليهود في العصر الحديث، أو تَحوُّل الأغلبية الساحقة منهم إلى يهود ملحدين أو لا أدريين أو مجرد يهود إثنيين.
وفي هذه الحالة، يتحول ما تبقَّى من شعائر إلى مجرد رموز إثنية أو عرْقية قومية يتمسك بها كثير من اليهود الملحدين أو الإثنيين، لا إيماناً بعقيدة دينية أو قيمة أخلاقية وإنما تعبيراً عن الهوية. وبالتالي، تُفرَّغ الشعائر من مضمونها بل تكتسب مضموناً مناقضاً لمعناها الديني الأصلي. والواقع أن إقامة الشعائر هي، من المنظور الديني (التوحيدي)، محاولة لكبح الذات والتقرب من الإله. أما من المنظور الإثني (الحلولي)، فهي تأكيد للذات والتفاف حولها وتعبير عن توثنها. والصهيونية، في جوهرها، امتداد لهذا الموقف، فهي محاولة للاستمرار في الشعائر الدينية باعتبارها تعبيراً عن الروح القومية اليهودية، وهي لذلك شكل من أشكال توثن الذات.
ويُلاحَظ أن أهمية الشعائر تتحدد حسب شعائر مجتمع الأغلبية. ففي الولايات المتحدة، تآكلت شعائر السبت والطعام الشرعي تماماً (حيث لا يقيمها سوى قلة قليلة من يهود الولايات المتحدة لأنها تتناقض مع إيقاع المجتمع). ورغم أن عيد التدشين غير مهم من منظور اليهودية الحاخامية بالمرة، فقد اكتسب أهمية غير عادية بسبب وقوعه في التاريخ نفسه الذي يقع فيه الكريسماس (عيد الميلاد). بينما تراجعت أهمية عيد المظال مثلاً، برغم أنه من أعياد الحج الثلاثة، لأنه لا يتزامن مع أي عيد أمريكي ولا يقع بالقرب منه.
ويواجه بعض أعضاء الجماعات اليهودية صعوبة بالغة في تنفيذ الشعائر. ولعل قوانين الطعام أكثر الشعائر اصطداماً بالواقع العلماني الغربي، إذ يجد اليهودي صعوبة في الحفاظ عليها، فرغم تميُّز أعضاء الجماعات اجتماعياً، فإنهم لا يجدون جزاراً يقدم لهم لحوماً تتبع قواعد الذبح الشرعي. كما أن بعض الدول، مثل الدول الإسكندنافية، تحرم الذبح الشرعي باعتبار أنه يشكل قسوة ضد الحيوانات. وتشكل إقامة مظلة السوكاه (في عيد المظال) مشكلة بالنسبة إلى اليهود الذين يعيشون في البلاد الباردة، ويتم التغلب على هذا إما عن طريق إقامتها في المعبد اليهودي أو في الشرفة (وهي امتداد للمنزل) ويمكن تدفئتها.
وقد بُعثت في إسرائيل بعض الشعائر المرتبطة بالأرض، مثل لاج بعومير (يوم الحصاد) ورأس السنة للأشجار، كما يحاول بعض المتدينين تطبيق شعائر السنة السبتية وإن كانوا يجدون صعوبة بالغة في ذلك. وتحاول المؤسسة الدينية، من خلال أجهزة الحكومة، تذليل الصعوبات أمام من يود أن يؤدي الشعائر. وقد تأسس في إسرائيل معهد خاص يحاول التوصل إلى طرق يمكن بها تأدية الشعائر في المجتمع الحديث، فيمكن مثلاً برمجة أضواء كهربائية في ليلة السبت حتى تعمل آلياً في اليوم التالي. كما أن كثيراً من المصالح الحكومية تأخذ الشعائر في الاعتبار فلا تؤسس فنادق إلا وبها مطبخان حتى يمكن تنفيذ الشعائر الخاصة بالطعام.
ومع هذا، لا يمكن القول بأن الإسرائيليين حريصون على أداء الشعائر، فهم يلتهمون كميات كبيرة من لحم الخنزير بشراهة غير عادية، وأصبح يوم السبت يوم عطلة نهاية الأسبوع يخرجون فيه ويمارسون سائر الأنشطة التي يمارسها الإنسان الغربي في المجتمعات العلمانية، كما يذهبون إلى دور العرض السينمائي.
وإهمال الشعائر هو تعبير عن حلولية الإسرائيليين الوثنية. فالإله يحل في المستوطنين (الذين يحلون في أرض فلسطين). وهم بذلك يصبحون «قوة التشريع» ولذا تُعطَّل الشرائع. وكما تقول إحدى شخصيات رواية يائيل ديان طوبى للخائفين: "لا تقم الشعائر يا بني، فديننا هو أرضنا وتوراتنا هي الدولة، وعلمنا هو شعارنا وهو تميمتنا عوضاً عن المزوزاه". وهذا يخل باتفاق الوضع القائم (وهو ذلك الوضع الذي كان قائماً في فلسطين قبل عام 1948 بشأن تنفيذ الشعائر فيها حيث كانت الشعائر تُنفَّذ في بعض القطاعات وتُستبَعد في قطاعات أخرى، فمثلاً كان تُباح مشاهدة مباريات كرة القدم يوم السبت ولكن كان يُمنع عرض أفلام سينمائية). وحتى عهد قريب، كانت المدن الإسرائيلية مُقسَّمة حسب مدى التزامها بتنفيذ الشرائع، فكانت تل أبيب غير مكترثة بها، بينما كانت أعلى درجات الالتزام بالشعائر في القدس. وفي الآونة الأخيرة، بدأ الزحف العلماني نحو القدس. وقد تقدَّم أحد زعماء الجماعة اليهودية الأرثوذكسية المعادية للصهيونية بمذكرة إلى ياسر عرفات، يشكو فيها من إقامة محلات لبيع المواد الإباحية في القدس.
ويُصدَم كثير من أعضاء الجماعات اليهودية، من المتدينين وغير المتدينين، حينما يقومون بزيارة إسرائيل (فلسطين المحتلة) بسبب هذه الظاهرة. أما المتدينون، فيرون في هذا تراجعاً عن المثل الدينية، وأما غير المتدينين فيرون فيه تآكلاً للهوية. وقد صُدم يهود الفلاشاه أيضاً بهذه الظاهرة، وأشاروا إلى مفارقة أن المؤسسة الحاخامية لا تعترف بيهوديتهم رغم حرصهم على إقامة الشعائر بدرجة تفوق حرص الإسرائيليين.
الأوامر والنواهي (متسفوت) Mitzvot
«الأوامر والنواهي» هي المقابل العربي لكلمة «متسفوت» العبرية التي تعني أيضاً «الوصايا» أو «الفرائض». و«متسفوت» صيغة جمع مفردها «متسفاه». وللكلمة (داخل النسق الديني اليهودي) معنيان: معنى عام، وهو القيام بأي فعل خيِّر تمتزج فيه الأفعال الإنسانية بالقيم الدينية، فإذا ساعد يهودي أخاه منطلقاً من حبه له فهذه «متسفاه» (وتأتي عادةً في هذه الصيغة). أما المعنى الخاص للكلمة (ويأتي عادةً في صيغة «متسفوت») فهو الوصايا أو الأوامر والنواهي (متسفوت) التي تُكوِّن في مجموعها التوراة. وتشمل المتسفوت ستمائة وثلاثة عشر عنصراً، منها مائتان وثمانية وأربعون أمراً، وثلاثمائة وخمسة وستون نهياً، وهي موجهة إلى اليهود وحسب (إذ أن أبناء نوح لهم وصايا خاصة بهم).
وقد صُنِّفت المتسفـوت إلى أوامر ونواهٍ توراتيــة وأخرى حاخامية. كما قُسِّمت إلى أوامر ونواه أقل أهمية وأخرى أكثر أهمية، وإلى أوامر ونواه عقلانية (أي تُفهَم بالعقل) وأخرى مُوحىً بها (أي يطيعها اليهودي دون تفكير). ومن التصنيفات الأخرى، أوامر ونواه تُنفَّذ بالأعضاء وأخرى بالقلب، وتلك التي لا تُنفَّذ إلا في فلسطين (إرتس يسرائيل)، وتلك التي تنفذ داخلها وخارجها. واليهودي البالغ ثلاثة عشر عاماً ويوماً يُكلف بتنفيذها، وكذلك اليهودية البالغة اثني عشر عاماً ويوماً. ومن هنا تسمية الصبي اليهودي الذي يبلغ سن التكليف الديني «برمتسفاه»، أما الفتاة فهي «بت متسفاه». والنساء غير مكلفات بتنفيذ الأوامر المرتبطة بزمن محدَّد أو فصل محدَّد، مثل إقامة الصلاة، وإن كن مكلفات بإقامة شعائر السبت برغم ارتباطها بزمن محدَّد، وكلٌ من الذكور والإناث مكلفون بالنواهي.
والأوامر تختص بالإله (1 ـ 9)، وبالتوراة (10 ـ 19)، والهيكل والكهنة (20 ـ 38)، والقرابين (39 ـ 91)، والإيمان (92 ـ 95)، والطهارة (96 ـ 113)، والهبات للهيكل (114 ـ 133)، والسنة السبتية (134 ـ 142)، وذبح الحيوانات (143 ـ 153)، والأعياد (154 ـ 170)، والجماعة (171 - 182)، والشرك (185 ـ 189)، والحرب (190 ـ 193)، والعلاقات الاجتماعية (194 ـ 208)، والأسرة (209 ـ 223)، والشئون الاقتصادية (224 ـ 231)، والعبيد (232 ـ 235)، والأذى (236 ـ 248).
أما النواهي، فتختص بالشرك (1 ـ 59)، والهرطقة (60 ـ 66)، والهيكل (76 ـ 88)، والقرابين (89 ـ 157)، والكهنة (158 ـ 171)، وقوانين الطعام (172 ـ 201)، ونذيرو الإله (202 ـ 209)، والزرعة (210 ـ 229)، والإقراض بالربا والتجـارة ومعاملـة العبيـد (230 ـ 272)، والعدل (273 ـ 329)، وجماع المحارم والعلاقات المحرمة الأخرى (330 ـ 361)، والملكية (362 ـ 365).
ومن أهم الأوامر، تلك الأوامر المتصلة بالختان وزراعة الأرض (السنة السبتية) والطعام والأسرة وغيرها. والواقع أن عدم الالتزام بالأوامر والنواهي يعني عدم الانتماء إلى الشعب اليهودي. ومن الملاحَظ أن كثرة الأوامر والنواهي والشعائر المرتبطة بها (في اليهودية) قد أدَّت إلى تكبيل اليهود وإلى زيادة سلطة الحاخامات، الأمر الذي جعل عملية تحديث اليهودية أمراً عسيراً.
ولا شك في أن تزايد الأوامر والنواهي وتقنينها تعبير عن عنصرين مترابطين أولهما الطبقة الحلولية داخل التركيب الجيولوجي اليهودي. فالحلولية تتبدَّى دائماً في كثرة الشعائر وتطرفها، فهي شكل من أشكال تأكيد قداسة من يتمتع بالحلول الإلهي مقابل من يقع خارج دائرة القداسة، أما ثانيهما فهو تحوُّل الجماعات اليهودية إلى جماعات وظيفية وهي جماعات عادةً ما تفرض على نفسها عدداً هائلاً من الأوامر والنواهي حتى تحتفظ بهويتها المحايدة الضرورية للاضطلاع بوظيفتها.
وقد حاول الفلاسفة اليهود تفسير الأوامر والنواهي، ففسَّرها موسى بن ميمون بأنها تنازل من جانب الإله للعقل البدائي. وقد أصبحت المتسفوت، بالنسبة إلى القبَّاليين، مثل الأسرار الدينية أو التعويذات السحرية. وهي تشبه، في هذا، السر المقدَّس عند المسيحيين. ولما كان اليهود يشغلون، حسب الرؤية القبَّالية، مركزاً أساسياً في عملية الخلاص الكونية، فإن قيامهم بتنفيذ الأوامر والنواهي مسألة ذات أهمية كونية إذ يستطيع اليهود، من خلال قيامهم بها، أن يسرعوا بزواج الابن/الملك من الابنة/الملكة، أو الإله من الشخيناه، حتى يتوحدا معاً (بالمعنى الجنسي). ولذا، فإن على اليهودي قبل أن يقوم بتنفيذ إحدى الوصايا، أن يقول: «من أجل توحيد الواحد القدوس والشخيناه (أنثاه)».
وهناك كثير من الأوامر والنواهي (مثل تلك الخاصة بالملكية أو بالهيكل أو اللاويين أو الكهنة أو القرابين) ليس لها سوى أهمية جيولوجية تراكمية، بمعنى أنها مرتبطة بمواقف تاريخية سابقة لم يَعُد لها وجود. ومن ثم، لم يَعُد من الممكن تنفيذها رغم ورودها. ولعل أهم هذه الأوامر والنواهي تلك الخاصة بمؤسسة الملكية والهيكل، واللاويين والقرابين. ومع هذا، بدأت بعض هذه الأوامر والنواهي تدب فيها الحياة في إسرائيل مرة أخرى وتكتسب أهمية خاصة. فمع محاولات بعض المتطرفين الدينيين في إسرائيل أن يُعيدوا بناء الهيكل، بدأت إعادة بعث الشعائر الخاصة به، وأُسِّس معهد خاص لدراستها والتأكد من دقة تنفيذها.
كما بُعثت بعض الوصايا الخاصة بالشعوب الأخرى مثل تلك التي تدعو اليهودي إلى أن يبيد الأقوام الكنعانية السبعة (187)، وإلى أن يمحو ذكرى العـماليق (188)، وإلى تَذكُّر ما فعـل أولئك بجماعة يـسرائيل (189)، وكذا الوصايا التي تَنْهَى عن الزواج من العمونيين أو المؤابيين (53)، أو عن عقد سلام معهم (54)، كما تَنْهَى عن نسيان ما فعله العماليق باليهود (59). ويعود بعث هذه الأوامر والنواهي إلى الجو العنصري المتزايد في التجمع الصهيوني الذي يعبِّر عن الحلولية الخالية من إله فهذه الأسماء مرتبطة في الوجدان الصهيوني بالعرب داخل أو خارج فلسطين، كما أن العرب يُشار إلىهم في أدبيات جوش إيمونيم بمثل هذه التسميات.
والأهم من كل هذا هو قضية التفسير، فكثير من هذه الوصايا والأوامر، في صيغتها المباشرة، تبدو كأنها مجرد أوامر ونواه ذات طابع أخلاقي عام يتعيَّن على اليهودي التمسك بها، ولكن التفسير يعطيها مضموناً مغايراً تماماً. وللبرهنة على ما نقول، يمكننا أن نشير إلى أحد كتب الأوامر والنواهي وهو كتاب التربية، الذي كتبه حاخام مجهول في القرن الرابع عشر، وصنف فيه الأوامر والنواهي بحسب ترتيب ورودها في العهد القديم ، وشرحها حسبما جاء في التلمود. ومن أهم أهداف هذا الكتاب تحديد المضمون الدقيق للوصايا والنواهي والمُصطلَحات المستخدمة فيها.
ومن أهم هذه المُصطلَحات كلمة «أخوك»، أو كلمة «رجل» التي يفسرها بأنها تعني اليهودي وحسب. ولذا، فإن الأوامر والنواهي الخاصة بأن «تحب أخاك» وألا «تسرق أمواله» ولا «تزني بزوجته»، وكذلك ألا تخدعه أو تؤذيه أو تنتقم منه، لا تنطبق إلا على اليهود وحدهم. وتفسر الوصية الخاصة بضرورة إعتاق العبد اليهودي بأنها تعني ضرورة أن يظل العبد غير اليهودي عبداً أبد الدهر. ويُفسِّر الكتاب هذا التكليف الديني بأنه يستند إلى أن الشعب اليهودي أرقى الأنواع البشرية، وأن اليهود خُلقوا ليعرفوا إلههم ويعبدوه، ولذا فهم يستحقون أن يقوم عبيد على خدمتهم، وهم إن لم يستعبدوا الشعوب الأخرى سيضطرون لاستعباد إخوانهم في الدين. ويرى الكتاب أن هذا هو معنى الفقرة الآتية من سفر اللاويين (25/39 ـ 46): «وإذا افتقر أخوك عندك وبيع لك فلا تستعبده استعباد عبد، كأجير كنزيل يكون عندك، إلى سنة اليوبيل يخدم عندك.
ثم يخرج من عندك هو وبنوه معه ويعود إلى عشيرته. وإلى ملك آبائه يرجع. لأنهم عبيدي الذين أخرجتهم من أرض مصر لا يباعون بيع العبيد. لا تتسلط عليه بعنف. بل اخش إلهك. وأما عبيدك وإماؤك الذين يكونون لك فمن الشعوب الذين حولكم. منهم تقتنون عبيداً وإماءً. وأيضاً من أبناء المستوطنين النازلين عندكم منهم تقتنون ومن عشائرهم الذين عندكم الذين يلدونهم في أرضكم فيكونون ملكاً لكم. وتستملكونهم لأبنائكم من بعدكم ميراث ملك. تستعبدونهم إلى الدهر. وأما إخوتكم بنو يسرائيل فلا يتسلط إنسان على أخيه بعنف». وتُفسَّر الوصية الخاصة بأخذ فائدة على الأموال المُقرَضة للأغيار بأنها تعني ضرورة ألا يبدي اليهودي نحوهم أية رحمة (لأنهم لا يعبدون الرب). وتُفسَّر الوصية الخاصة بعدم اتباع عادات الأغيار بأنها لا تعني فقط أن يعزل اليهودي نفسه عن الأغيار وحسب، وإنما أن يتحدث عنهم بالسوء أيضاً.
وقد كانت مثل هذه الآراء المتطرفة حبيسة الكتب الفقهية التي كُتبت في جيتوات شرق أوربا (مثل كتاب التربية) والتي تشكِّل رغبة من جانب الضعيف في أن ينتقم من الآخرين على الورق، ولذا لم يكن يتداولها سوى بعض الحاخامات الأرثوذكس، وخصوصاً بعد أن رفضت اليهودية الإصلاحية والمحافظة هذه الأوامر والنواهي. ولكن، بعد حرب عام 1967، ومع النفوذ المتزايد للمؤسسة الأرثوذكسية الصهيونية، بدأت تظهر هذه الآراء في الصحف والمجلات الإسرائيلية، بل في الإذاعة والتليفزيون. وقد طُبع كتاب التربية طبعة شعبية مدعومة من الحكومة ويُوزَّع على طلبة المدارس. ويستخدم أعضاء جماعة جوش إيمونيم ما جاء في هذا التفسير لتسويغ الاستيطان واستغلال العمالة العربية، كما أنهم يقتبسون الأوامر والنواهي الخاصة بالعماليق والكنعانيين ويطبقونها على العرب.
وتظهر الخاصية الجيولوجية التراكمية لليهودية في اقتراح الحاخام اليهودي المحافظ فاكنهايم إضافة وصية جديدة (الوصية رقم 614) وهي « واجب البقاء » بمعنى أن واجب اليهود هو البقاء، وقد وصفها بأنها الوصية الأساسية التي تحل محل كل الأوامر والنواهي الأخرى. وهم في الواقع يطلقون على هذه الفكرة اسم «لاهوت ما بعد أوشفيتس»، أي اللاهوت الذي يتصدى للواقع اليهودي بعد الإبادة النازية ليهود أوربا والذي يهدد وجودهم. والبقاء (كما هو معروف) ليس خاصية أخلاقية، وإنما هو خاصية طبيعية داروينية، ولكنه تحوَّل على يد فاكنهايم إلى المتسفاه الأساسية. واليهودية التجديدية تطرح، هي الأخرى، البقاء باعتباره المتسفاه الأساسية بل الوحيدة بالنسبة إلى الشعب اليهودي.
الوصايـا Mitzvot
«الوصايا» ترجمة عربية لكلمة «متسفوت»، وهي تعني «الأوامر والنواهي»، ونحن نفضل استخدام المُصطلَح الأخير في معظم الأحيان نظراً إلى أن كلمة «الوصايا» قد تشير أيضاً إلى «الوصايا العشر»، وهي مختلفة عن «الأوامر والنواهي».
الختــــــــان Circumcision
«الختان» تقابلها في العبرية كلمة «ميلاَّه»، ويُقال أحياناً «بريت ميلاَّه»، أي «عهد الختان»، وأحياناً «بريت» فقط، أي «عهد». ويختن الطفل اليهودي بعد ميلاده بسبعة أيام على الأكثر، حتى ولو وقع اليوم السابع في يوم السبت، أو في عيد يوم الغفران، أكثر الأيام قداسة. وقد ذُكر الختان في العهد القديم في ثلاثة مواضع أهمها في سفر التكوين (17/10 ـ 15).
والختان عادة قديمة جداً، شاعت بين أمم العالم القديم، وهو ضرب من الطقوس الخاصة بالدم (عهد الدم) التي تدخل ضمن القرابين البشرية الشائعة في الشرق الأدنى القديم، أو ضمن شعائر بلوغ سن الرشد. وقد نقلها العبرانيون عن المصريين الذين كانوا يكنون ازدراءً خاصاً للشعوب التي لا تمارس الختان، وهو ما يفسر العبارة الواردة في سفر يشوع (5/9): "اليوم قد دحرجت عنكم عار مصر".
والختان داخل الإطار التوحيدي تعبير عن تَقبُّل الحدود ورغبة الإنسان في طاعة ربه، ولكنه في اليهودية أصبح يعبِّر عن حلولية النسق الديني اليهودي، وعن تداخل المطلق والنسبي، ولذا فهو يعتبر مناسبة قومية، فهو علامة العهد بين الإله وإبراهيم وجماعة يسرائيل، وهو ما أسبغ القداسة عليهم. ولهذا، فإن من لم يُختن لا يعتبر فرداً من الشعب المقدَّس لأن الإله لا يحل فيه. والختان علامة أن الإله منح جماعة يسرائيل أرض الميعاد («وأُعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك كل أرض كنعان ملكاً أبدياً وأكون إلههم»[تكوين 17/8]). وإذا كان الإله يمنحهم الأرض، فإن الختان على مستوى من المستويات هو القربان الذي يقدمونه له.
ويتأكد الطابع القومي الحلولي للختان في الطقوس التي تصاحبه، والتي تأخذ شكل حفل يحضره عشرة أفراد، وهو نفس النصاب اللازم للقيام بصلاة الجماعة اليهودية. ويجلس الجد على كرسي وإلى جواره كرسي آخر يُترَك خالياً يُسمَّى «كرسي إلياهو»، صاحب العهد بين الإله وجماعة يسرائيل، ويقوم بعملية الختان نفسها الموهيل (كلمة عبرية تشير إلى من يقوم بهذه المهمة). وقد حل محله طبيب في العصر الحديث. بل إنه إذا مات الطفل قبل مرور سبعة أيام من ميلاده، فإن جثمانه يُختن ويُعطى اسماً عبرياً ليكتسب الهوية اليهودية.
وقد كان الختان في الماضي يُجرى للذكور بصورة بسيطة تتيح للشخص مجالاً للادعاء بأنه غير مختون، ليتقي عدوان غير اليهود عليه، وليتفادى تهكم نساء الأغيار عليه إن عاشرهن جنسياً. وحينما زاد اندماج اليهود في العصر الهيليني، كان بعضهم تُجرَى له عملية تمكِّنه من إخفاء آثار الختان. وبعد التمرد الحشموني، أُمر الكهنة بأن تزال الغلفة عن آخرها، حتى لا يتمكن اليهود من الاندماج مع الأغيار. وكان الحشمونيون يفرضون التهود والختان على الشعوب التي يهزمونها (مثل الإيطوريين).
وقد منع أنطيوخوس الرابع (إبيفانيس) الختان في محاولته دمج يهود فلسطين في إمبراطوريته السلوقية، كما منعه الإمبراطور هادريان، ويُقال إن هذا أحد أسباب ثورة بركوخبا. ومع ظهور المسيحية، أصبح الختان العلامة الأساسية التي تميِّز اليهود عن المسيحيين. وقد حاولت اليهودية الإصلاحية إسقاط هذه الشعيرة واستمر الجدل عدة سنوات. ويبدو أنه، مع انتشار عادة الختان في الغرب، لأسباب صحية، توقفت المناقشة وقبلته الفرق اليهودية كافة.
وعند استيطان أعداد من يهود الفلاشاه في إسرائيل، طلبت منهم الحاخامية أن يتهودوا، باعتبار أن يهوديتهم مشكوك فيها ومن ثم مرفوضة. وحينما رفضوا ذلك، وافقت الحاخامية أن تتم عملية تهويد اسمية تأخذ شكل عملية ختان مخففة (استنزاف نقطة دم واحدة من مكان الختان). وحينـما وافـق بعض أعضاء الفلاشـاه، تم ختانهم مرتين، مرة على يد الحاخامية الإشكنازية، والأخرى على يد الحاخامية السفاردية. وقد كان كثير من المهاجرين السوفييت غير مختونين، ولكن أعداداً كبيرة منهم قبلت عملية التهويد والختان حرصاً منهم على فرصة الاستقرار في إسرائيل ومن ثم الحراك اجتماعياً.
ولا يمارس ختان الإناث بين يهود العالم الغربي، ولكنه يمارس في المجتمعات التي تسود فيها هذه العادة، ومن ثم فإننا نجده بين يهود الفلاشاه. وتحت تأثير حركة التمركز حول الأنثى، ظهر ما يُسمَّى «بريت بنوت يسرائيل»، أي «عهد بنات إسرائيل»، رداً على البريت ميلاَّه (عهد الختان). وتصاحب بريت بنوت يسرائيل صلاة خاصة تؤكد أهمية الأمهات؛ ليليت التي قاومت ورفضت أن يطأها آدم، وحواء، وزوجة نوح، وسارة، ورفقة، وليئة، وراحيل.
بلوغ سن التكليف الديني (برمتسفاه وبت متسفاه) Bar Mitzvah and Bat Mitzvah
«بلوغ سن التكليف الديني» هي الترجمة العربية لعبارة «برمتسفاه» وهي عبارة آرامية معناها «الابن (بر) المسئول عن تنفيذ الأوامر والنواهي (متسفاه)»، أي التكليف الديني. ويُطلَق هذا المُصطلَح على اليهودي عند بلوغه سن النضج واكتسابه الهوية اليهودية (الثالثة عشرة ويوماً بالنسبة إلى الذكور والثانية عشرة ويوماً بالنسبة إلى الإناث «بت متسفاه»). ويُقام في هـذه المناسـبة احتفـال ديني في المعبد يعقبه احتفال عائلي في المنزل. ويصبح من حق اليهودي البالغ أن يلبس شال الصلاة (طاليت) وينضم إلى صلاة الجماعة إذ يمكن حسابه ضمن النصاب (منيان)، وأن يقرأ التوراة في المعبد، وعليه أن ينفذ الأوامر والنواهي.
وتنص الشريعة اليهودية على أن سن الثالثة عشرة هي السن المثلى لقيام الشخص الصغير بتحمل مسئولياته الدينية والقانونية كاملة، استناداً إلى أن إبراهيم كان في الثالثة عشرة عندما تصرَّف كشخص ناضج وأنكر على أبيه عبادة الأصنام. وهي أيضاً السن التي تعني اكتمال نضوج الصبي (أو الصبية) وبلوغه من الناحية الفسيولوجية الجنسية بحيث يصبح مؤهلاً للزواج وإنجاب الأطفال.
لكن عادة الاحتفال بهذه المناسبة ليس لها سند في الكتابات الدينية اليهودية الحاخامية، فلم يرد لها ذكر في التلمود، بل عارضها اليهود الأرثوذكس في شرق أوربا بشدة حينما أُدخلت لأول مرة وقتلوا أحد الحاخامات الإصلاحيين بأن دسوا له السم لقيامه بعقد أحد هذه الاحتفالات. وقد كان الاحتفال يأخذ شكلاً دينياً صرفاً، فيُنادى الشاب البالغ ليقرأ التوراة في المعبد. ولم يكن هناك أي احتفال آخر. ولم يكن يوجد أي احتفال بمناسبة «بت متسفاه» على الإطلاق، فهذا تقليد ابتدعه مردخاي كابلان (مؤسس حركة اليهودية التجديدية). ومن المنظور الديني التقليدي، كان الاحتفال بالختان مهماً جداً.
ورغم كل هذا، أصبح الاحتفال ببلوغ سن التكليف الديني (لا الختان) من أهم المناسبات بين يهود الولايات المتحدة، فهم يبالغون في الاحتفال بها، بطريقة تفرغها من أي محتوى ديني أو حتى تقليدي، الأمر الذي جعل بعض الزعماء الدينيين اليهود يدعون إلى ضرورة المطالبة بالتقليل من شأنها. وقد صار الاحتفال يتسم بالسوقية والابتذال ويعبِّر عن الاستهلاكية المتزايدة في المجتمع الأمريكي. بل إنه لم يَعُد احتفالاً ببلوغ سن الاضطلاع بالأعباء الدينية، وإنما تمت علمنته تماماً فأصبح خليطاً من الاحتفال بعيد الميلاد (بيرثداي بارتيbirthday party) والاحتفال بالهوية الإثنية.
ولتفسير هذه الظاهرة، يمكننا الإشارة إلى أن اليهودية تتأثر إلى حدٍّ كبير بمحيطها الثقافي، وتكتسب هويتها من خلاله. ولذا تتدعم فيها تلك الجوانب التي لها ما يقابلها في الواقع وتتآكل تلك التي ليس لها نظير. والاحتفال بالختان هو احتفال يهودي محض لا نظير له في المجتمع الأمريكي المسيحي، رغم أن هؤلاء يختنون أولادهم لأسباب صحية. وبالتالي، فإننا نجد أن الختان بين اليهود قد تراجعت أهميته وصار يقوم به طبيب دون أي احتفال ديني أو دنيوي. أما الاحتفال ببلوغ سن التكليف الديني، فقد تحوَّل إلى احتفال ضخم لأنه يقابل الاحتفال المسـيحي، بتثبيت العـماد بالنسبة إلى الأولاد والبنات المسيحيين. ولذا، كان من الضروري أن يظهر شيء مماثل بين أعضاء الجماعة اليهودية على هيئة «برمتسفاه» و«بت متسفاه»، وذلك رغم عدم وجود أي أساس ديني لها (ولذا، فإن هذا العيد ليس له وجود بين أعضاء الجماعة اليهودية في المجتمعات الإسلامية، على حين أن الاحتفال بالختان لا يزال عيداً مهماً وأساسياً بينهم).
يتبع إن شاء الله...