الضرب الثالث وبعض تطبيقاته العصرية

الضرب الثالث :

مسائل ورد بشأنها أحكام شرعية، لكن احتف بها ما يقتضي عدم فعلها، أو استثنائها من أحكام نظائرها.

ولذلك أسباب منها:

1) عدم فعل المشروع –من حيث الأصل– بالنظر إلى ما يؤول إليه الحال عند تطبيق الحكم .

ومن أمثلته التشريعية : قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة -رضي الله عنها-: (( يَا عَائِشَةُ لَوْلا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ لأمَرْتُ بِالْبَيْتِ فَهُدِمَ ، فَأَدْخَلْتُ فِيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ ، وَأَلْزَقْتُهُ بِالأرْضِ وَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا فَبَلَغْتُ بِهِ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ )) (40)

فقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن إعادة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم مشروع من حيث الأصل ، لكن لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ناظراً إلى ما يؤول إليه من مفسدة –في وقته– أعظم من مصلحة نقض الكعبة وردِّها إلى ما كانت عليه من قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، وهي خوف فتنة بعض من أسلم قريباً باستعظامهم ما لم يعهدوه (41) .

وقد بيَّن الشاطبي رحمه الله أنَّ الإمام مالكاً رحمه الله، قد راعى قاعدة: (النظر إلى المآل)، عندما شاوره أبو جعفر المنصور أن يهدم ما بنى الحجاج من الكعبة ويردَّها على قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم عملاً بهذا الحديث ، كما كان قد صنع عبد الله بن الزبير في خلافته ، فقد قال له : " أنشدك الله يا أمير المؤمنين أن لا تجعل هذا البيت ملعبة للملوك بعدك لا يشاء أحد منهم أن يغيره إلا غيَّرَه ؛ فتذهب هيبته من قلوب النَّاس " ، فصرفه عن رأيه فيه خشية أن يؤول بناء الكعبة إلى التغيير المتتابع باجتهاد أو غيره ، فملك يبني ليكون بناؤها على القواعد من أعماله ومآثره وآخر يهدم ليجعل إعادتها من أعماله ومآثره مثلا ؛ فلا يثبت بناء الكعبة على حال (42) .

2) حصول ما يقتضي استثناء الواقعة من أحكام نظائرها .

ومن أمثلته المهمة : أنَّ النجاشي الملك الصالح رحمه الله ، كان يتحرى العدل ما أمكنه ذلك ، وكان يحكم يما يمكنه من الشرع ، ومما ثبت في ذلك ما روته أم حبيبة -رضي الله عنها- أنها كانت تحت عبيد الله بن جحش فمات بأرض الحبشة فزوجها النجاشي النبي -صلى الله عليه وسلم- وأمهرها عنه أربعة آلاف وبعث بها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع شرحبيل بن حسنة.

رواه أبو داود واحتج به وصححه غير واحد من أهل العلم .

وكان النجاشي معذوراً فيما لم يمكنه الحكم به من شريعة الإسلام ؛ لكونه بدار كفر لا شوكة له فيها ، وخوفه على دينه ، وعدم علمه بكثير من الأحكام الشرعية ، وعجزه عن الحكم ببعض ما بلغه .

قال الشيخ أبو العباس ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "لا خلاف بين المسلمين أن من كان في دار الكفر وقد آمن وهو عاجز عن الهجرة لا يجب عليه من الشرائع ما يعجز عنها، بل الوجوب بحسب الإمكان، وكذلك ما لم يعلم حكمه، فلو لم يعلم أن الصلاة واجبة عليه وبقي مدة لم يصل، لم يجب عليه القضاء في أظهر قولي العلماء، وهذا مذهب أبي حنيفة وأهل الظاهر، وهو أحد الوجهين في مذهب أحمد، وكذلك سائر الواجبات من صوم شهر رمضان وأداء الزكاة وغير ذلك" (43).

ومن ذلك:

ما أفتت به اللجنة الدائمة أن من "أمن على نفسه من الفتنة في دينه، وكان حفيظاً عليماً يرجو الإصلاح لغيره، وأن يتعدى نفعه إلى من سواه وألا يعين على باطل، جاز له العمل في الدول الكافرة، ومن هؤلاء يوسف -عليه الصلاة والسلام-، وإلا لم يجز" (44).

ومنها :

تأخير إقامة الحدود في حال الغزو وقد ورد به النص (45)؛ درءاً لمفسدة اللجوء للكفار، ومناصرتهم على المسلمين، أو كشف أسرار المسلمين لهم.

ومن أمثلته أيضاً:

عدم إقامة حدّ السرقة في أوقات المجاعات (46)؛ درءاً للحد بشبهة الضرورة إلى المسروق.

ومنه:

فتوى بعض العلماء بجواز التسعير في بعض الحالات (47).

ومن أمثلته المعاصرة:

التوقف عن جهاد الطلب (الدعوة ونشر الحرية) -لا ابتداع القول بإلغائه- مع إمكان النكاية في العدو في بعض الظروف والأحوال ، كما إذا غلب على الظّنّ تسبب ذلك في جلب لعدو إلى بلاد المسلمين ، أو القضاء على المكتسبات الدعوية التي تحقق مقاصد الجهاد في البلد الذي يراد إعلانه فيه .

ومن صوره :

منع العلماء الربانيين والولاة المخلصين بعضَ الراغبين في الجهاد من المسلمين من بعض البلاد أو الأقليات الإسلامية إلى بلاد يوجد فيها جهاد شرعي يقوم به أهلها ؛ إذا بني المنع على ما يؤول إليه ذهابهم من أضرار على البلاد التي ينتمون إليها أو المسلمين الذي يعيشون بينهم ، بما يعود في المآل على أصل المشروعية في الحال المذكورة بالبطلان ، أو لكون تلك الأضرار مما يجب درؤه شرعا .

ومن أمثلته وتطبيقاته المعاصرة :

جواز التجنس بجنسية بلد غير إسلامي في حالات استثنائية يقدرها العالم الرباني ، مع أن الأصل منع البقاء في بلاد الكفر والقبول بجنسيتها .

ومنها :

جواز المشاركة في الانتخابات البرلمانية أو الرئاسية في بلد كافر بانتخاب مسلم أو انتخاب كافر هو الأقل ضررا على المسلمين أو الأعدل فيما يتعلق بالمسلمين .

ومنها :

المشاركة في المظاهرات التي يراد بها التعبير عن حق أو دفع ظلم أو نفع المسلمين في البلدان التي تأذن للناس بها ، وذلك بضوابط معينة ، ولو مع غير المسلمين (48) .

وفي الحلقة القادمة – إن شاء الله تعالى -

نكمل بإيراد أمثلة أخرى وذكر تنبيهات مهمّة في طريقة طريقة ذكر العلماء لمثل هذه الصور ، وكيفية الإفادة الشرعية من مثل هذه الأحكام مما ورد عن أهل العلم الربانيين .