من أسس السياسة الشرعية: مراعاة العرف


د. سعد بن مطر العتيبي


قاعدة : مراعاة العرف .

والمراد به العرف الصحيح ، وهو : ما تعارفه أكثر الناس ( وهذا قيد يخرج العادات الخاصة ) من قول أو فعل اعتبره الشرع ؛ أو أرسله ، مما شأنه التَّغَيُّر والتَّبَدّل .

وهذا القيد يخرج العوائد الشرعية التي أقرها الدليل الشرعي أو نفاها ، كالأمر بإزالة النجاسات ، وستر العورات ؛ لأنَّها من جملة الأمور الداخلة تحت أحكام الشرع بخصوصها ، فلا تبديل لها ، ولو اختلفت فيها آراء المكلفين ، كما لو تعارف الناس على كشف العورات ، كما يقول الشاطبي ، أو الاختلاء المحرم أو غيره .

ومجال إعمال العرف ما يلي :

1) الحالات التي أحال الشارع فيها على العمل بالعرف .

ومن أمثلته : إحالة الشارع إلى العرف في مقادير الإنفاق ، كما سيأتي في إثبات حجية العرف إن شاء الله تعالى .

2) تفسير النصوص التي وردت في الشريعة مطلقة ، مما لا ضابط له فيها ولا في اللغة .

ومن أمثلته : تحديد ما يكون حرزاً في السرقة ؛ وما يكون به إحياء الموات .

قال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله : " كل اسم ليس له حدٌّ في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه إلى العرف " .

وقال السيوطي : " قال الفقهاء : كلّ ما ورد به الشرع مطلقاً ، ولا ضابط له فيه ، ولا في اللغة ، يرجع فيه إلى العرف " .

3) الأعراف التي تكون أسباباً لأحكام شرعية تترتب عليها ، أو بعبارة أخرى :

التي هي مناط لأحكام شرعيَّة ، مما لم تأمر به الشريعة على نحو معين ، ولم تنه عنه ، وتُلحظ فيه المصلحة تبعاً لذلك . وهذه لها صور ، منها :

- الأعراف التي تكشـف عن مرادات المكفين فيما يصدر منهم من أقوال وتصرفات ؛ ويدخل فيها صيغ العقود والفسوخ ، من بيوع و إجارات وإقرارات وأيمان ووصايا وشروط في عقود ، ومعاهدات ومواثيق دولية ، وغيرها .

- الأعراف التي تكشف عن العلل والحكم التي تترتّب عليها الأحكام الشرعية ، أو انتهائها . وسيأتي بيان لها إن شاء الله تعالى في مجالات السياسة الشرعية .

- الأعراف التي تكشف عن الصفات الشرعية ، أو صفات المحال التي تتعلق بها الأحكام ، كالكشف عن مالية المعقود عليه ، وما يعتبر عيباً في المبيع ، وما يتحقق به خيار الرؤية ؛ والكشف عما تتحقق به صفة الضرورة أو الحاجة ؛ والكشف عما أجمله الشارع من الجرائم الموجبة للتعزير كألفاظ الشتم من غيرها ، وما يقع به التعزير الرادع ، وغير ذلك .

هذا مجملٌ لمجالاتِ إعمالِ العرف شرعاً .

و ضابطه : " كل فعل رُتِّب عليه الحكم ، ولا ضابط له في الشرع ولا في اللغة ؛ كإحياء الموات ، والحرز في السرقة ، والأكل من بيت الصديق ، وما يعد قبضاً ، وإيداعاً ، وإعطاء ، وهدية ، وغصباً ، والمعروف في المعاشرة ، وانتفاع المستأجر بما جرت به العادة ، وأمثال هذه كثيرة لا تنحصر " .

شروط اعتبار العرف :

نص العلماء على شروط لا بد منها في اعتبار العرف طريقا صحيحا للاستدلال ، وهي :

1) أن لا يخالف نصاً أو قاعدة شرعية .

2) أن يكون موجوداً عند إنشاء التصرف .

3) أن يكون مطرداً ، أي : مستمراً في جميع حوادثه ؛ أو غالباً، أي : في أكثرها ؛ والمراد : اطِّراد أو غلبة العوائد المتجددة في كل زمان وفي كل مكان .

4) أن لا يُصَرِّح المتعاقدان بخلافه إن كان ثمّ عقد .

حجية الأخذ بالعرف واعتباره .

استُدِلَّ لحجية العرف بأدلة كثيرة ، يكفي منها في إثبات اعتباره :


إحالة الآيات والأحاديث الأحكام المطلقة إليه لتحديدها به ، من مثل :


1) قول الله عز وجل : {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } [ البقرة233] ؛ إذ أرجع الله سبحانه وتعالى تقدير نفقة المرضع إلى العرف غنىً وفقراً .

2) وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهند بنت عتبة رضي الله عنها: (( خُذِي مَا يَكْفِيكِ َوَولَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ )) رواه الشيخان؛ حيث أحال في نفقة الزوج والولد إلى العرف .

ثم هو معتبر في الجملة في جميع المذاهب ؛ وهو معنى قول العلماء : إنَّ العادة محكمة .

فالعرف قاعدة تطبيقيّة مهمّة، يرجع إليها في تطبيق كثير من الأحكام العملية؛ فهو في واقع الأمر ليس دليلاً؛ بل الدليل مستنده الذي أحال إليه؛ فالعلماء عند اعتبارهم الأعراف وملاحظتها عند تطبيق الأحكام، يستندون إلى أصل شرعي ودليل معتبر؛ يؤكد ذلك أهم شروط اعتبار العرف، وهو: أن لا يخالف نصاً شرعياً.


ما يشترط فيمن يفتي باتباع العرف الحادث :

لا يسوغ الإفتاء على مقتضى العرف الحادث لكلّ أحد ؛ فقد نصَّ العلماء على شروط لابد من توفّرها ، في من يتصدَّى لذلك ، أهمها ما يلي :

1- أن يكون ممن له رأي ونظر صحيح ، ومعرفة بقواعد الشرع ، وأن يكون على علم بمدارك الفتاوى وشروطها واختلاف أحوالها ؛ وذلك حتى يُمَيِّز بين العرف الذي يجوز بناءُ الأحكام عليه وبين غيره ؛ فإنَّ المتقدمين شرطوا في المفتي :

الاجتهاد؛ وهذا مفقود في زماننا، فلا أقلَّ من أن يُشترط فيه معرفة المسائل بشروطها وقيودها التي كثيراً ما يُسقطونها ولا يصرِّحون بها اعتماداً على فهم المتفقه كما يقول ابن عابدين.

وقد عزى القرافي غلط كثير من الفقهاء المفتين ، إلى فقدان هذا الشرط منهم ؛ حيث قال: "فهذه قاعدة لابدَّ من ملاحظتها [يعني تغير الأحكام بتغير الأعراف]؛ وبالإحاطة بها يظهر لك غلط كثير من الفقهاء المفتين؛ فإنَّهم يُجرون المسطورات في كتب أئمتهم على أهل الأمصار في سائر الأعصار، وذلك خلاف الإجماع، وهم عصاة، آثمون عند الله تعالى، غير معذورين بالجهل؛ لدخولهم في الفتوى وليسوا أهلاً لها، ولا عالمين بمدارك الفتاوى وشروطها واختلاف أحوالها".

2- أن يكون عارفاً بوقائع أهل الزمان ، مدركاً أحوال أهله .

فلابد له من معرفة عرف زمانه ، وأحوال أهله ، والتخرّج في ذلك على أستاذ ماهر ؛ يقول ابن عابدين مبينا ذلك : " لو أنَّ الرجل حفظ جميع كتب أصحابنا لابد أن يتّلمذ للفتوى حتى يهتدى إليه ؛ لأنَّ كثيراً من المسائل يجاب عنه على عادات أهل الزمان فيما لا يخالف الشريعة .

والتحقيق أنَّ المفتي لابد له من ضرب اجتهاد ومعرفة بأحوال الناس " .

و هذه القاعدة من القواعد التي زادت أهميتها في هذا العصر ؛ حيث تَعَدُّدُ الأقاليم الإسلامية ، و تناثر الجاليات المسلمة في غيرها ؛ مما ينبغي معه تقييد الفتاوى بأعراف المستفتين زماناً ومكاناً وحالاً ؛ فقد تصل – مع انتشار وسائل الاتصال الحديثة - فتوى أهل بلد غير مقيدة به ، إلى غيره ممن لا تشملهم الفتوى ؛ فيُظنّ شمولها ؛ فيقع بذلك على من لا تشملهم الفتوى حرج ، أو توسع غير مشروع في حقهم ، كما قد يقع بذلك استغلال وتوظيف للفتاوى ، أو سُبَّة بها على أهل الإسلام ، من أهل الباطل المتربصين ، والله أعلم .