المبحث الرابع والعشرون
تطور الموقف العسكري والسياسي الإسرائيلي خلال الهدنة الثانية
أولاً: تطور الموقف العسكري الإسرائيلي
1. دعم القوة والكفاءة القتالية للقوات البرية الإسرائيلية

مثلما حدث خلال الهدنة الأولى استمر تدفق الأسلحة والدبابات والطائرات على إسرائيل نتيجة جهود حكومتها المبكرة في تدبير احتياجات قواتها المسلحة والتسهيلات التي حصلت عليها تلك الحكومة في تشيكوسلوفاكيا، كما استمر تدفق الأموال والمهاجرين والمرتزقة نتيجة لعمليات التجنيد والجباية المكثفة والمبكرة في أوساط اليهود في كل أنحاء العالم وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، بالإضافة إلى غض حكومات الدول العظمى الطرف عن عمليات التهريب إلى إسرائيل.

وكان أبرز ما وصل إلى الدولة اليهودية من الأسلحة البرية خلال الهدنة الثانية هي صفقتي الدبابات الفرنسية من نوع "هوتشكس" المصممة لمعاونة المشاة، والدبابات الأمريكية الثقيلة من نوع "شيرمان"، إلا أن إعداد الأخيرة للقتال احتاج بعض الوقت. كما وصل في نفس الفترة 82 مدفعاً إضافياً عيار 75 مم و 27 مدفعاً آخراً عيار 20 مم وما يزيد على ثلاثة آلاف مدفعاً رشاشاً متوسطاً و 450 مدفعاً رشاشاً ثقيلاً، بالإضافة إلى أكثر من عشر آلاف بندقية.

وقد سمح تدفق الأسلحة والمهاجرين خلال الهدنة الثانية والشهور التي سبقتها بزيادة حجم القوات الإسرائيلية وكفاءتها القتالية إلى الحد الذي جعل المخابرات المركزية الأمريكية تشير في أحد تقاريرها بتاريخ 27 يوليه 1948 ـ أي بعد تسعة أيام من بداية الهدنة الثانية ـ إلى أن القوات اليهودية أصبحت تتفوق على القوات العربية في فلسطين أو قربها بنسبة 2 : 1 وأن ما نجم عن الهدنة هو تحسين القدرات العسكرية لليهود الذين هم أقوياء بما فيه الكفاية للقيام بهجوم شامل وطرد القوات العربية خارج فلسطين، وهو تقدير يتوافق مع تقدير الجنرال جلوب لكل من القوات العربية والإسرائيلية، حيث قدر إجمالي القوات العربية في أول أكتوبر 1948 ـ قبل أسبوعين من نهاية الهدنة الثانية ـ بنحو خمسة وخمسين ألف وسبعمائة فرد (منهم 15 ألف مصرياً) والقوات الإسرائيلية بنحو 120 ألف فرد.

وقد سمحت الأعداد السابقة باستمرار التفوق العددي والنوعي للقوات الإسرائيلية على القوات العربية في فلسطين وقريباً منها، كما سمحت لرئاسة الأركان الإسرائيلية بدعم تشكيلاتها وحشد ما يقرب من ستة لواءات أمام الجبهة المصرية خلال العملية "يوآف" هي لواءات "هارئيل" و"جعفاتي" و"يفتاح" و"النقب" واللواء الثامن المدرع، بالإضافة إلى اللواء التاسع (اللواء عوديد).

2. دعم القوة الجوية الإسرائيلية وتطويرها
نتيجة للقصور الذي ظهر في أداء السلاح الجوي الإسرائيلي خلال فترة القتال الثانية، وصل إلى إسرائيل في الثالث والعشرين من يوليه الكولونيل (عقيد) "سيسل مارجو" المستشار الجوي الذي طلبه "بن جوريون" من جنوب إفريقيا، وفور دراسته لأوضاع السلاح الجوي الإسرائيلي قدم ذلك المستشار لبن جوريون – بصفته وزيراً للدفاع – تقريراً أوضح فيه أوجه القصور الذي يعاني منها ذلك السلاح، التي كان أبرزها غياب تنظيم واضح للسلاح الجوي الإسرائيلي وضعف الصلاحية الفنية لطائراته، فضلاً عن ضعف الانضباط العسكري بين أفراده والاستخدام الخاطئ لإمكاناته.

ولعلاج أوجه القصور السابقة، قدم "سيسل مارجو" عدة توصيات كان أبرزها:
أ. تطوير القوة القتالية للسلاح الجوي الإسرائيلي لتشمل:

(1) ثلاثة أسراب مقاتلة كل منها مزود بخمسة وعشرين طائرة (15 طائرة خط أول، عشر طائرات احتياطية).
(2) سرب قاذفات متوسطة مزود بثماني عشرة طائرة.
(3) سرب قاذفات ثقيلة مزود بثماني طائرات.
(4) قيادة نقل مزودة بخمس عشرة طائرة من نوع "داكوتا" أو "دي. سي6"

ب. دعم القوة البشرية في السلاح الجوي للوصول بها إلى خمسة آلاف فرد وقت الحرب، تنخفض إلى ألف فرد وقت السلم.
ج. الاستغناء عن منصب رئيس أركان السلاح الجوي، اكتفاءً بمنصب قائده الذي يجب أن يكون في رتبة مماثلة لأعضاء هيئة الأركان العامة، وبرتبة أقل من رئيس هذه الهيئة.
د. فصل السلاح الجوي عن الجيش.
هـ. تحديد مهام السلاح الجوي طبقاً للأسبقيات التالية
(1) تدمير القوة الجوية المعادية.
(2) تقديم المعاونة الجوية للجيش والبحرية.
(3) إضعاف قدرة العدو عن الاستمرار فى القتال بتوجيه ضربات جوية حاسمة ضد أهدافه الإستراتيجية.
(4) تلبية مطالب النقل الجويداخل البلاد وخارجها.

و. تدريب الصابرا (مواليد إسرائيل) على كافة التخصصات القتالية والفنية الجوية داخل وخارج إسرائيل لتطوير ودعم السلاح الجوي بأسرع ما يمكن، والإحلال التدريجي لهم محل المتطوعين الأجانب.
وباستثناء فصل السلاح الجوي عن الجيش ـ الذي رأى "بن جوريون" ضرورة بحثه مع هيئة الأركان العامة ـ فقد وافق على التوصيات السابقة لمستشاره الجوي، وأصدر توجيهاته بتنفيذها. وخلال الشهور التالية أصبحت تلك التوصيات دليل العمل لتطوير السلاح الجوى، فعُين "أهارون ريمز" رئيس أركان ذلك السلاح قائداً له، كما تم إنشاء قيادة النقل الجوى، وعلى ضوء وصول أطقم الطيران والأطقم الفنية من المتطوعين الذين توافدوا على إسرائيل والطائرات التي تم التعاقد عليها تم تشكيل أسراب القتال الجديدة، وبإعادة افتتاح قاعدة عكير الجوية وعودة مكونات القاعدة الجوية الإسرائيلية من تشيكوسلوفاكيا في شهر أغسطس زادت طاقة الخدمات الفنية للسلاح الجوي الإسرائيلي خلال تلك المرحلة.

ومن بيانات المصادر الإسرائيلية والغربية المنشورة يمكن القول أن القوة الجوية الإسرائيلية كان يتوفر لها عشية العملية "يوآف" ما يزيد على مائة وثلاثة طائرة مشكلة في خمسة أسراب بالإضافة إلى الأسراب الثلاثة الأولى (أسراب النقب والجليل وتل أبيب). ومن هذه القوة فإنه توفر لها ما يزيد على 26 طائرة مقاتلة (مسر شميت، وسبيتفير، وموستانج)، و7 طائرات قاذفة (بي – 17، وبيوفيتر، وموسكيتو)، بالإضافة إلى أكثر من 16 طائرة نقل مجهزة لقذف القنابل (داكوتا، وكوماندو، ونورسمان)، و5 طائرات نقل ثقيلة ومتوسطة (كونستليسن، وسكاي ماستر، ولودستار)، فضلاً عن 49 طائرة نقل ومواصلات خفيفة استخدم بعضها في قذف القنابل ضمن الأسراب الثلاثة الأولى.

وقد تمركزت القوة السابقة في أربع قواعد رئيسية هي قاعدة "رامات دافيد" التي خُصصت للقاذفات وبعض رفوف النقل المجهزة لقذف القنابل، وقاعدة هرتسليا التي خُصصت أساساً للمقاتلات، وقاعدة "تل نوف" (عكير) التي خُصصت لطائرات النقل الثقيل وبعض رفوف النقل المجهزة لقذف القنابل، بالإضافة إلى مطار "سدى دوف" وأرض هبوط دوروت وبعض أراضي الهبوط الأخرى التي خُصصت لأسراب النقل والمواصلات الخفيفة.

وقد ساعد على تشكيل الأسراب السابقة الدعم الذي طرأ على القوة البشرية في السلاح الجوي الإسرائيلي، حيث بلغت جهود تجنيد المتطوعين والمرتزقة لذلك السلاح ذروتها خلال الهدنة الثانية. وطبقاً لما أشار إليه المرجع الرسمي للقوة الجوية الإسرائيلية، فقد "بلغ عدد الأجانب الذين تطوعوا للعمل في سلاح الجو الإسرائيلي 660 شخصاً" وتتفق رواية الأخوان "كِمش" مع المرجع الرسمي للقوة الجوية الإسرائيلية في خطها العام مع بعض الاختلاف في التفاصيل. فقد حدد الأخوان كِمش عدد المتطوعين الأجانب في سلاح الجو الإسرائيلي ـ طبقاً للتقرير الختامي للحرب ـ بسبعمائة فرد كان منه مائة وستة وخمسون طياراً، أما الباقي فقد عملوا في الأطقم الأرضية وكأخصائيين في الإصلاح والصيانة.

وطبقاً لرواية "بن جوريون" فقد وصل عدد الأفراد في القوة الجوية الإسرائيلية إلى 4377 فرداً خلال شهر أكتوبر 1948.

3. دعم القوة البحرية الإسرائيلية وتطويرها
على التوازي مع دعم وتطوير السلاح الجوي ُدعم السلاح البحري الإسرائيلي حتى وصلت قوته في نهاية الهدنة الثانية إلى 16 قطعة بحرية تبلغ حمولتها الإجمالية نحو سبعة آلاف طن، مشكلة من أربعة أنواع على النحو التالي:
أ. أربع سفن قتال، منها اثنتان سلحت كل منها بمدفع عيار 75 مليمتراً، وآخر عيار 65 مم، بالإضافة إلى مدفعين عيار 20 مم وأربعة رشاشات ثقيلة، بينما سُلحت الأخريان بمدافع عيار 20 مم فقط.
ب. ثلاث سفن خدمة عامة، سُلحت إحداها بمدفع عيار 75 مم ومدفعين عيار 20 مم، واستخدمت لأغراض التدريب.
ج. ثلاث سفن إبرار.
د. سبع سفن صغيرة لأغراض الاستطلاع والدوريات.

ثانياً: التحضيرات السياسية والعسكرية الإسرائيلية لاستئناف القتال
في الوقت الذي كان العرب فيه يتناحرون حول فراء الدب قبل اصطياده، كان الإسرائيليون يضعون اللمسات الأخيرة في خطتهم للاستحواذ على ذلك الدب، حتى يقطعوا الطريق نهائياً على العرب من ناحية، ويضعوا الأمم المتحدة أمام أمر واقع جديد من ناحية أخرى.

فمنذ بداية الهدنة الثانية والحكومة الإسرائيلية ترى أن وقف القتال دون حل سياسي أو حسم عسكري ليس في صالح إسرائيل بعد أن تم تدعيم موقفها العسكري. وقد عبَّر بن جوريون عن تلك الرؤية في اجتماع مجلس الوزراء المؤقت في الأول من أغسطس بقوله:

"إذا استمر الوضع الحالي على ما هو عليه لفترة طويلة فإن موقفنا الدولي سيضعف، وقد تنقص قوتنا العسكرية وتضار قوتنا الاقتصادية، وليس هناك من سبب يدعونا لقبول هدنة غير محدودة.

وأكد بن جوريون في نفس الاجتماع على "أن مصر هي أشد أعدائنا خطراً في الوقت الحاضر وإذا أمكننا حشد قوات أرضية (برية) كافية وإذا استخدمنا قواتنا الجوية، فإننا نستطيع أن ندمر قوات الغزو المصرية ونحرر النقب …

"… إن فرصتنا طيبة، وإن مقارنة قواتنا واستعدادها بقوات العرب واستعدادهم توضح أننا نستطيع أن نقصم ظهر المصريين، ونفتح ممراً إلى القدس، وهذا من شأنه أن يحسن موقفنا بصورة فعالة، بعدئذ سنكون قادرين على إنقاص حجم الجيش، وبذا نكون قد خلقنا موقفاً جديداً في نظر العالم".

وفي اليوم التالي (2 أغسطس) أعطى بن جوريون توجيهاته ـ بصفته وزيراً للدفاع ـ إلى "إيجال يادين" رئيس هيئة العمليات بالتخطيط لسلسلة من العمليات ضد الجبهة المصرية.

وبعد مقتل الكونت "برنادوت" وتدهور الموقف السياسي الإسرائيلي في الأمم المتحدة، شرح بن جوريون أمام مجلس الدولة المؤقت سياسته للمرحلة التالية من الحرب، موضحاً أنه يرى ضرورة المزج بين العمل السياسي والعمل العسكري لتحقيق أهداف إسرائيل، لأن أياً منهما لن يكون حاسماً وحده، "فمن الفترة الحاضرة يعتبر موقفنا العسكري أقوى من موقفنا السياسي، لأن الدول الكبرى لا تساندنا جميعاً. لذا فإنه يبدو لي أننا لا نستطيع أن نعتمد فقط على النضال السياسي، وفي نفس الوقت لن يكون النضال العسكري حاسماً في حد ذاته حتى وإن تطور لفائدتنا".

وقد شجع بن جوريون على الاتجاه إلى العمل العسكري لتعويض ضعف موقف إسرائيل السياسي، ما كان يراه من عدم استعداد القوى العظمى لاستخدام القوة حقيقة لتنفيذ قرارات الأمم المتحدة، أو تنفيذ العقوبات التي تهدد بها ضد إسرائيل. وقد نمى تلك القناعة لدى بن جوريون تصريحات المندوب السوفيتي في مجلس الأمن والتي تشير إلى عدم النظر جدياً في تطبيق عقوبات على إسرائيل، والتي كان يعتبرها في حالة دفاع عن النفس، بالإضافة إلى موقف الرئيس "ترومان" الذي كان يقطع الطريق دائماً على وزارة خارجيته كلما حاولت اتخاذ موقف أقل انحيازاً لإسرائيل، خاصة وقد كانت حملة انتخابات الرئاسة الأمريكية في ذروتها في ذلك الوقت.

ولم يكن انحياز الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية لموقف إسرائيل هو العامل الوحيد في تشجيع بن جوريون على استئناف القتال، فقد كان الأخير يتوقع أن "من غير المحتمل أن تتخذ الأمم المتحدة قراراً يتفق مع مطالبنا فيما يتعلق بالجليل والطريق إلى القدس ومدينة القدس والنقب … إن نفوذنا على المسرح الدولي غير كاف، وما لم نتخذ، نحن أنفسنا، التدابير لإجراء التعديلات الإقليمية الضرورية، أو التعديلات الحيوية على الأقل، فإنها لن تجري أبداً، ولن ندرك ما نريده في النقب، وعلى طريق القدس وفي الجليل من خلال النضال السياسي وحده".

وفي الوقت الذي كان فيه بن جوريون يمهد المسرح السياسي داخل إسرائيل لاستئناف القتال، كانت رئاسة الأركان الإسرائيلية تمهد المسرح العسكري بسلسلة من التحضيرات وأعمال الحشد والعمليات التي تلقى "يادين" توجيهات بن جوريون بشأنها في الثاني من أغسطس. فمنذ أواخر ذلك الشهر وخلال شهر سبتمبر والأسبوع الأول من أكتوبر مهدت إسرائيل لعملياتها المنتظرة على الجبهة المصرية باحتلال سلسلة من القرى والمواقع والتباب الهامة في مواجهة الجبهة المصرية.

ولما كانت المستوطنات الإسرائيلية في النقب قد تم عزلها بوساطة القوات المصرية خلال فترة القتال الثانية، ولم تسمح القيادة المصرية بمرور أية إمدادات بالأسلحة والذخائر أو القوى البشرية إلى المستوطنات المعزولة، فقد أصبح الطريق الوحيد لإمداد تلك المستوطنات هو الإمداد الجوي[1]، بعد أن فشلت أغلب الجهود البرية للتسلل عبر الدفاعات المصرية[2]، وتوقف النشاط الجوي المصري التعرضي خلال الهدنة، اكتفاءً بطلعات الاستطلاع الجوي لمتابعة الموقف على الجبهة.

إلا أنه مع ازدياد نشاط النقل الجوي الإسرائيلي إلى مستوطنات النقب بدأت طائرات سلاح الجوي الملكي المصري في التدخل ضد أعمال النقل الجوي نهاراً[3]. الأمر الذي قصر ذلك النشاط على فترة الليل، وهو ما كان يقلق القيادة الإسرائيلية، نظراً لحاجة مستوطنات النقب لمزيد من القوة البشرية، على حد قول رئيس الوزراء الإسرائيلي.

ولما كان بن جوريون قد اتفق مع رئاسة الأركان العامة على ضرورة القيام بسلسلة من العمليات ضد الجبهة المصرية، فقد كان من الضروري القيام بعملية نقل جوية لإعداد مستوطنات النقب وحشد القوات والأسلحة والعتاد فيها تمهيداً للعمليات المنتظرة، وهو ما أطلق عليه العملية "آفاك". وعلى ذلك تم استطلاع وتجهيز أرض هبوط ملائمة لطائرات النقل الكبيرة مثل "الكوماندو" و"الداكوتا" و"الكونستليشن" في منطقتي "روحاما" و"شوفال". وطبقاً لرواية "كاجان"، فقد استقبلت الأركان العامة الأنباء التي تنتظرها صباح الثاني والعشرين من أغسطس، وهو أن الممر البالغ طوله 4100 قدم قد أصبح جاهزاً للعمل، وبدأت تهبط فيه طائرات "الكوماندو" ناقلة ثلاثين طناً من المعدات، وفي اليوم التالي وصلت أوزان الحمولات المنقولة ما مجموعه خمسة وسبعون طناً.

وفي ظل فشل المصريين في القيام بعمل مضاد[4]، كانت عملية النقل الجوي تسير بأقصى طاقاتها، وتمكنت طائرات النقل خلال ثلاث أسابيع من إتمام مائة وسبعين طلعة طائرة حاملة ألف طن من المعدات وسبعمائة جندي.

ونظراً لحاجة الطائرات إلى الصيانة فقد تم تهدئة معدل عملية النقل اعتباراً من العاشر من سبتمبر بينما كان يجري إعداد ممر ثان لهبوط وإقلاع الطائرات، وفي العاشر من أكتوبر، عادت عملية النقل مرة أخرى بأقصى طاقاتها، وحتى يوم عشرين من نفس الشهر كان عدد طلعات النقل لعملية"آفاك" قد وصل إلى 417 طلعة، نُقل بواسطتها 2225 طن من المعدات وألفا فرد من وإلى النقب.

وقد استخدم في العملية ست طائرات من نوع "كوماندو" وخمس من نوع "داكوتا"، وست من نوع "نورسمن". وطبقاً لرواية "كاجان"، فإن هذه العملية قد أنقذت النقب، فقد تم خلالها غيار لواء "النقب" المجهد من القتال والحصار طوال الشهور السابقة باللواء "يفتاح"، فضلاً عن تزويد المستوطنات المحاصرة باحتياجاتها من العتاد والأسلحة والمؤن استعداداً للعمليات التالية.

وإزاء انتهاكات إسرائيل لشروط الهدنة الثانية بتغييرها الموقف العسكري في منطقة النقب كتب "رالف بانش" ـ الذي خلف "برنادوت" ـ في تقاريره إلى الأمم المتحدة خلال تلك الفترة أن إسرائيل رفضت السماح لمراقبي الأمم المتحدة بالإشراف على القوافل البرية أو تحركات النقل الجوي إلى مستعمراتها في النقب، وأرسلت قوافلها وطائراتها إلى تلك المستعمرات بما يناقض شروط الهدنة، كما رفضت السماح لمراقبي الأمم المتحدة بدخول أي مطار إسرائيلي.

إلا أن القيادة الإسرائيلية ـ التي كانت مطمئنة إلى موقف القوى العظمى تجاهها ـ لم تعبأ بمراقبي الأمم المتحدة، وراحت تحشد أمام الجبهة المصرية خمسة لواءات هي: اللواء "جعفاتي" الذي كان يحتل موقعه منذ البداية شمال المحور العرضي لتلك الجبهة واللواء "هارئيل" الذي احتل موقعه غرب وشمال الجناح الشرقي لنفس الجبهة، واللواء "يفتاح" الذي حل محل لواء "النقب" في منطقة المستعمرات المحاصرة بواسطة الجسر الجوي خلال العملية "آفاك"، ولواء "النقب" الذي تم سحبه خلال نفس العملية لإعطائه فترة من الراحة وإعادة تنظيمه ودعمه بعد ما تعرض له من خسائر خلال فترة الحصار والمعارك السابقة في النقب، ثم اللواء الثامن المدرع الذي تم دفعه لدعم لواءات المشاة السابقة[5].

وبعد أن أتمت رئاسة الأركان الإسرائيلية تحضيراتها، لم يبق إلا اتخاذ القرار السياسي لاستئناف القتال، واختيار الوقت الملائم لذلك، مع إعداد الذريعة المناسبة، وكان بن جوريون مدركاً أن أنسب وقت للعمل العسكري هو النصف الأخير من أكتوبر ـ قبل الانتخابات الأمريكية التي كانت ستجري في أوائل نوفمبر ـ حيث يكون تنافس المرشحين لتأييد إسرائيل في ذروته ورد الفعل المعادي لها في أدنى درجاته.

ومن ثم اتجه رئيس الوزراء الإسرائيلي ـ بعد موافقة مجلس الدولة المؤقت على سياسته– إلى اتخاذ الخطوات التنفيذية لتلك السياسة. حيث اجتمع بالوزراء من أعضاء حزبه لمناقشة قرار استئناف القتال قبل عرضه على مجلس الوزراء المؤقت في السادس من أكتوبر. كما اتجه إلى مقر قيادة الجبهة الجنوبية ليستمع ـ بصفته وزير الدفاع ـ إلى تقدير الموقف العسكري لتلك القيادة، قبل اتخاذ قرار استئناف القتال في اجتماع مجلس الوزراء المشار إليه.

وخلال اجتماعات بن جوريون مع القادة العسكريين تخوف بعض هؤلاء القادة من نشاط وتدخل الجبهات العربية الأخرى عند الهجوم على الجبهة المصرية، خاصة وقد كان هناك اتجاه إلى سحب بعض القوات الإسرائيلية من أمام هذه الجبهات لحشد القوة المتفوقة المطلوبة للهجوم على الجبهة المصرية، إلا أن بن جوريون نجح في إشاعة الطمأنينة في نفوس المتخوفين بطمأنتهم علىعدم تدخل الجيوش العربية الأخرى نظراً لأن العلاقة كانت متدهورة آنذاك بين مصر وشرق الأردن.

وعندما اجتمعت الوزارة الإسرائيلية في السادس من أكتوبر لبحث اقتراح بن جوريون بشأن فتح الطريق إلى مستوطنات النقب بالقوة، استعرض رئيس الوزراء الإسرائيلي الموقف. وأكد على أنه "لو ظل القتال مقصوراً على الجنوب ـ يعني لو أن العراقيين والسوريين والأردنيين لم يتدخلوا في القتال ـ فلسوف نتمكن من السيطرة على النقب بأكمله حتى البحر الميت ثم جنوباً حتى البحر الأحمر.

"وقد نتمكن أيضاً من الاستيلاء على الخليل وبيت لحم إذا لم تنزل قوات عربية من الشمال".

وقد سلم بن جوريون خلال اجتماع في مجلس الوزراء بأن تجدد القتال قد يكون داعية لقذف تل أبيب بالقنابل، إلا أنه أكد لوزرائه أن الموقف الإسرائيلي في الجو "أفضل كثيراً مما كان عليه من قبل، فنستطيع أن نلحق أضراراً بالقاهرة أكبر مما يستطيع المصريون أن ينزلوا بتل أبيب".

وفي نهاية الاجتماع أيد المجلس استئناف القتال بأغلبية الأصوات. وفي اجتماع العاشر من أكتوبر أعلن بن جوريون لوزرائه أن جميع التجهيزات تجري لبدء العمليات بعد عيد الغفران مباشرة، إلا أن الموعد تعدل ليكون مساء الخامس عشر من أكتوبر.


***************************************
[1] سمحت القيادة المصرية في فلسطين بإمداد تلك المستعمرات خلال الهدنة بإمدادات الإعاشة فقط، كالأغذية والأدوية والملابس، بشرط أن يتم ذلك تحت إشراف مراقبي الأمم المتحدة.
[2] خلال بحث الموقف في النقب في أوائل أغسطس، سأل بن جوريون قائد الجبهة الجنوبية عما إذا كان باستطاعته فتح الطريق لقوافل إمداد مستعمرات النقب، فأجاب آلون أن هناك فرصة لذلك إلا أنه لا يستطيع الاحتفاظ بالممر الذي سينشأ أكثر من 10 ـ 15 ساعة، لأن المصريين سيعاودون الهجوم، وفي الوضع الراهن فإنهم قادرون على إغلاق الفجوة بعد فترة قصيرة.
[3] لم يكن السلاح الجوي المصري يملك أية مقاتلات ليلية.
[4] نتيجة لعدم وجود مقاتلات ليلية، وعدم رغبة الحكومة المصرية في انتهاك الهدنة بعمليات هجومية ضد المطارات التي تتمركز بها طائرات النقل نهاراً.
[5] عندما تأكدت القيادة الإسرائيلية من سكون الجبهات العربية الأخرى عندما بدأت هجومها على الجبهة المصرية يوم 15 أكتوبر فإنها سحبت اللواء عوديد من الجبهة الشمالية ودفعته هو الآخر لدعم قواتها السابقة على الجبهة المصرية.