في ظلال رمضان..
(22) رسائل السماء Ocia1630
(22) رسائل السماء

ذَكَرَ اللهُ تعالى نزول القرآن العظيم في رمضان موطئاً للأمر بصيامه: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، أجمع الكتب وخيرها وأعلاها.. مكانته في اللوح المحفوظ: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف: 4]، وفي السماء: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79].

وفي الأرض محفوظ من التبديل والتحريف، فلم يبدل منه حرف: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، وذكر تعالى ليلة نزوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [الدخان: 3-5] فذكر تعالى أن فيها نزول القرآن وفيها فرق الأمور وتقديرها الى عام قابل.
 
القرآن هو رسائل السماء الى الأرض، خطاب الله تعالى الى العبيد، وهذا نبأ عظيم وحدث ضخم وأمر جلل في التاريخ البشري: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ * مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [ص: 67-69]..

حدثنا الله تعالى فيها عن نفسه وعن أسمائه وصفاته وأفعاله وحقوقه، عن رضاه وسخطه، وعن بعض ما يحدث في الملأ الأعلى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 23]..

حدثنا الله فيها عن مبدأ الإنسان ومصيره وما يراد منه، وعن قدر الله فيه وتعامله معه، وعن مكانة هذا المخلوق ووظيفته.
 
تفضل الله تعالى فتناول تفصيل حياة العبد وذكر أحكامه اليه في شأنه الفردي والعام وكافة علاقاته، بربه ونفسه وخلق الله، مؤمنين وكافرين، أولياء وأعداء، أرحام وأباعد، فذكر حكمه تعالى وتكليفه للعبد لتستقيم حياته حياة أمته..

كتابا تقرأه نائما ويقظانا لا يغسله الماء، ترتله بين يدي ربك وتنصب شيئا لهذا الترتيل، لثقل هذا الكتاب في السماوات والأرض، فلو نزل على جبل: {لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر: 21].
 
تعرف فطرتك خطاب الله تعالى، لا تخطئه بصيرة ولا فطرة نظيفة تسمعه تقول: أعرفه.. إنه كلام ربي، يخاطبك فينفذ الى أعماقك ويكشفك أمام نفسك ويحنو عليك ويأخذ بيديك، يأخذك برفق ويدعوك الى المعالي، يشغلك بقضايا السماء ويعرفك خطوها وكيف تسير الأحداث على الأرض، وأن وراءها حكمة ورحمة ونصفه الحق ودمغه الباطل.. يرفع اهتمامك ويسمو بشخصيتك ويخرجك إخراجا جديدا ويعيد صياغة نفسك ويعيد ترتيب حياتك وفقا لمنهج رب العالمين..

يحدثك عن السابقين ويلحقك بالصالحين وتعايش المتقين وتصحب الأنبياء.
 
تأمن في كنفه؛ فعلى الطريق سار قبلك خيّرون، فانظر الى عاقبتهم هنا: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47] وانظر الى عاقبتهم هناك: {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس: 26-27]..

تعرف ماذا يقول المقربون من الملائكة، حملة العرش والكروبيون، وما يفعلون من شغل دائم، تعرف عن الغابرين، وعن مصير الحياة والأحياء وعن الدار المنتظرة لكلٍ، محسن ومسيء.
 
يأخذ بك للقرب من ربك، وأنت على يقين بأن ما شرع لك فيه حقا يرضي ربك، فتقرب من ربك على بينة: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} [الأنعام: 57]، وإذا بك تشعر بالقرب وتذوقه وتراه، فيأخذ من ذلك العالم الفاني الى حياة خاصة جداً وغايات سامية وقضايا كبيرة وأهداف رائعة، فتسعد وأنت تخوض معاركه وتهتم بصراعاته وقضاياه..

يرسم لك حياة من جديد ويوضح لك معالمها..

جاء القرآن ونزل ليعيد إخراجك وإخراج الأمَّة..

يبني خطابه على حق الله الخالص بالتوحيد وتلقي الشرائع وقبول المنهج، ثم يشرع يبين لك تفاصيل المنهج، من باب الرحمة والمنة: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176]، يعني لئلا تضلوا، أو كراهة أن تضلوا: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} [آل عمران: 164]..

إنه النبأ العظيم والحدث الضخم والأمر الفارق والجلل..

أخبِرني، بل أخبر نفسك وأخبر ربك..

كيف استقبلت هذا النبأ العظيم وتلك الرحمة السابغة وتلك المنة الفريدة؟

فرحت بها أم ضاقت بها نفس ظالمة؟..: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ} [ص: 67]..