الفصل الرابع 436
النيل: حياة نهر
الفصل الرابع

إذا لم نَتَقيَّد بحَرْفيَّة مَثَلٍ نَطَقَ به عالِمٌ عربيٌّ قديمٌ أمكننا أن نذهب معه إلى أن النيل يَجرِي أربعة أشهرٍ من الصحراء (الغاب البِكر والجبال والمناقع)، ويجري شهرين من بلد الزنوج وشهرًا واحدًا من دار الإسلام.

والمثلُ العربي يقول: «ضحك الرحمن حينما صَنَعَ السودان»، ونسأل في أنفسنا عن قِسْم السودان الذي ضَحِكَ من أجله؛ وذلك لأن السودان عالَمٌ قائمٌ بنفسه يشتمل على نواحٍ كئيبةٍ وأخرى زاهرةٍ، والسودانُ يمتدُّ من الغابة الاستوائية إلى الصحراء ومن خلال أفريقية الشمالية الشرقية، والسودانُ يَعدِل فرنسة خمسَ مراتٍ مساحةً، ويشتمل على ستة ملايين من الآدميين، وللنيل والمطر في السودان طابعٌ مختلفٌ أشدَّ الاختلاف، وفي الجَنوب يرتفع السودان ألفَ متر، ثم يهبط رويدًا رويدًا ليغدو بلدَ تلالٍ وسهلٍ خلا منطقة دارفور البركانية.

وتحفُّ الجبال حول السودان من الجنوب والشرق وجزءٍ من الغرب، ويرتفع السودان نحو الشرق؛ أي نحو الحبشة، ويخضع لحكم الأمطار في أدوارٍ مختلفة على حسب الارتفاع؛ ولذا لا تجد في السودان أية مطابقةٍ في الحيوان والنبات والإنسان.

وينزل من الماء مترٌ في منطقة المناقع سنويًّا، وينزل من الماء مترٌ ونصف مترٍ في الخرطوم سنويًّا، ولا ينزل ماءٌ فيما بين الدرجة الثامنةَ عشرةَ من العرض الشمالي والقاهرة؛ أي بعد بَربَرَ تقريبًا، وفي جَنُوب دائرة السرطان، وعلى عرض الخرطوم، حيث سَمتُ الشمس يَقِف الرياحَ الموسمية وحيث الهواءُ الصاعد يبرِّد الأحرَّ، ينزل المطر بين يونيو وأغسطس لتقدُّم ذلك السمت وتأخُّره إلى أقصى حدٍّ في تلك الأثناء.

وتلك هي أمطار صيفٍ خفيفة تُنبِت الكلأ والطَّرْفاء والعُلَّيق والسَّنْط، وفي الجنوب؛ أي على مسافةٍ كثيرةِ البعد من دائرة السَّرَطان، يكون للأمطار موسمان غير منفصلٍ أحدُهما عن الآخر انفصالًا بَيِّنًا، ويكون الجفاف تامًّا بين مايو وأغسطس، وفي شهر سبتمبر تُجَفِّف الشمس ما في الأرض من بللٍ فيُخَيَّل إلى الإنسان أنه في حَمَّام تركية.

وليست بلاد النوبة غيرَ جزءٍ من السودان يمتدُّ من الخرطوم إلى أسوان تقريبًا، وتمتدُّ نوبية العليا التابعة للسودان حتى وادي حلفا، والدولُ الأوروبية هي التي عيَّنَت الحدَّ الغربيَّ لاشتمال الصحراء على جميع القارَّة من هذه الجهة، وتستر الرياحُ والرمال ما غُرِز من الأوتاد على مسافاتٍ طويلة فصلًا للأملاك الإنكليزية عن الأملاك الفرنسية في عالم الصحراء الواحد.

وكان المصريون يُطلِقون هم والتوارةُ على البقعة الواقعة فوق وادي حلفا اسمَ كوش، وكان الرومان يطلقون عليها اسم إثيوبية، واليومَ لا نعرف من نواحيها غير كردفان التي تصدر الذهب والمطاط منذ زمن طويل. والعالم يعرف أيضًا أن شمال السودان ظلَّ نصرانيًّا قرونًا كثيرة فأسلم في القرن الرابعَ عشرَ، وأن الساميين والحاميين المطعَّمين بدمٍ زنجيٍّ يَقطنون في الشمال، وأن الزنوج المطعمين بدمٍ حاميٍّ يقطنون في الجنوب، وحافظت بلاد النوبة —وهي المنطقة التي نُسمِّي بها قسمَ السودان الواقعَ في شمال الخرطوم— على عاداتها أحسنَ من محافظة مصر التي غَمَرَها الأجانب، ولم تَنفذ حضارة الشمال فيها إلا في أقدم الأزمان وفي العصر الحاضر، وعانت بلاد النوبة في تلك الفترة سلطانَ العرب الذين أتوا من الشمال ومن البحر الأحمر والذين اكتشفوا زِنجبار قبل الأوروبيين بعدة قرون.

وعَيَّن النيل تطورَ تلك البقعة التاريخيَّ؛ لأنه غير صالحٍ للملاحة صلاحًا دائمًا، وينقطع عمل حضارة البحر المتوسط في أسوان عند الشَّلَّال الأول.

وقد حاولت جميع السلطات المتمدنة أن تجاوز المساقط مولِّية وجوهها شطر منابع النيل في قوارب على طول ضِفافه، وذلك بقوة الحراب وضَربِ السِّيَاط وبين أنين أبناء البلاد الذين عبَّدَهم الفاتح من عهد الفراعنة إلى عهد محمد علي.

ولم يَسْطِع أحدٌ قبل مائة سنة أن يوحِّد هذا البلدَ الكبير، وهذا التوحيد من صنع عصرنا، ويمكن أن يُقضَى عليه قبل أن يوطَّد أمره ويُحقَّق تحقيقًا تامًّا. ولم يبقَ غيرُ آثار وضيعةٍ مما صَنَعَه رجال القرون القديمة في النيل الأوسط، وقد قامت ممالك في داخل البلاد حيث فسَّحت الغاب للسهب مجالًا، وحيث لا يستطيع الملوك أن يَرقُبوا السهب أكثرَ مما تستطيعه الزرافة، فيشترك الملوك والزرائف كلاهما في السهوب إذن.

ومن هؤلاء الملوك مَنْ مَلَكَ ما بين النيل الأبيض والنيل الأزرق، ومنهم من مَلَكَ دارفور على النيل الأبيض، فكان كلٌّ منهم لا يَعرِف من أمر الآخرين إلا قليلًا، وكانوا يَختلِفون دينًا ولغةً فلا يَربِط بعضَهم ببعضٍ غير نهرٍ يتعذَّر عبوره، ويقيم الفونج مملكة في عصر سرفانتس١ وليونار دفنسي٢ فيحتفظون بقسمٍ من نوبية العليا ثلاثة قرون، ويذكرهم التاريخ لِمَا كان من اشتمال بلاطهم على علماء من بغدادَ وبلادِ العرب، ومن المحتمل أن تتناول الأسطورة أمرَ ذلك الملك العمليِّ الظريف الذي شاد ثلاثًا وثلاثين غرفةً لنسوته الثلاث والثلاثين، والذي جلب إلى قصره مقدارًا كبيرًا من الجعة و٣٦٥ من المعز ثم انزوى فيه مستريحًا سنةً كاملة على ألا يدخل عليه وزيره سوى مرةٍ واحدة في كل يوم.

والحقُّ أن هذا الملك —الذي عاش في القرن الثامنَ عشرَ فكان لا يقوم بشئون الحكم غيرَ نصف ساعةٍ من أربعٍ وعشرين ساعةً— جعل شعبَه أسعد حالًا من أسلافه الفاتحين، وأُسقِط هؤلاء الملوك حوالي سنة ١٨٠٠م، ولم يَغِبْ وارثوهم اللاصقو النسب إلا سنة ١٩١٦م، وتعيش ذراريهم في سِنْغا الواقعة على النيل الأزرق بأكواخٍ حَسَنَة الترتيب تحت نخيلٍ، وهؤلاء الذين هم بقايا سلالةٍ لملوكٍ أقوياء يقدِّمون القهوة إليكم بوَقار.

ويصبح مخيمٌ بسيطٌ عاصمةَ السودان منذ قرنٍ، ويعرف أميرٌ مصريٌّ فاتحٌ أهميةَ هذا المكان الذي يلتقي النيلان عنده فيُسَمِّيه الخرطوم بسبب شكل الجزيرة الموجودة هنالك، وتقع الخرطوم على الخطِّ الذي يصل منبعَ النيل بمصَبِّه وبين النيل الأبيض ومصبِّ النيل الأزرق فتُعَدُّ مركزَ النهر، ويقف مكانُها نظرَنا حتى عند عدم قيامها عليه، وتمتدُّ الخرطوم من ضفة النيل الخصيبة إلى حدود السهب، وهي تصل الحدائق الاستوائية برمل الصحراء وفق خيال النهر الذي أبدعها، وبها تلتقي جميعُ الطرق التي تجمع في ذلك العرض بين البحرين المحيطين، وكان ألوفُ الحجاج والتجار —قبل إنشاء الجسرين بزمنٍ طويل— يعبرون هنا ضارعين راجين محاولين الإفلات من التَّبَع والالتجاءَ إلى الصحراء القريبة، ولو نَهَضَ جميع أشباح العبيد، ولو بُعِثَ من سيقوا من كردفان إلى البحر الأحمر فهلكوا في بلاد العرب المنيعة لدام عَرضُهم أسابيع كثيرة، ولو كدِّس الذهب الذي ربحه نخَّاسوهم لقام منه جبلٌ يسدُّ النيل فيؤدِّي إلى إغراق البلاد وإبطال الرِّقِّ، ولكن مع موتِ مصرَ عَطَشًا.

وفي المكان الذي يتعانق فيه النيلان عناق الأخوين، وبين شُعْبَتَي النيل الأزرق، تقوم جزيرة خصيبة وارفة٣ الظل ذاتَ نَخِيل، فتنبُت فيها الخُضَر والفواكه، وهنالك تدور الناعورة٤ بالقرب من الحِسْر حتى في أيامنا. وهنالك تَرَى الخطوطَ الحديدية والزوارق البخارية والطائراتِ التي هي آيات عصرنا.

وجزيرة توتي القريبة من الخرطوم هي أول أرضٍ واقعةٍ على النيل البيض يُخْصِبها غِرْيَن النيل الأزرق، وتَسقِي مئات النواعير نخلًا باسقاتٍ٥ وأشجار بَوْبابٍ عظيمات أيامًا وأعوامًا وقرونًا فتنتصب هذه النباتات في حدائقَ رائعةٍ لحكام وموظفين عالِين يمثِّلون إنكلترة في قصورهم وبيوتهم الحجرية المشتملة على وسائل الراحة، وهنالك مَرَاقٍ مُحكمة الدرجات تَهبِط من أولئك الكبار إلى اليونانيين والسوريين فإلى السودانيين الذين لا يبدو عليهم أنهم أصحاب البلاد مطلقًا.

وفي المكان الذي تنتهي فيه تلك البساتين، وبالقرب من ملتقى النيلين ومن الجسر الثاني تجد أطرَفَ حدائق حيوانات الدنيا المنسَّقة بذوقٍ كبير فلا تحتوي غير حيواناتٍ من السودان، وتَجُول الغزلان هنالك هادئةً غيرَ خائفةٍ وتُبدِي ظرفًا ودلالًا أمام الأسد الذي ينظر من وراء قضبانه مغمومًا إلى حيوانات الصيد الأسيرة هذه، ويُرَى بجانبها أبو مركوبٍ المضحك بمشيه، وتَمِيس الكراكي وتغتسل البلاشين، ويجوب جَمَلٌ عَصُوفٌ فوق العشب، ويَفغَر فمه الورديَّ بقرُ ماءٍ صغيرٌ خلف حاجزٍ خفيف، كما لو كان جميع ذلك صُوَرًا غير ضارةٍ عن الذي يطوف طليقًا خارج سِياج الحديقة، وكما لو كان ذلك عَرْضًا جميلًا بدلًا من حَرْب.

وعندما يصل مدير الحديقة المحب للإنسان والحيوان والمتخصص في أمور هؤلاء الأحياء يُهرَع إليه الجميعُ من كل جهةٍ، فيَنطَحه الغزال نطحًا خفيفًا في ظهره لِمَا يعلمه من امتلاء جيوبه بالطعام، ويتمرَّس٦ الفهد بقضبان قفصه كالهرِّ، والمرء إذا ما أنعم النظر في أفريقية المصغَّرة مع حيواناتها المؤنَّسة أو المحظَّرة،٧ سأل في نفسه عن ملايين الأهالي السبعة الذين يُدَرَّبون فينتقلون من دَوْرِ الحياة الفطرية إلى عُمَّال يشتغلون في حقول القطن مُيَاوَمَةً٨ ويجعل منهم معلمين وموظفي مصارفَ من غير أن يقول إنهم لا يزالون يَعدِلون حيواناتِ تلك الحديقة همجيةً.

وعلى الضفة اليسرى من النيل الأبيض تقوم مدينة أم دُرْمان الأهلية التي هي أكبر من مدينة الخرطوم البريطانية ثلاث مرات، وتُبنَى أم درمان منذ خمسين سنة على سيفٍ٩ خالٍ، فتبدو قلعةً بيضاء مواجِهةً لمدينة الخرطوم ذاتِ الآجُرِّ الأحمر، وهي مهدَّمة الأسوار الآن، ولكن جمهورَ السود يتهافت —عوضًا عن ذلك— على هذه المدينة التي هي من أكبر مدن أفريقية، وهل يظلُّ السود طُوَّعًا مع أنهم كانوا منذ نحو ثلاثين سنة يَشغَلون القَصْر الغُوطيَّ القائم على الضِّفة الأخرى؟

وفي تلك الواحة الزاخرة بالسكان تُشِعُّ الشمس بما لا تأتي مثلَه في سوى حقولِ الجليد، والنُّورُ يغمر طُرُقًا وشوارعَ تَعِجُّ بجمهور من الصنَّاع وأربابِ الحِرَف كالمنجِّدين الذين يَخِيطون وسائدَ من جلدٍ مختلف الألوان، ويُدخِلون مساميرَ لامعةً إلى السروج، وكالحدَّادين الذين يَكبِسون على مَرَازِب١٠ بين أصابعهم المسلوخة، وكالصُّوَّاغ الذين يُحِيطون بالفضة أكواعًا دقيقة رافعين ميزانًا يَزِنُون الرُّبِيَّات١١ به، وتتم تجارة الخيل والإبل والحمير في داخل المدينة وتُبَاع الزوارق والشُّرُع١٢ على ضِفَّة النهر، ويتسابق الإنسان والحيوان في الصُّرَاخ، وتُبْصِر عمائم وطرابيش، وذوائبَ١٣ أعرابٍ معتنًى بها ورءوسَ تجارٍ من المصريين محلوقةً، وتُبصِر شمَّامًا مستورًا بذُباب كالذي يُرَى على اللحم وفي أسواق الضأن المشابهة للشمام الضخم.

وتبصر أولادًا وقسَّانًا١٤ وأناسًا يَصِيحون وآخرين يَنْحِبون، وتبصر بائعي بُسُطٍ وأصحابَ مواخيرَ،١٥ وتُبْصِر شيوخًا ومشعوذين وموظفين وسائقين ومُكَارين،١٦ وتبصر زنوجًا شديدي السمرة مع ريشٍ كثير الألوان، وتبصر سوريين زيتيِّي اللون ويونانيين هِيفًا لابسين ثيابًا استعمارية، وتبصر كردفانيين طِوالًا مرتدين لباسًا أحمر حريريًّا، وتبصر فُرْسًا مربوعين حاملين فِراءً للبيع، وتبصر خِلاسيِّين١٧ ذوي شعورٍ مجعَّدة وحواجبَ حمرٍ وأنوفٍ قُنْوٍ كما لو كانوا من سلالة أميرٍ إسكندري قبل ألف سنة أو من أبناء شريفٍ إنكليزيٍّ معاصر، ويَزدَحم جميع هذا الجمع في شوارعَ ضيقةٍ بيضٍ بين صَخَبٍ مُصِمٍّ وروائح خبيثةٍ نَتِنَةٍ، ولا بدَّ لسائق التِّرَام من أن يكون ذا أعصابٍ حديدية حتى يستطيع أن يقود —وهو يَدُق الجرس، ومن غير حادثٍ— مركبتَه المثقلة بالركاب داخلًا وخارجًا.

وهنالك —حيث تُلقي الشمسُ أشعتَها على الأمواج من سماءٍ غير ذات سَحَاب— ترى شائبًا يَسِير ببطءٍ على الرَّصِيف متوكِّئًا على عصًا ومعتمدًا على صبيٍّ عارٍ، وهو يَسْمَع إخوانه، وهو يشعر بهم، غير أن الله نَزَعَ منه البصر، حَرَمَه النُّورَ، الذي هو أروع ما في أفريقية.

-------------------------------------------------------------
١  سرفانتس: كاتب إسباني مشهور (١٥٤٧–١٦١٦).
٢  ليونار دفنسي: من أشهر متفنِّني الطلاينة (١٤٥٢–١٥١٩).
٣  ورف الظل: امتدَّ واتَّسَع.
٤  الناعورة: آلة لرفع الماء قوامها دولاب كبير وقواديس مركبة على دائرة وتجمع على نواعير.
٥  بسقت النخلة: ارتفعت أغصانها وطالت فهي باسقة.
٦  تمرس بالشيء: احتكَّ به.
٧  حظر الحيوان: حبسه في الحظيرة، والتشديد للمبالغة.
٨  ياومه: عامله بالأيام.
٩  السيف: الساحل.
١٠  المرازب: جمع المرزبة، وهي العصية من حديد.
١١  الربية: نقد معروف.
١٢  الشرع: جمع الشراع، وهو معروف.
١٣  ذوائب: جمع ذؤابة، وهي شعر في مقدم الرأس.
١٤  قسان: جمع القسيس.
١٥  المواخير: جمع الماخور، وهو بيت الريبة والدعارة.
١٦  المكاري: مكري الدواب.
١٧  الخلاسي: الولد من أبوين أبيض وأسود.