الفصل الرابع عشر Ocia1580
النيل: حياة نهر
الفصل الرابع عشر

لم تكد عاداتُ زنوج النيل تتغيَّر مع الاتصال بالبيض والأحباش، وبتلك العاداتِ نَنْفُذُ في غابة المشاعر البشرية البكر، ومن غير استبعادٍ لتناقضها باسم الأخلاق نرى هذا التناقضَ هو من تَعَذُّر التفسير كالتناقض في أخلاق الإنسان الأبيض.

وهم إذا ما عَزَوْا إلى عجوز تصرفًا سيئًا نَزَعُوا المَرَارَة١ منها عن جهلٍ عادِّين إياها مقرًّا للسِّحر كما كان يَصنَع أغارقة العصر الأُوميريِّ البعيدين من أولئك ألوفَ الفراسخ والسنين، ولا يَذبَح أولئك الناسُ أنعامهم مقدِّسين لها مع ذلك، وإذا هَلَكَت بقرةٌ لدى الدِّنكا فطبخت ابتعد صاحبها ولم يشترك في الطعام منها، وإذا تمَّ لهم نصرٌ أفرطوا في الأكل وانهمكوا في السُّكر، ولكن مع العناية بالأسير، ومن الرجال كثيرٌ يتركون لنسائهم كل حرية في عالَم الغرام، لا في حقل العمل، وهم لا يَضرِبونهن إلا عند رداءة الطحن، لا بسبب عشاقهن، ولا يَحِقُّ للرجل من البُونْغُو أن يتزوج أكثرَ من ثلاث نسوة، وهو إذا ما تزوَّجهن ظَلَّ وفيًّا لهن، وإذا وضعت بنتٌ ولدًا للمادي وَجَبَ عليه أن يتزوجها، والمرأة من البانْجُورُو هي —بالعكس— تشتري من يَزنِي بها بجرَّة جِعَةٍ، ومن الزنوج قبائلُ تَحكُم على الغاوي بغرامةٍ تعدل قيمة المرأة.

وهذه هي عادةٌ لا يُوصَى البيض بها كثيرًا، وهنا تُبصِر السودَ أعلى ذوقًا من البيض، فبينما ترى نساء الوجهاء من البيض في أوروبة يفعلن ما يُرِدْنَ تبصر الزنوج —حتى ذوات الأخلاق الهيِّنة من قبائلهم— لا ينظرون بعين التسامح إلى من يَكُنَّ غير وفيَّاتٍ من أزواج الرؤساء وذوي الجاه منهم.

ويَحمِل الشِّلُّك بعد وضع الولد الأول نساءهم على بيان أسماء مَنْ كانوا يعاشرونهن، فيُلزَم كلُّ عاشقٍ بتقديم بقرةٍ إلى الزوج تكفيرًا عن خطاياه وحلًّا جديدًا للشرفِ الجنسيِّ، وإذا كان للمرأة عدة عشاقٍ وكانت جريئةً أخذت قبضةً من التراب ونَثَرَتْها في الهواء وقالت صارخةً: «هذا هو عدد مَنْ كان منهم».

وهنالك يَشْتِمُ الزوج أمَّها معاقبًا على سوء تربيتها لها.

ومن الزنوج قبائل قليلةٌ تقتل العجائز لعدِّهنَّ من السَّوَاحِرِ، ومنهم قبائلُ تبجِّلهن، ومن ذلك أنه يقام احتفالٌ في آخر الصيد الأكبر فترقُصُ أمُّ الصائد الظافر وحدَها عاريةً بين الجمهور فيَهتِف الجمهور قائلًا: «انظروا إلى الجسم الذي حمل الصيَّاد الأعظم».

ومن الزنوج قبائل تَضَعُ أحد الأولاد على المِنضَاج٢ وتبدأ بشيه، فيتوقف إيقادهم نارَ الحرب على حياة هذا الولد أو موته، ومع ذلك يُحِبُّ هؤلاء الناس أولادَهم ويجعلون من أنفسهم مُهُودًا٣ لهم، ومن هو الأوروبي الذي يَحمِل ولده الفتى على كَتِفه ستَّ عشرةَ ساعةً كما شاهده سائحٌ لدى الدِّنْكا؟

وإذا حَدَثَ أيامَ الجَدْب أنَّ صانع المطر —وهو شبه رئيسٍ للقبيلة وشِبْهُ ساحرٍ— لم يَرْفَعْ مستوى ماء النيل ذُبح لما سَبَقَ من افتخاره بسلطانه على العناصر، ونَيلِهِ حصةً كبيرة من الغِلَال والفراريج، وهم —بالعكس— إذا ما احترموا رجلًا أبيض كبِيكَر رَمَوْا في النيل ما وَهَبَه لهم من خَرَزٍ تسكينًا لبقر الماء الذي يمكنه أن يَقلِب قاربه، وأحبَّ إخوانُهم من أهل تَنْغَانِيقا لِيفِينْغسْتُنَ فجفَّفوا جثته بعد موته وملَّحُوها وحَمَلُوها تسعةَ أشهرٍ مجاوزين بِقاعًا غامرةً٤ معتقدين وجوبَ جلبها إلى الساحل وتسليمِها إلى البيض.

ولم يُحدِّثهم ليفينغستن عن المنقد قَطُّ، بل كان يحدثهم —فقط— عن الأب القادر الذي يجعل جميعَ الناس إخوانًا، وقد أراهم ساعته وبوصلَته بدلًا من أن يعلِّمهم أساطيرَ غريبةً، ومن قوله: «لا يؤثَّر في السود بالبنادق والآلات البخارية، بل يؤثَّر فيهم بدوام اللطف والإحسان، ويؤثَّر بذلك في بعضهم وحدَه مع ذلك».

ومن النادر أن كان يجازيهم، وما كان يوحي إليهم باحتياجات جديدة، ومن نتائج تَحْبِيبه نفسه إليهم جعلُهم نصارى، ولم تكن رسالته التي أملاها فؤادُه عليه ضارَّةً كرسالة أناسٍ كثيرين متعطِّشين إلى الذهب والسلطان عن غير شعورٍ أحيانًا، ولِمَ أجمع جميعُ العارفين بالسود على الارتياب من المبشرين؟ وأولئك أناسٌ يجهلون الكتب والصُّوَر، ولا يكادون يَحُوزُون بضعةَ أفكارٍ دينية انتقلت إليهم من آبائهم، وعلى أولئك أن يؤمنوا بإلهِ البِيض رفعًا لثمن القطن ولسندات مصانع القطن، وكان ليفينغستن خاليًا من التعصب وروح التجارة، فكان يعامل الزنوج كما يعامل الأولاد، وكان ليفينغستن يستند إلى الخرافة بدلًا من مكافحتها لِمَا أبصره من كونها مصدرَ سرورهم كما في كلِّ مكان.

وهل تَجِدُ عالِمًا أبيضَ اكتشف عن القرد أكثرَ مما اكتشفته القبائل الجنوبية من أهل النيل الأعلى الذين يَحكُمون بقتل كل إنسان يَقتُل الشَّنبنزِي٥ لسابق انتسابه إلى الجنس البشريِّ؟ ومن الزنوج قبائل تحترم الأفاعيَ فتكتفي بطردها من الأكواخ من غير أن تُقدِم على قتلها، ومن الزنوج قبائل كثيرةٌ لا تقتل الحيوان الحامي لها ولو كان أسدًا أو نمرًا.

ويعتقد البارِي أن كثيرًا من الأموات يتحوَّل إلى أنمار، ومن الزنوج أناسٌ لا يُطلقون النار على بعض الضباع ليلًا معتقدين أنها تكتسب شكلًا بشريًّا في النهار، وتلك القبائل —كمعظم الوحوش— تخشى الأرواح الشرِّيرة التي توجب المرض والموت والعاصفة والجَدْب، ولكنها لا تعرف الأرواح الطيبة، وليس لتلك القبائل أصنامٌ كما في أفريقية الغربية، ولكنهم يَنحِتون أحيانًا آلهةً بيتية لهم من خشب، وهم يسمون السعادة والشقاء لوُمَا وإن شئت فقل القَدَرَ الذي يُعزَى إلى سبب خارجيٍّ.

فيقولون «لوما أمرضه»، أو يقولون عن الصائد عند عودته صفرَ اليد: «لم يكن له لوما».

ويحتاج الهمجي —الذي هو عرضةٌ للعناصر والمرض أكثرَ منا— إلى ساحر يَعزُو إليه كلَّ قدرة ويَرجِع إليه في كلِّ حال.

وصانع المطر هو طاغيةٌ مدبِّر أو مُرهِبٌ لرئيس القبيلة كما يشاء، وهو يهدِّده بالجوع والجدب والحرب نَيلَا لجُعلٍ أجزلَ من قبل، وهو يُرقِص الجمهور، ويقدِّم إليه جِعَةً، وهو يرأس العُرُوض الرسمية حيث ينضج بالدم بعضَ الحجارة السحرية، وهو يَفتِن ببيانه، وهو قد يقول الصدق في حَضرة صانعي المطر الآخرين، ومما قاله أحدُ هؤلاء لبيكر: «ولا يَعِنُّ لي أن أصنع مطرًا قبل أن يُعطوني حبوبًا ومعزًا ودجاجًا، وهم قد هدَّدُوني بالقتل، والآن لن تنزل قطرة ماءٍ على أوبُّو، وسأجفِّف حصادهم وسأسلِّط الوباء على قِطَاعهم».

وهكذا يُبَاهِي الساحر الزنجيُّ بقدرةٍ لا يؤمن بها، ولكنك تجد بين السود أناسًا يمجِّدونه ولو تخلصوا منه كما تَجِدُ شعوبًا بيضًا يشابهونهم، فإذا حدث أن المادي حرقوا صانع مطرهم جمعوا ما يسيل من شَحْمِه ليكون علاجًا لجروحهم.

والحق أننا لا نزال قريبين من عالم المشاعر لدى هؤلاء الوحوش، ولكن الزنجيَّ إذا لَقِيَ أبيض عَشِيَ٦ كما لو دخل رواقًا باهرَ الأنوار، مع أن أفريقية تبدو للبيض شمسًا تجتذب من يقيم منهم بها زمنًا طويلًا أكثرَ من تعطُّشهم إلى السيطرة.

وأفريقية للبيض جنةٌ يُلْقِي جوُّها المنعش سُلوانًا في نفوسهم.

أجل، إن متاعب أفريقية وأمراضَها تُقَصِّر آجالهم، ولكن مؤالفة قُوَاها الطبيعية تقوِّي أرواحهم، حتى إن اعتزال العالِم والشاعر، العانِيَيْن بالمسائل الخالدة، لضوضاء العالَم الأوروبي والعالَم الأمريكي وحماقاتها أقلُّ سهولةً من اعتزال الرائد أو الصائد أو الغارس في أفريقية الاستوائية، ولا يأتي النفوذ المطهِّر من الخطر اليوميِّ ومن مكافحة العناصر فقط، بل يأتي أيضًا من عيون الزنجيِّ ومن وضوح أوضاعه التي تَنِمُّ على ما يدور في خَلَده، ومن فضوله الطفوليِّ ومن وقاره وواقعيَّته ولاشعوريَّته.

وشُبِّهَ السود بالأولاد، والسُّود على شواطئ النيل أولادٌ فَرحَى مَرحَى تُسْفِر سذاجتهم الكلبيَّة عن قسوةٍ في بعض الأحيان.

نعم، يُمكِن الزنجيَّ أن يَقتُل خصمَه في سَوْرَة غضبٍ، ولكنه يَجهَل الخُبثَ وكلَّ شيءٍ يُسَوِّد حياة البيض، ولا يَحفِزه الحقد والحرص والحسد وحُبُّ الذهب إلى الإجرام، ورؤساء القبائل وحدهم هم الذين تُساوِرهم هذه المشاعر، فهم كبعض رؤساء البيض يُثِيرون في نفوس رعاياهم روح الانتقام والحقد ضدَّ القبائل الأخرى فيدفعونهم إلى الحرب والموت.

وكان الأبيض لا يَجلِب غير الخَرَز إلى الأسود في مقابل عاجه الذي يَسلُبُه إياه، والأبيض قد نَزَع منه عمله اليدويَّ لما أدت إليه العجائب التي أُطلِع عليها من تقليل غريزة التقليد فيه، ولِمَ يَبذُل كبيرَ جهد في شَحْذِ نَصْلٍ ما دام الأبيض يُعطِيه سكينًا رائعًا في مقابل قطعةٍ من المطَّاط؟ وعامَلَ المصريون من بلغوهم من زنوج النيل الأعلى كما عاملت الكنيسة عامة الناس؛ فلم يعلِّموهم حتى استعمال إطار الفخار، وغابت صناعة مَطْلِ٧ النصال وهاجرت إلى المناقع البعيدة المنيعة، ولا يُوحِي البيض إلى الزنجي بتذوُّق العمل إلا بإشراكه في ملاذَّ غيرِ معروفة عنده واجتذابِه بذلك إلى مُغرِيات الحضارة، والأبيض —لكي يكسب مالًا— يحتاج إلى عملٍ يدويٍّ رخيص، فتراه يُخرِج الزِّنجيَّ من جنَّة البِطالة.

وسهل الرِّقُّ الذي يعانيه فريقٌ من الناس ذلك العملَ، والعمل لا يقوم به النساء وحدهن، بل يقوم به أيضًا أسرى الحرب ومن ألَمَّ بهم الفقر، ولا تَجِدُ بين السود فروقًا مُوغِرة لفقدان الملاذِّ الغالية والثياب الفاخرة والبيوت والأغذية الأنيقة تقريبًا ولِمَا لا يبدو به أحدٌ أكثر مما هو عليه خلافًا للبيض، وعلى الأبيض يتوقف الربحُ والخسران، والزِّنجيُّ —لحرمانه حقَّ الكسل— ينال آلاتِ الخياطة والمصابيحَ ورحيق الويسكي مقايضةً، وهذه هي خاتمة حياته النباتية ونهاية سلامة طَوِيَّته، وهو يُفِيق ويسعى ليستقلَّ ويَبتغي وجهًا آخر من الحرية؛ أي حريةً ظاهرةً كالتي تتمتع بها الأمم المتمدنة، ومن العَبَث في الساعة الحاضرة أن تجعل دولة أوروبية من الزنجي عبدًا، والزنجي يغدو عبدًا للحضارة من تلقاء نفسه.

------------------------------------------------------
١  المرارة: هي الحوصلة الصفراوية، وهي شبه كيس لازقة بالكبد تكون فيها مادة صفراء.
٢  المنضاج: السفود، وهو حديدة يُشْوَى عليها اللحم.
٣  المهود: جمع مهد.
٤  الغامر: الأرض الخراب.
٥  الشنبنزي: قرد أفريقي هو أعلى القردة وأقربها شَبَهًا للإنسان.
٦  عشي: ساء بصره.
٧  مطل الحديد: ضربه ومده ليطول، سبكه ومده صحيفة.