عون الرحمن في وسائل استثمار رمضان (30)
مـحـمــــــــود الـعـشــــــــــــــري
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين
الوسيلة الثانية والسبعون: كَفُّ الأذى 8_ia_a12
الوسيلة الثانية والسبعون: كَفُّ الأذى
لقد اختلَف الناس في الطباع؛ لاختلافهم في الرغبات والأطماع، وتبايَنوا في الأخلاق؛ لتبايُن الأمزجة والأذواق، وتفرَّقوا في الميول والمأمول؛ لتفرُّق الأصل الذي خُلقوا منه.

وما دام المرء مع غيره؛ يُساكنه ويُجالسه، ويُعامله ويُؤانسه، ويُسابقه ويُنافسه، فالتصادمُ أمرٌ لازمٌ، والمواجهة أكيدة؛ للمخالفات العديدة.

والخَلْق أخلاط، والناس أجناس، والبشر ليسوا على حدٍّ سواء؛ فمنهم جالب للخير، موسوم به، ومَنسوب له، ومعروف بفِعْله، وحريصٌ عليه، وداعٍ إليه، ومرغِّبٌ فيه، قد عفَّ نفسه عن أذى الناس، وكفَّ يده عن التعدِّي عليهم، والإساءة إليهم، وهذا هو المسلم حقًّا، والمؤمن صدقًا.

ومنهم -والعياذ بالله- معروف بالشرِّ، موصوف بالأذى، دَيْدنه التعدِّي، وطَبْعه الإساءة، قد كَثُر شاكوه، وقلَّ شاكروه؛ لأنه نَصَب راية التعدِّي والجَوْر، والظلم والقَهْر، فخاف الناس شرَّه، واتقوا ضررَه، وتحاذَروا خطرَه.

وإنما الناس مستريح من العَناء، ومُستراح من عنائه وبلائه وإيذائه، ومنهم عَوانٌ بين ذلك، فتارة إلى هؤلاء، وتارة إلى أولئك، وأيُّهما غلَب عليه، نُسب إليه، فسعدًا لِمَن كان مِفتاح خير مِغلاق شرٍّ، وتعسًا لِمَن كان مِفتاح شرٍّ، مِغلاق خير.

والواجب المُتحتّم على كلِّ مسلم كفُّ الأذى عن البرايا، وحَبْس النفس عن السوء، ثم المندوب المحبوب لِمَن أراد رِضا الله تعالى وقُربَه، وأجْرَه وحُبَّه، الصبر على البلايا، واحتمال أنواع الرزايا، والرَّد على الخطايا بالعَطايا، وعلى الظلم بالحِلم، وهذا والله من شِيَم الكرام، وطبائع العِظام، وأخلاق الأماجد من الناس.

فعليك أخي يا بن الإسلام بالرَّد على الإساءة بالسماحة، والمدافعة بالتي هي أحسن؛ بالرد الهَيِّن والقول الليِّن، ومن عَلِم أنَّ الجنة جزاء الصبر، لَم يُغْلِه المهر.

ومن مَسَّه الناس بنُصبٍ وعذاب، فليتذكَّر ما أُوذي به ربُّ الأرباب، وله بذلك مبلغ السلوى، وإن عَظُمت البلوى، وفَحُشَت الشكوى، فليس أحدٌ أصبرَ على أذًى من الله تعالى.

وليتأمَّل حِلْمَ الله على مَن عصاه، وسَتْره على مَن خالف أمره، وصَبْرَه على مَن تعدَّى حدوده، فخيرُ الله إليهم نازلٌ، وشرُّهم إليه صاعد، ولَم يقطعه عنهم لعِصيانهم، ولَم يَحجبه عنهم لتمرُّدهم، وإنما يُمهل عاصيهم، ويُملي لظالمهم، ويَصبر على جحود مُعرضهم، ويَغفر زلاَّت مُسيئهم، فسبحانه مِن رحيم حليم، فهو أرحمُ بهم من أنفسهم، وأكْرَم معهم من أقاربهم، وأحْنَى عليهم من ذَوي رَحِمهم، والله رؤوف بالعباد.

وليتذكَّر كم عانى الأنبياء الأصفياء -عليهم الصلاة والسلام- من صنوف الأذى ما لا يَخطر ببالٍ، ولا يوصَف بحالٍ، مع أنهم جاؤوا بالنور من ربِّهم؛ ليخرجوا الناس من ظلمات الكفر والمعصية إلى نور الإيمان والطاعة، وليَسوقوهم إلى جنة عرْضُها السموات والأرض، ولَم يسألوا الناس أجرًا، ولَم يطلبوهم مغرمًا، فلَحِقهم من أجْل ذلك أذًى كثيرٌ، وعذاب كبير؛ ﴿وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الأنعام: 34].

وما دُمنا في دار الكمد والنكد، والتعب والنَّصب، والمشكلات والقلاقل، فلا بدَّ من الصبر على زَلاَّت الناس، والإعراض عن جهالاتهم، والإغضاء عن هَفواتهم، وحُسن مُداراتهم، وعند الله تَجتمع الخصومُ.

ومن الناس من يُذكَر بشرِّه، ويُحذر من خطره، حتى بعد موته وانصرام أمْره! فتراه يموت ويظلُّ أذاه مستمرًّا من بعده، يَلحق به في قبره، تَتْبَعه ألْسِنة الشاكين، ودعوات المتضررين، وسيِّئات المُتبعين إلى يوم بَعْثه ونَشْره، فهنيئًا لِمَن مات وماتَت سيِّئاته معه.

ومَن عجَز عن فِعل الخير وبَذْل المعروف، فلا أقلَّ من أن يكفَّ شرَّه عن الخَلْق، فلا يَلحقهم أذاه، ولا يَمسهم سُوءُه، وتلك -لو يعلم المعتدون- صدقة منهم على أنفسهم، ورحمة منهم بهم، فإن ضَعُفت أخي عن الخير، فأمْسِك عن الشر، وإن كنتَ لا تستطيع أن تنفعَ الناس، فأمْسِك عنهم ضرَّك، وإن كنتَ لا تستطيع أن تصومَ، فلا تأكل لحومَ الناس، ودَعْهم مما تحبُّ أن يَدعوك منه.

ولَمَّا عَلِم -صلَّى الله عليه وسلَّم- خُطورة الأمر وعَظَمة الوزر، وجلالة الخَطب وفَداحة الذَّنب، جعَل يَستعيذ بالله من أن يجرَّ السوء للناس، أو يسبِّب لهم ما يؤذِيهم في دينهم أو دنياهم، أو يَظلمهم ويتعدَّى عليهم.

فيا بن الإسلام، كُفَّ كَفَّكَ عن الأذى، وأمْسِك لسانك عن السوء، واخْطِم خُطاك عن الخطأ، واحْفَظ بطنك من التخليط، ونقِّ قلبك من كلِّ دغلٍ، وأحْجِم بجوارحك عن جرح الناس، كنْ ذكرًا حسنًا، وخبرًا يَروق للناس جميلاً.

أخي يا بن الإسلام، إنني لَمَّا رأيتُ القوم قد ضَعُفَت أواصرُهم، ورَقَّت روابطُهم، وخَفَّت محبتُهم، وانقطَعت وشائجُهم، ولَم أدرِ برأْس مَن أعْصِب هذه الجناية، وبعُنق مَن أعلِّق تلك الغواية، فتلمَّسْتُ السبب، وتعقَّبت العِلَّة، وسَبَرت أحوال الناس، ونقَّبت في سِجل حياتهم، وفتَّشْتُ بين دَفَّتي معاشهم، فرأيتُ ما أذهلني، وأبصرتُ ما آلمني، فالبعض قد سَلِم اليهود والنصارى من أذاه، ولَم يَسلم منه إخوانه المسلمون في دينهم وأموالهم، وأعراضهم ودمائهم، وغير ذلك مما يطول شرْحُه، ويَصعُب وصْفُه، ويتعذَّر بَسْطه، والحال يغني عن المقال، والواقع يكفي عن السؤال، فعجبًا لِمَن سَلِم منه الأعداء، ولَم يَسلم منه الأصدقاء والأقرباء!

وخَلصْتُ إلى أن أهمَّ سببٍ لهذه الهُوَّة السحيقة، والفجوة العميقة في علاقات الناس ببعضهم، هو أنَّ البعض منهم لَم يَكفَّ شرَّه عنهم، ولَم يَمنع أذاه لهم؛ جهلاً منه ونسيانًا، وحبًّا لنفسه، وإيثارًا لمصلحته، وحفاظًا على أمْر دنياه، وغَفلة عن شأن آخرته؛ وذلك لضَعْف إيمانه، ورِقَّة يقينه، وقِلَّة دينه، وضَعْف الوازع في قلبه، وغياب الرادع من عقله.

ولذا رأيت -من باب إنكار المنكر، وتحذير البشر من الشر؛ حرصًا على استثمار رمضان- أن أجمَع في نهاية هذه الوسائل بعض أنواع الأذى، وأصناف السوء؛ حتى نكون على عِلمٍ بها، وحذَرٍ منها، وبُعدٍ عنها؛ لشناعة عقابها، وسوء عاقبتها، وفي العلم دَفْعٌ لجحافل الجُرم.

وكما أنَّ المسلم مُتعبَّد بفِعل المأمور، فهو كذلك متعبَّد بترك المحظور، وكما أنه مُلزَم بفعل الخير، فهو مَلزَم بالكفِّ عن الشر، والاحتساب في كل ما يأتي ويَذَر، وعند الله يكون المستقر، فيُضاعف لِمَن شكَر، ويُعوِّض مَن صبَر، ويعاقب من تجاوز وكفَر، والله لن يُضيع أجْر من أحسن عملاً.

والله المسؤول -وهو خير المأمول- أن يُصلح أحوال المسلمين، ويؤلِّف بين قلوبهم، ويَجمع كلمتهم، ويوحِّد صفَّهم، ويربط بينهم برباط الإيمان والتقوى، والعُروة الوثقى؛ إن ربي على كل شيءٍ قدير، وبالإجابة جدير، إنه نعم المولَى، ونِعْم النصير.

والآن أذكر بعضًا من صنوف الشر والأذى، التي يجب على المسلم أن يكفَّ عنها، فلا يقترب منها، ولَم أُحْصِها عددًا لكثرتها، وفي ذلك ما لا يخفى من الابتلاء والتمحيص من الله لعباده، فقد حُفَّت النار بالشهوات، وكَثُرت حولها الظلمات؛ ليتميَّز الخبيث من الطيِّب، وليعلم الله -وهو العليم- مَن يَنصره ويخشاه بالجلاء والخفاء، وعند القدرة على البطش والإيذاء، وتلك رَحَى البلاء.

تنبيه:
ذكرت ما ذكرتُ من صنوف الشر والأذى دون ذِكر ما ورَد فيها من الأحاديث؛ بُغية الاختصار، ولو أني فعلتُ ذلك، لتضاعَف الحجم عما هو واقع، ولاتَّسَع الخَرْقُ على الراقع.

والأحاديث الواردة في هذه الشرور منثورة في الكتب الستة، وكتب الإمام الألباني -رحمه الله- فليَرجِع إليها مَنْ أرادَ، واللهُ المُستعانُ، وعلى الله أتوكَّلُ، وبه أصولُ وأجولُ، وأسأله القَبول، فبسم الله أبدأ، فمنه المبتدأ، وإليه المُنتهى.
----------------------------------------------