عون الرحمن في وسائل استثمار رمضان (29)
مـحـمــــــــود الـعـشــــــــــــــري
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين
الوسيلة السادسة والستون: قيام ليلة القدر Ia_aya31
الوسيلة السادسة والستون: قيام ليلة القدر
إن الرَّتابة الدائمة، والسير على وتيرة واحدة في الحياة، يَبعث على السآمة والمَلل، لكن الإسلام العظيم أعطى الحياة طعمًا آخرَ ترمي به خلف ظهرها كلَّ سآمة ومَللٍ، ففي الصلوات الخمس كسْرٌ لرَتابة اليوم، وفي صلاة الجمعة كسْر لرَتابة الأسبوع، وفي شهر رمضان كسْرٌ لرتابة العام، وفي ليلة القدر كسْرٌ لرتابة ليالي الشهر، وفي كل محطة من هذه المحطَّات يجدِّد الإنسان إيمانه، ويعيش حياة جديدة حين يَقِف على معانٍ يتذوَّقها لأوَّل مرة؛ لتُعيده إلى الصواب إن كان قد انحرَف، وترفع هِمَّته إن كان قد وَهَن أو كَسِل، والله -سبحانه- هو الذي بيده اختصاص التفاضل، فهو الذي فضَّل بعض النبيين على بعض، وفضَّل بعض الشهور على بعضٍ، وفضَّل بعض الأوقات على بعض، بل وفضَّل بعضَ الطعام على بعض؛ ﴿وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ﴾ [الرعد: 4]، ومن ذلك تفضيله لليلة القدر على سائر الليالي.

وقد سُمِّيَت ليلة القدر بهذا الاسم
لخطرها وشرَفها على جميع الليالي، أو كما قال ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله تعالى: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ [الدخان: 4]: "يُكتب في أمِّ الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السَّنَةِ من رزقٍ أو موتٍ، أو حياةٍ أو مطرٍ، حتى يُكتب الحاجُّ؛ يحجُّ فلان، ويحجُّ فلان".

فليلة القدر أفضل ليالي السنة
لقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ [القدر: 1 - 3]؛ أي؛ إنَّ العمل فيها من الصلاة والتلاوة والذِّكر وغير ذلك، خيرٌ من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر؛ قال الإمام الرازي: "واعلم أنَّ مَن أحياها، فكأنما عبَد الله تعالى نيِّفًا وثمانين سنة، ومَن أحياها كلَّ سنة، فكأنما رُزِق أعمارًا كثيرة"، لكنَّ الأمر أعظمُ مما قال الإمام وأغلى، وتأمَّل قوله تعالى: ﴿خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾، ولَم يقل: كألف شهر، وذلك -والله أعلم- إشارة إلى أنها خيريَّة مُطلقة ليس للعدد فيها مفهومٌ، وكلما كان العبد أشدَّ إخلاصًا لله، وأكثر إقبالاً عليه، كانتْ مُضاعفة ثوابه أعظمَ، ألاَ ما أعظم هذه الليلة! ليلة من أنوارها كأنها نهار، ليلة هي أحلى حسنات الدهر، وأطْيَب لحظات العُمر، نعم والله: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾، ليلة تُفَتَّح فيها الأبواب، ويُقََرَّب فيها من تابَ، ولا يُرَدُّ مَن طرَق الباب، بل يُسمَع منه الخطاب، ويأتي على الفور الجواب، فيُكتَب له الليلة ما لا يُدركه العقل من الثواب، فماذا أنتم فاعلون؟!

يا مَن ضاع عُمره في لا شيء
اسْتَدْرِك ما فاتَك الليلة، فإنها تَعدِل العُمر كلَّه، بين يديك الجواهر والدُّرر، فلا تُضيِّع عُمرك في الطين والمدر، فالعِبرة ليست بطول الأعمار، بل بما تَحويه من أعمال الأبرار، وليس المهم أن تمتدَّ بك الحياة، ولكنَّ المهمَّ أن تملأها بالخير، ورُبَّ لحظة واحدة من مُجتهد خير من أيام الحياة كلها من غافلٍ بليد، فاقْتَنِص كلَّ لحظة اليوم، ولا تُفَرِّط في رأس مالك؛ فإنه لا يُعوَّض.

وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتحرَّى ليلة القدر، ويأمر أصحابه بتحرِّيها؛ لذا كان يوقِظ أهله ليالي العشر؛ رجاء أن يدركوها، بل وحثَّ على قيامها بأبلغ العبارات، وأعظم الترغيب والتشويق في قوله في الصحيحين: ((مَن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه))، مع قوله في الحديث الآخر الصحيح: ((مَن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه))، وهو في صحيح الجامع، وقد يُقال: إنَّ أحدهما يُغني عن الآخر؛ فليلة القدر ليلة من ليالي رمضان، فلِمَ هذا التخصيص بعد التعميم؟! وإذا عُرف السبب، بطَل العجب كما يقولون، والسبب يُخبرنا به الإمام النووي، فيقول: "قيام رمضان من غير موافقة ليلة القدر ومعرفتها، سببٌ لغُفران الذنوب، وقيام ليلة القدر لِمَن وافَقها وعرَفها، سببٌ للغفران -وإن لَم يَقُمْ غيرها".

قُلْت:
فإنْ وفَّقه الله تعالى للاثنين معًا، غُفِرت ذنوبه، وما تبقَّى له من الأجر العظيم والثواب الجزيل تُرفَع به درجاته في جنات النعيم -إن شاء الله تعالى- والله أعلى وأعلم.

ولَم يُحدِّدها النبي -صلى الله عليه وسلم- بليلة معيَّنة
بل قال في الحديث الذي صحَّحه الألباني: ((إني أُرِيت ليلة القدر، ثم أُنْسِيتها، فالْتَمِسوها في العشر الأواخر في الوِتر))، وفي الحديث الذي حسَّنه الألباني: ((ليلة القدر ليلة سابعة أو تاسعة وعشرين، إن الملائكة تلك الليلة في الأرض أكثرُ من عدد الحَصى))، وصحَّح الألباني حديث: ((الْتِمسوا ليلة القدر آخر ليلة من رمضان))، وروى أحمد بإسنادٍ صحيح أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: ((مَن كان متحرِّيًا، فليتحرَّها ليلة سبع وعشرين؛ يعني: ليلة القدر))، وروى أحمد عن ابن عباس أنَّ رجلاً أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا نبيَّ الله، إني شيخ كبير عليلٌ، يشقُّ علىَّ القيام، فأمُرني بليلة؛ لعلَّ الله يوفِّقني فيها لليلة القدر، فقال: ((عليك بالسابعة))، وروى أحمد ومسلم، وأبو داود والترمذي، وصحَّحه عن زِرِّ بن حُبَيْش، قال: سَمِعت أُبَي بن كعب يقول -وقيل له: إنَّ ابن مسعود يقول: مَن قام السَّنَة، أصابَ ليلة القدر- فقال أُبَي: والله الذي لا إله إلا هو، إنها لفي رمضان -يَحلف ما يَستثني- والله إني لأعلم أي ليلة هي، هي الليلة التي أمرَنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقيامها، هي ليلة سَبع وعشرين، وأمارتها أن تطلُعَ الشمس في صبيحة يومها لا شُعاعَ لها"، وفي رواية قال أُبَي: "والله لقد عَلِم ابن مسعود أنها في رمضان، وأنها ليلة سبع وعشرين، ولكن كَرِه أن يُخبرَكم، فتتَّكِلوا".

لكن الذي يَغفُل عنه كثيرٌ من الناس أنه لا يَلزم من تخلُّف العلامة عَدَمها، ورُبَّ قائمٍ فيها لَم يَرَ من علاماتها شيئًا، وهو أفضل عند الله وأكرم ممن رآها، لكنه كَسِل ونامَ.

وللعلماء في تعيين هذه الليلة آراءٌ
فمنهم مَن يرى إنها ليلة الحادي والعشرين، ومنهم مَن يرى إنها ليلة الثالث والعشرين، ومنهم مَن يرى إنها ليلة الخامس والعشرين، ومنهم مَن ذهَب إلى إنها ليلة التاسع والعشرين، ومنهم مَن قال: إنها تتنقل في ليالي الوتر من العشر الأواخر، وأكثرهم على أنها ليلة السابع والعشرين؛ قال ابن حجر في "الفتح" بعد أن ذَكر ستة وأربعين قولاً في تعيينها: "وأرْجحُها أنها في الوتر من العشر الأواخر، وأرجاها ليلة سبع وعشرين".

والذي أراه ألاَّ يَستغرق تحديدُها منَّا كثيرَ وقتٍ وطولَ نقاشٍ في شهر نحن أحوجُ ما نكون فيه إلى اغتنام كلِّ لحظة، وقد قال البغوي: وفي الجملة أبْهَم الله هذه الليلة على هذه الأُمَّة؛ ليجتهدوا بالعبادة في ليالي رمضان؛ طمعًا في إدراكها، كما أخْفَى ساعة الإجابة في يوم الجمعة، وأخْفَى الصلاة الوسطى في الصلوات الخمس، واسْمه الأعظم في الأسماء، ورضاه في الطاعات؛ ليَرغبوا في جميعها، وأخفى قيام الساعة؛ ليَجْتهدوا في الطاعات حَذرًا من قيامها.

إذا تقرَّر هذا وعَلِمت أخي يا بن الإسلام ما ورَد في الحثِّ عليها، فاعْلَم أنه ينبغي لكلِّ موفَّق مُريد للكمال والسعادة الأبديَّة أن يبذُل وُسْعه، ويَستفرغ جُهده في إحياء ليالي العشر الأواخر من رمضان وقيامها؛ لعلَّه يُصادف تلك الليلة الجليلة التي اختصَّ الله بها هذه الأُمَّة، وآتاهم فيها من الفضل ما لا يَحصره العددُ.

قال الإمام الشَّعْبي في حقِّ ليلة القدر:
"ليلها كنهارها"، وقال الشافعي: "أستحبُّ أن يكون اجتهادُه في نهارها كاجتهاده في ليلها"، وهي لفتة ذكيَّة؛ فاغتنام هذه الليلة لا بدَّ له من إعداد وتجهيز، ويَستغرق ذلك أغلبَ ساعات النهار، حتى إذا ما بدأت الليلة، لَم يَضِع منها شيء؛ فالفضل اليوم لا يُقدَّر بثمنٍ، وضياع الدقيقة خسارة فادحة، واللحظة الواحدة غالية غالية، ولن يعرفَ المُفرِّط فداحة خسارته إلاَّ يوم القيامة، ولاتَ ينفع الندم، فتأسَّف على كلِّ ساعة من ساعات هذه الليلة مرَّت فارغة من الذِّكر، وابْكِ على كلِّ لحظة لا يُؤْنِسك فيها مصحفٌ ولا دعاء.

فيا أخي الحبيب
إنَّ هذا عشر شهر مبارك الليالي والأيام، وهو سبب لِمَحو الذنوب والآثام، وفيه يتوفَّر جزيل الشكر والإنعام، فاعتذِر إلى المولى الكريم، وأقْبِل بقلبك عليه، وقِفْ بالخضوع لَدَيه، وانكسِر بين يديه؛ فإنه رحيم كريم.

أخي الحبيب
أنت الآن في رمضان، وهو وَحْده عُمر طويل، لِمَن رامَ الثواب الجزيل؛ فإن في لياليه ليلةً واحدة خيرٌ من ألف شهر، فاجتهِد -رحمك الله- بإخلاص الأعمال لله، وبادِر بالتوبة والاستغفار، والاجتهاد إلى ذي الجلال والإكرام، واعْلم أخي أنَّ الموتى في قبورهم يتحسَّرون على زيادة في أعمالهم: بتسبيحة، أو تحميدة، أو ركعة، رُئِي بعضهم في المنام فقال: ما عندنا أكثر من الندامة، وما عندكم أكثر من الغَفلة، وفي الترمذي: ((ما من مَيِّت يموت، إلاَّ نَدِم؛ إن كان مُحسِنًا، نَدِم ألاَّ يكون ازدادَ، وإن كان مُسيئًا، نَدِم ألاَّ يكون نَزَع)).

فاجْتَهِد أخي غاية ما تستطيع من الاجتهاد، وتحرَّ ليلة القدر، وأكْثِر من الدعاء، ولا سيَّما بالعفو؛ فقد روى أحمد وابن ماجه والترمذي وصحَّحه عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: يا رسول الله، أرأيتَ إنْ عَلِمت أيُّ ليلة ليلة القدر، ما أقول فيها؟ قال: ((قولي: اللهم إنَّك عفوٌّ تحبُّ العفوَ، فاعفُ عني)).

والعفو اسم من أسماء الله الحسنى، ومعناه:
المتجاوز عن سيِّئات عباده، الماحي لآثارها وإن عَظُمت، وفي الحديث إشارة إلى أنَّ شِدَّة حياء العبد من ربِّه، تُوجِب عليه سؤالَ العفو لا الرضا؛ إذ الرضا لا يكون إلا للمتطهِّرين من الذنوب، وأمَّا مَن تلطَّخ بالمعاصي، فلا يَليق به إلا سؤال العفو! لكن لماذا سؤال العفو حتى بعد اجتهاد أيام العشر؟! يُجيبك ابن رجب -رحمه الله- فيقول: "إنما أمر بسؤال العفو في ليلة القدر بعد الاجتهاد في الأعمال فيها وفي ليالي العشر؛ لأنَّ العارفين يجتهدون في الأعمال، ثم لا يَرَوْن لأنفسهم عملاً صالحًا، ولا حالاً ولا مقالاً، فيرجعون إلى سؤال العفو كحال المذنب المقصِّر".

أخي يا بن الإسلام، من فِقْه الرجل اليوم -وهو يتعبَّد في ليلة القدر-
أن يعلمَ مقياس تفاضُل العبادات وتمايُز القُربات، فيقرأ الحديث الذي صحَّحه الألباني في صحيح الجامع: ((موقف ساعة في سبيل الله، خيرٌ من قيام ليلة القدر عند الحجَر الأسود))، يقرأ ذلك ثم يشعر بازْدراء نفسه أنها ليْسَت في صفوف المجاهدين اليوم، ولا تَلبس عُدَّة الحرب، ثم يُتبع هذا الازدراء بعملٍ، ينوي نيَّة لا يعلم صِدقَها إلاَّ الله أنه سيبدأ المسير فورَ سماع النَّفير، ويقدِّم دليل صِدقه، وشهادة إخلاصه؛ وهو أن تُسيطر على أحلامه منذ اليوم تفاصيلُ الموتة المطَهَّرة، والمصرع الرائع، المُسَمَّى في عُرف الإسلام: شهادة.

وأنتِ -أُخيَّتي يا بنت الإسلام-
لا تَظني نفسك بعيدة عن هذا الميدان، معذورة بالقعود عن القتال، فأين قلبك الحي إذًا؟! أين عزمك الفَتِيُّ تُجاه ما يحدث لذراري المسلمين؟! ألا تُجاهدين عدوَّنا ولو بالنيَّة الصادقة؟! ألا تُريدين أن تكوني ممن وصَفهم ابن الجوزي بقوله: "ولله أقوامٌ ما رَضُوا من الفضائل إلا بتحصيل جميعها، فهم يُبالغون في كلِّ علْمٍ، ويَجتهدون في كلِّ عملٍ، ويُثابرون على كلِّ فضيلةٍ، فإذا ضَعُفت أبدانُهم عن بعض ذلك، قامَت النيَّات نائبةً وهم لها سابقون".

وما تكون هذه النيَّات اليوم إن لَم تكن الغزو والشهادة؟!
--------------------------------------------------------------