عون الرحمن في وسائل استثمار رمضان (5)
الشيــخ: مـحــمـود الـعــــــشري
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين
القاعدة الرابعة: نبذ البطالة والبطَّالين ومصاحبة ذوي الهمم Ia_aya16
القاعدة الرابعة: نبذ البطالة والبطَّالين ومصاحبة ذوي الهمم:
ليس هناك أشأَمُ على السائر إلى الله من البطالة وصُحْبة البطَّالين؛ فالصاحب ساحبٌ، والقرين بالمقارن يقتدي، "والبُرْهان الذي يعطيه السَّالكون -علامةً لصدقهم- أنَّهم يأبون إلاَّ الهجرة والانضمامَ إلى القافلة، ويَذَرون كلَّ رفيق يثبِّطهم ويزين لهم إيثار السلامة، ينتَفِضون ويهجرون كلَّ قاعد، ويهاجرون مع المهاجرين إلى الله، ويَطْرحون أغلال الشَّهوات وحُبَّ الأموال عن قلوبهم".

ولَمَّا أراد قاتِلُ المائة أن يتوب حقًّا، قيل له: اُتْرُك أرضك؛ فإنَّها أرض سوء، واذهب إلى أرض كذا وكذا؛ فإنَّ بها أناسًا يعبدون الله فاعبد الله معهم - وقصَّته في الصحيحين - فلا بُدَّ لمن أراد تحصيل المغفرة من شهر رمضان أن يترك المُخلِدين إلى الأرض، ويُزامل ذوي الهمم العالية، كما قال الجُنَيد: سيروا مع الهِمَم العالية.

وقد أمر الله خير الخلق -صلى الله عليه وسلم- بصحبة المُجِدِّين في السَّير إلى الله وترك الغافلين، فقال -عزَّ من قائلٍ-: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف: 28]، وقال: ﴿وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ [لقمان: 15]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}﴾ [التوبة: 119].

فلو صحب الإنسانُ من يظنُّون أنَّ قيام ساعة من الليل إنجازٌ باهر، فهو مغبون لن يعدو قدْرَه، بل سيظَلُّ راضيًا عن نفسه، مَانًّا على ربِّه بتلك الدقائق التي أجهد نفسه فيها، ولكنَّه لو رأى الأوتاد من حوله تقف الساعات الطِّوال في تهجُّد وتبتُّلٍ وبكاء -وهم مُتَقالُّوها- فأقلُّ أحواله أن يظل حسيرًا كسيرًا على تقصيره.

ونبْذُ البطالةِ هِجِّيرى الناسكِ -دأبُه وشأنه وعادتُه- في كلِّ زمان، وقد قيل: طلَبُ الراحة للرِّجال غفلة، وقال شُعْبة بن الحجَّاج البصريّ -أميرُ المؤمنين في الحديث-: "لا تقعدوا فراغًا؛ فإن الموت يطلبكم"، وقال الشافعيُّ: "طلب الراحة في الدُّنيا لا يصحُّ لأهل المروءات؛ فإنَّ أحدهم لم يزل تعبان في كلِّ زمان"، وقيل لأحد الزُّهَّاد: كيف السبيل ليكون المرءُ من صفوة الله؟ فقال: "إذا خلع الرَّاحةَ، وأعطى المَجْهود في الطاعة"، وقيل للإمام أحمد: متى يَجِدُ العبْدُ طعم الرَّاحة؟ فقال: "عند أوَّل قدمٍ يضعُها في الجنَّة".

أمَّا البحث عن ذوي الهمم والمروءات، وأصحاب السرِّ مع الله، فهي بُغية كلِّ مُخْلِص في سيره إلى الله، قال زين العابدين: "إنَّما يجلس الرَّجلُ إلى من ينفعه في دينه"، وقال الحسن البصري: "إخواننا أحبُّ إلينا من أهلنا وأولادنا؛ لأن أهلنا يُذكِّروننا بالدُّنيا، وإخواننا يُذَكِّروننا بالآخرة"، قال شاعر:

لَعَمْرُكَ مَا مَالُ الفَتَى بِذَخِيرَةٍ
وَلَكِنَّ إِخْوَانَ الثِّقَاتِ الذَّخَائِرُ


وكان من وصايا السَّلف انتقاءُ الصُّحبة، فاجتهد أيُّها الأريب باحثًا عن أعوان المسير أصحاب الهمم العالية، ابحث عنهم في المساجد بالضَّرورة، اسأل عنهم في مجالس التُّقاة، لا تستبعد المفاوز لتصل إليهم.

مع هذه الصُّحبة تتعاونون على تَدارُك الثَّواني والدقائق، تُحاسِبون أنفسكم على الزَّفرات والأوقات الغاليات، لو فرَّط أحدُكم في صلاة الجماعة وجد من يستحِثُّه على عقاب نفسه كما كان يفعل ابن عمر.

ترى البطَّالين يصلُّون التراويح سويعة، ثم يسهرون ويسمرون ويسمدون، وتضيع عليهم صلاة الفجر: ﴿وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ [الكهف: 104]!

لا أيها الرَّشيد؛ تعال أُخْبِرْكَ بحال مَن اجتمعوا على السَّيْر إلى الله: أوقاتهم بالذِّكْر وتلاوة القرآن معمورة، مساجدهم تهتزُّ بضجيج البكاء من خشية الله، تراهم ذابلين من خوف الآخِرَة، وعند العبادة تراهم رواسِيَ شامخاتٍ كأنَّهم ما خُلِقوا إلا للطَّاعة، ليس في قاموسهم: فاتَتْني صلاة الجماعة، دَعْ عنك أصل الصَّلاة، تراهم في قيامهم وقعودهم خاشعين، كأنَّهم على حياءٍ من الله يقولون: سبحانك ما عبَدْناك حقَّ عبادتك!

ليلهم، وما أدراك ما ليلهم؟! نحيب الثَّكالى يتوارى عند نشيجهم: ﴿كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ﴾ [الأنفال: 6]، صلاتُهم في الظَّلام تُجَلَّل بأنوار الكرامة، فهُم في حُلَلها يتبخترون، وببهاء مُناجاتهم لربِّهم يتيهون، مَحَا استغفارُ الأسحار سخائمَ -أحقادَ- قلوبِهم، فهم في نعيم الأنس يتقلَّبون، وبلذيذِ الخِطَاب يستمتعون.

واعلم أيُّها النبيه أنَّ مِن تمام سعيك لتحصيل المغفرة من شهر رمضان أن تبحث لك عن شيخٍ مُرَبٍّ أريب، قد يكون ظاهرًا أو خفيًّا، قد يكون عالِمًا أو طالب علم، ولكنَّك من لَحْظِه ولفظه تعلم أنَّه صاحب سرٍّ مع الله، ومثل هؤلاء يشتهر أمرهم غالبًا بين الناس، وإن بالغوا في التخفِّي؛ فلن تعدم من يدلُّك عليهم إذا أكثرت التَّسْآل عنهم، وشرط انتفاعك بهم أن يكونوا من أهل السُّنة، والنُّسك السَّلفي، فهؤلاء هم أمَنة الأمَّة وهُداتها.

ومثل هؤلاء تنتفع بِهَديهم ودَلِّهم وسَمْتِهم، وبِفعالهم قبل أقوالهم، تراهم في الصَّلاة نَمُوذجًا للتبتُّل والتنسُّك، تكبيرتهم في الصَّلاة -وإن خفتَتْ بها أصواتهم- فكأنَّها صرخة في مجرَّات الكون بحقيقة أكبريَّة الله -عزَّ وجلَّ- ركوعهم وسجودهم رمز السُّجود لكلِّ الكائنات، إذا أبصرَتْ عيناك عبادتَهم ودِدْتَ لو سبَّحَت الخليقة كلُّها بتسبيحهم، ولعلَّها تفعل! أمَّا قال الله -تعالى- عن داود: ﴿إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ﴾ [ص: 18 - 19]، فاللَّهم إنا نسألك صحبة الصَّالِحين، وألْحِقنا بهم يا ربَّنا في جنات النعيم.
--------------------------------------------------------