الإســلام دين الوسطيــة
د. يوسف جمعة سلامة
الإســلام دين الوسطيــة Ocia1441
الحمد لله، له أسلمت، وبه آمنت، وعليه توكلت، والصلاة والسلام على سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد،،،

من فضل الله على الأمَّة الإسلامية أن جعلها أمَّة وسطاً، فالوسطية من خصائص الأمَّةِ الإسلامية لقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (1)، فالإسلام دين صالح لجميع الناس، ولكل زمان ومكان، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، والدين الإسلامي دين رحمة: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (2)، حيث جاءت تشريعات الإسلام ملبية لكل حاجات الإنسان الروحية والمادية في توازن محكم دقيق، يُعطي للبدن حقه، كما يُعطي للروح حقها، فالإسلام يهتم بالفرد والمجتمع معاً، حيث يرى أن الفرد المُكرَّم هو أساس المجتمع الصالح، فيوليه اهتمامه، ويرى للمجتمع من الحقوق على الفرد، ما يحقق مصلحة مجموع الأفراد، حيث إنه يلتزم سلوكاً متوازناً في استيفاء الحقوق وأداء الواجبات، فلم يرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن كل من حاول الانحراف عن وسطية الإسلام، ظنًّا منه أن ذلك هو التدين الحق، حيث قال -عليه الصلاة والسلام-: "أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمَنْ رَغِبَ عن سُنَّتِي فليس مِنِّي" (3).

والإسلام يرفض الإخلال بالتوازن الذي شرعه لتلبية كل مطالب الروح والجسد، حيث يقول -صلى الله عليه وسلم-: (هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون) (4)، فأمتنا هي الأمة الوسط، والأمة الخيِّرة التي ختم الله بها الأمم، وختم برسولها -عليه الصلاة والسلام- الأنبياء والمرسلين، وخصَّها اللهُ تعالى بأكمل الشرائع، وأوضح المناهج وأقومها، لتقوم برسالتها، وتؤدي مهمتها العظيمة في الحياة، فقد أكمل الله لها الدين وأتَمَّ النّعمة، ورضي لها الإسلام ديناً حقق العدل الإلهي على أكمل وجه، حيث يقول عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} (5).

إن وسطية الأمة الإسلامية مستمدة من وسطية منهجها، فهو منهج وسط لأمة وسط، إنه منهج الاعتدال والتوازن بدون إفراط ولا تفريط ولا غلو ولا تقصير.

التوسط في العبـــادة
إن العبادات في الإسلام مبنية على الاعتدال والتوسط، لأن الشريعة الإسلامية هي خاتمة الشرائع السماوية وهي مشتملة على اليسر ورفع الحرج، والذي يقرأ القرآن الكريم يجد أن الله سبحانه وتعالى قد كرر في آيات متعددة، أن شريعة الإسلام مبنية على اليسر لا على العسر، وعلى السماحة ورفع الحرج، لا على التشدد والغلو والتطرف، فقد ذكر الشيخان في صحيحيهما حديثاً هذا نصه: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- يسألون عن عبادته، فلمَّا أُخْبِرُوا بها كأنهم تقالُّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ قد غُفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، قال أحدهم: أمَّا أنا فأصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدَّهرَ ولا أفطر، وقال الثالث: وأنا أعتزل النّساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليهم فقال: "أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوَّجُ النساء، فمَنْ رَغِبَ عن سُنَّتِي فليس مِنِّي" (6).

وعند قراءتنا لهذا الحديث الشريف الذي بين أيدينا نجد أنه يعالج الغلو والتشدد بشكل مقنع، فقد كان الدافع وراء غلوِّ هؤلاء أنهم رأوا اجتهاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في العبادة، على الرغم من أن الله قد غفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، وأحسُّوا أنهم دون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بكثير، وقد ظهر هذا من قولهم: وأين نحن من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟، وظنُّوا أنهم بتشددهم وغُلوِّهم سيكونون أكثر قرباً من الله وتعبداً، فأزال النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه الشبهة من تفكيرهم بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمَن رَغِبَ عن سُنَّتِي فليس مِنِّي".

ونتعلَّم من هدى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجوب التيسير على الأمَّة، حيث إن الله سبحانه وتعالى قد أخبر عن حبيبه -صلى الله عليه وسلم- أنه يَعِزُّ عليه أن تقع أمَّتَهُ في مشقة وأنه حريص عليها، كما في قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (7).

التوسط في الإنفاق
إن ديننا الإسلامي يعلن حملة كبيرة على الإسراف والتبذير، وحملة مقابلة على التقتير والبخل، حيث إن الإسلام يدعو أتباعه إلى الإنفاق والبذل من غير إسراف أو تقتير، مقتدين بالمنهج القرآني الذي رسمه الله سبحانه وتعالى في قوله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (8).

قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-:
(أي: ليسوا بمبذرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهليهم فيقصرون في حقهم، فلا يكفونهم، بل عدلاً خياراً، وخير الأمور أوسطها، لا هذا ولا هذا) (9).

فالتصرف المعتدل من سمات الشخصية المسلمة، التي تتحاشى الإفراط والتفريط، كما في قوله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا} (10)، وهذا ما نتعلمه من هديه -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه عندما جاءوا إليه -صلى الله عليه وسلم- يستشيرونه في التبرع بكل ما يملكون، فكان يرشدهم إلى جواز التبرع بالربع أو الثلث أو النصف حسب الروايات المختلفة، مبيناً لهم أن الأفضل لهم أن يتركوا أبناءهم يعيشون حياة كريمة بدلاً من أن يمدوا أيديهم إلى الآخرين ويكونون عالة عليهم.

إن المؤمن مطالب بالاعتدال في النفقة على نفسه وعلى أسرته وعلى أقاربه وعلى الفقراء والمحتاجين والأرامل واليتامى، وكل نوع من المعروف صدقة، فإنفاق الرجل على أسرته وتعهده مطالب أولاده في الإطعام والنفقة والكسوة والتعليم وكل مطالب الحياة،كل أولئك للمؤمن عليها أجر وثواب، أجر لرعاية أسرته، وثواب لأنه أحسن الرعاية وقام بالنفقة.

التوسط بين الروح والجسـد
لقد عُني ديننا الإسلامي عناية كبيرة برعاية الجسد ورعاية الروح، ولم يركز على جانب دون الآخر كما في قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (11)، ونسوق هنا حديثاً روته أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: (دخلتْ عليَّ خُويلةُ بنت حكيم بن أميَّة بن حارثة بن الأَوْقَص السُّلَميَّةُ وكانت عند عثمان بن مظعُون، قالت: فرأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذَاذَةَ هيئتها، فَقَالَ لي: يا عائشةُ، ما أبذَّ هيئةَ خُويلةَ، قالت: فقلتُ: يا رسول الله، امرأةٌ لا زوج لها، يصوم النهار ويقوم الليل، فهي كمَنْ لا زوج لها فتركت نفسها وأضاعتها، قالت: فَبعَثَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى عثمان بن مظعُون، فجاءهُ فقال: يا عُثمانُ، أرغبةً عن سُنَّتي؟ قال: فقال: لا والله يا رسول الله، ولكن سُنَّتَكَ أطلُبُ، قال: فإنِّي أنامُ وأُصلِّي، وأصُومُ وأفطرُ، وأنكحُ النساء، فاتَّق الله يا عثمان، فإنَّ لأهلك عليك حقًّا، وإنَّ لضيفك عليك حقًّا، وإن لنفسك عليك حقًّا، فَصُم وأفطر، وصَلِّ وَنَمْ) (12).

هذا الموقف الذي بين أيدينا يعالج قضية مهمة، وهي كيفية الموازنة بين مطالب الدنيا ومطالب الآخرة، وبين سعي الإنسان لدينه وسعيه لدنياه، كما يعالج هذا الحديث ما يقع فيه كثير من الناس حين يبالغون في الاهتمام بجانب من جوانب حياتهم ويهملون جوانب أخرى، لها حقوق أوجبها الله سبحانه وتعالى، فمن الناس من يُشغَل بعمله وينسى أهله، ومنهم من يبالغ الاهتمام بالعلم ويقصر في حق أهله، ومنهم من يُشغل بالعبادة عن حال أهله، لذلك يجب على الإنسان أن يوازن بين جميع مطالب الحياة، فالدنيا مزرعة الآخرة.

إن التوسط والاعتدال مطلوب منّا في جميع مناحي الحياة حتى نعيش حياة كريمة كما أرادها الله سبحانه وتعالى لنا.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

الهوامش:
1- سورة البقرة الآية (143).
2- سورة الحـج الآية (78).
3- أخرجه البخاري.
4- أخرجه مسلم.
5- سورة المائدة الآية (3).
6- أخرجه الشيخان 7- سورة التوبة الآية (128).
8- سورة الفرقان الآية (67).
9- مختصر تفسير ابن كثير للصابوني 2/639.
10- سورة الإسراء الآية (29).
11- سورة الأعراف الآية (32).
12- أخرجه أحمد.

بقلم: د. يوسف جمعة سلامة
خطيب المسجد الأقصى
المصدر: موقع بيان الإسلام
الرابط:
http://bayanelislam.net/