الفصل السادس
محمد الرسول والمُعجزات
لقد ذكرت الدراسات التاريخية الإسلامية، وخاصة كتب السيرة والحديث علامات النبوة وبشائر الرسالة، نقلاً عن الرواة الأوائل الذين أكثروا من ذكرها، تعظيماً لمكانة الرسول وإعلاء لقدر الرسالة... ولقد وقف عدد  من الباحثين والمفكرين العرب والمستشرقين الغربيين موقفاً نقدنيا من مسألة علامات النبوة هذه...

يقول صاحب العبقريات عباس محمود العقاد في كتابه "عبقرية محمد" عن بشائر الرسالة:
((والمؤرخون يجهدون أقلامهم غاية الجهد في استقصاء بشائر الرسالة المحمدية.. يسردون ما أكده الرواة منها وما لم يؤكدوه وما قبله الثقات منها وما لم يقبلوه، وما أيدته الحوادث أو ناقضته، وما وافقته العلوم الحديثة أو عارضته، ويتفرقون في الرأي والهوى بين تفسير الإيمان وتفسير العيان، وتفسير المعرفة وتفسير الجهالة، فهل يستطيعون أن يختلفوا لحظة واحدة في آثار تلك البشائر التي سبقت الميلاد حين ظهرت الدعوة واستفاض أمر الإسلام ؟ لا موضع هنا لاختلاف.. فما من بشائرة قط من تلك البشائر كان لها أثر في إقناع أحد بالرسالة يوم صدع النبي بالرسالة، أو كان ثبوت الإسلام متوقفا عليها.

لأن الذين شهدوا العلامات المزعومة يوم الميلاد، لم يعرفوا يومئذ مغزاها ومؤداها، ولا عرفوا أنها علامة على شيء أو على رسالة ستأتي بعد أربعين  سنة. ولأن الذين سمعوا بالدعوة وأصاخوا للرسالة بعد البشائر بأربعين سنة، لم يشهدوا بشائرة واحدة منها ولم يحتاجوا إلى شهودها ليؤمنوا بصدق ما سمعوه واحتاجوا إليه.

وقد ولد مع النبي عليه السلام، أطفال كثيرون  في مشارق الأرض ومغاربها، فإذا جاز للمصدق أن ينسبها إلى مولده جاز للمكابر أن ينسبها إلى مولد غيره. ولم تفصل الحوادث بالحق بين المصدقين والمكابرين إلا بعد عشرات السنين... يوم تأتي الدعوة بالآيات والبراهين غنية عن شهادة الشاهدين وإنكار المنكرين.

أما العلامة التي لا التباس فيا ولا سبيل إلى إنكارها فهي علامة الكون وعلامة التاريخ.

قالت حوادث الكون: لقد كانت الدنيا في حاجة إلى رسالة.

وقالت حقائق التاريخ: لقد كان محمد هو صاحب تلك الرسالة...

ولا كلمة لقائل بعد علامة الكون وعلامة التاريخ)).

معجزات الرسول في المنجزات الحقيقية
إلا أن المعجزة الحية الباقية حتى يومنا هذا هي إنجازات الرسول التي كانت عملياً ضرباً من ضروب الخوارق الإنسانية حين أخرج العرب من ظلمات الجاهلية إلى حضارة الإسلام التي تشع بأنوار المدينة التي هيهات أن تنطفيء.

يقول الشاعر اللبناني الكبير بشائرة الخوري (1885 -1968م) الكبير بالأخطل الصغير في صحيفة البرق متحدثاً عن الإصلاح الديني الاجتماعي للرسول:
((أن للرسول محمد في عنفوان شبابه من المعجزات ما يقف دونه الفكر صاغراً، ولكن له وهو في أيام الدعوة ما تصغر عنده عظمة العظيم، ويبطل عنده سحر الساحر، إنه وقد أخرج أمة بأسرها من ظلمات الجاهلية إلى أضواء المدنية، إنه وقد أبدل معائب الجاهلية بمحاسن الإسلام، وإنه وقد أبطل وأد البنات، وحرم الزنى، ونقى القلوب من العداوات، إنه وقد أذل لسيفه كل سيف، ولعرشه كل عرش، إنه وهو كذلك ليس في عيني أعظم منه، وهو الابن الناشيء فقيراً، الدارج يتيماً، الحامل السعد في وجهه، والطمر في قلبه، والأمل في عينيه، والحكمة في شفتيه)).

القرآن معجزة الرسول الخالدة
هذا، ولقد اتفق العلماء والعرب والستشرقون الغربيون على أن القرآن هو المعجزة الحقة للرسول:
يقول المستشرق الإنكليزي بوسورث اسمث (1815-1892م) في مقدمة كتابه: «الأدب في آسيا»:
((أن المعجزة الخالدة التي أداها محمد هي القرآن والحقيقة إنها لكذلك، وإذا قدرنا ظروف العمر الذي عاش فيه، واحترام أتباعه إياه  احتراماً لا حد له، ووازناه بآباء الكنيسة أو بقديس القرون الوسطي، تبين لنا أن أعظم ما هو معجز في محمد نبي المسلمين أنه لم يدع القدرة على الإتيان بالمعجزات وما قال شيئاً إلا فعله وشاهده منه في الحال أتباعه، ولم ينسب إليه الصحابة معجزات لم يأتها أو أنكروا مبدأ صدورها منه، فأي برهان أقطع من ذلك، ولقد كان محمد يذهب من آخر حياته كما ذهب من مبدأ أمره إلى أنه رسول الله حقاً، وإني أعتقد أن الفلسفة المسيحية المالية ستعترف له بذلك يوماً من  الأيام)).

بداهة الرسالة
ويتحدث المستشرق الفرنسي الفونس آتيين دينيه (1861 - 1929م) عن حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- الحافلة بالعظام، بأنه -عليه السلام- لم يعتمد في نشر الرسالة الاسلامية على الخوارق والمعجزات المادية وتلك مأثرة عظيمة له، يقول في كتابه: "محمد رسول الله":
((والحق أنا نرى من بين جميع الأنبياء الذين أسسوا ديانات، أن محمداً هو الوحيد الذي استطاع أن يستغني عن مدد الخوارق والمعجزات المادية، معتمداً فقط على بداهة رسالته ووضوحها، وعلى بلاغة القرآن الإلهية، وإن في استغناء محمد عن مدد الخوارق والمعجزات لأكبر معجزة على الإطلاق)).

حقيقة مآثر الرسول
ويتابع الكبير الفرنسي في دراسة شخصية الرسول -صلى الله عليه وسلم- مبرزاً عظمته وكمالاته العليا، يقول:
((إن في مرأى المؤمنين وفي أعمالهم لصورة تلمحها منعكسة من مآثر محمد، وإذا ما كانت بالطبع باهتة قياساً إلى كمالاته العليا، فإنها لا جدال في صحتها، هذا على حين نجد قياصرة روما مع دقة تماثيلهم لا يطالعنا منهم سوى قناع مزيف لوجوههم الجامدة تحت صورة من الخيلاء، أن صورهم تظل ميتة يعجز خيالنا عن أن يلمح لها شيئاً من الحياة، وإنه لبوحي هذه الحقيقة المقررة أن قامت برؤوسنا فكرة نشر لوحات في تاريخ محمد هذا، تمثل المآثر الدينية لأتباعه، وبعض صور من حياة محمد، وبعض مدن الحجاز الذي هو وطنه)).

المعجزات بين الحقيقة التاريخية والمآثر الشعبية
ويتناول المستشرق  جوستاف جرونيباوم مؤلف كتاب: «حضارة الإسلام»، القصص التي نسجتها المخيلة الشعبية والدوافع التي كانت وراء تلك القصص التي هي مستلهمة من الأعمال العظيمة والخارقة والحقيقية في حياته..

يقول جرونيباوم:
((إن انطواء حياة الرجل العظيم على قدر من الشرارة الإلهية أقوى بأساً مما لدى إخوانه الضعفاء لآية حافلة بالمعاني للعالم كافة!

ذلك أن رسالته تؤذن ببدء مرحلة جديدة في قصة هذا العالم.

ولا شك أن القوى التي يفك أسارها ستكون رهن إشارته، وستكون أهم أدوار مقامه في هذه الأرض موضع الترحاب أو المحاكاة من العالم الذي كان مجرد ظهوره فيه ذا أثر في خطه ومجراه!

وإن القلوب الساذجة العقل لتروح تنسج الخوارق وشياً تحيط به حياة الرجل العظيم، غافلة عن أن هذه الخوارق تغض من شأن النصر الإنساني الذي يحرزه بطلها)).

ويذكر جرونيباوم أن الرسول كان حريصاً على التأكيد بأنه بشر صدع بأمر من الله لنشر رسالة الإسلام، يقول:
((حرص محمد مدة رسالته على أن يؤكد للناس أنه بشر، ذو طبيعة إنسانية  وأنه بفضل من الله اختير رسولاً و-صلى الله عليه وسلم- تعالى.. وفيها عدا هذه الخصوصية -خصوصية اختياره للرسالة- ليس ثمة شيء يفرق بينه وبين إخوانه من البشر.

وإن علمه بالغيب لمحدود بما يريد الله أن يُعلمه إيَّاه.

فكل ما لم يرشده إليه الوحي فأمر قد يضل فيه السبيل.

و كلما لج أعدائه في تحديهم إياه بأن يثبت أقواله بإحدى المعجزات أبى ذلك. غير عابيء بسخرية الساخرين، وخيبة أمل المتشكيين.. ذلك أن رسالته هي آيته، إمارته!.

(وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه؟ قل إنما الآيات عند الله، وإنما أنا نذير مبين، أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يُتلى عليهم؟ إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون) (29/50 - 51).

ويحلل جرونيباوم الأسباب التي دفعت كتاب سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في سياق تعظيم الرسول إلى إضفاء المعجزات والخوارق عليه تأكيداً لصورة القداسة والاحترام الماثلة في نفوس المسلمين...

يقول جرونيباوم:
((ولم يكد ينقض على وفاته طويل زمن حتى ثار الخيال الشعبي متغلباً على نصوص الوحي نفسها، ومغطياً الاحتجاجات الفاترة التي أبداها ذوو الضمير الحي من الفقهاء -وراح يقص من جديد سيرة النبي واضعاً إيَّاهُ في صورة الساحر القوي-!!.

ولقد رانت عليهم تلك الرغبة الساذجة في تعظيم البطل برفعه فوق درجة الإنسانية إلى أقص حد مستطاع، وظاهرها على ذلك التقليد العريق الذي يؤكد من الكبير الشخصية الفذة، بما ينسب إليها من تعاون العالم الروحي كله وإياها))..

دين الفطرة ونفي الخوارق
ويخلص المفكر ديزيريه بلانشيه مؤلف كتاب: "دراسات في التاريخ الديني" إلى الرأي القائل إن حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد خلت من الخوارق والمدهشات وإن الإسلام دين الفطرة، لم يقبل بمبدأ الخوارق، وإن معجزة الرسول الحقيقية قد استندت إلى الواقع الحي، والأرض الصلبة، وانه لم يكن له إلا نبوءته ورؤاه للمستقبل.

يقول ديزيريه بلانشيه:
((ومن جانب آخر ينبغي أن نذكر أن الدين الإسلامي نحالف كل المخالفة لهذه الأبراج المتشامخة التي تسقط من ضربة واحدة، لأن له قوة كامنة وصلابة ومتانة.. وفي الواقع، فبماذا يمكن أن يهاجمه النقد، في تاريخ محمد أنه تقريباً خال من الخوارق والمدهشات، وليس فيه تقريباً من المسلمات إلا ما في الديانة الكاثوليكية من معتقدات طاهرة نقية. فهل توجد هذه الخوارق في الشعائر والطقوس، إنك لو رجعت بالدين الإسلامي إلى قواعده الأساسية لما وجدته قد زاد على الدين الفطري إلا نبوءة محمد، وإدراكاً حقيقياً وفهماً صحيحاً لمعنى القضاء والقدر الذي يعد صفة عامة لكل الذين يدركون بقوة عقولهم، ودقة شعورهم: أنهم في احتياج شديد إلى أن يسيروا في هذه الحياة بنظام دقيق، وخطة محكمة، أكثر مما يعد عقيدة من العقائد، أو أصلاً من أصول الأيمان  الخ)).

المعجزات الإلهية
أمَّا المفكر الإنكليزي صاحب كتاب: "الأبطال"، توماس كارليل فيرى أن الرسول في سيرته الحياتية لم يعتمد مطلقاً على المعجزات، وإنما يذكر من يدعوهم إلى الإسلام بالمعجزة الإلهية التي تكمن في سر الوجود المبثوث في الكون، إنها المعجزة التي تؤكد حقيقة الخالق وعظمته.

يقول كارليل:
((وكان محمد إذا سئل أن يأتي بمعجزة قال: حسبكم بالكون معجزة، انظروا إلى هذه الأرض، أليست من عجائب صنع الله وآية على وجوده وعظمته؟ هذه الأرض التي خلقها الله لكم ونهج لكم فيها سبلاً تسعون في مناكبها وتأكلون من رزقه، وهذا السحاب المسير في الآفاق لا يدرى من أين جاء وهو مسخر في السماء كل سحابة كمارد أسود، ثم يسح بمائه ويهضب ليحيي أرضاً مواتاً، ويخرج منها نباتاً وغيلاً واعانباً، أليس ذلك آية، والأنعام خلقها لكم تحول الكلأ لبناً وهي فخر لكم، والسفن -وكثيراً ما يذكر السفن- كالجبال العظمة المتحركة تنشر أجنحتها وتحتفز في سوا، اليم لها حاد من الريح، وبينا تسير إذا هي قد وقفت بغتة، وقد قبض الله الريح. معجزات والله كل هذه، وأي معجزات بعدها تريدون، ألستم أنتم معجزات؟ لقد كنتم صغاراً وقبل ذلك لم تكونوا البتة ثم لكم جمال وقوة وعقل، ثم وهبكم الرحمة أشرف الصفات، وتهرمون ويأتيكم المشيب وتضعفون وتهن عظامكم وتموتون فتصبحون غير موجودين "ثم وهبكم الرحمة" لقد أدهشتني جداً هذه الجملة، فإن الله ربما كان خلق الناس بلا رحمة، فماذا كان يكون أمرهم ! هذه من محمد نظرة نافذة إلى لباب الحقيقة، وكذلك أرى في محمد دلاثل شعرية كبيرة، وآيات على أشرف المحامد وأكرم الخصال، وأتبين فيه عقلاً راجحاً وعيناً بصيرة وفؤاداً صادقاً ورجلاً قوياً عبقرياً، لو شاء لكان شاعراً فحلاً أو فارساً بطلاً أو ملكاً جليلاً، أو أي صنف من أصناف البطولة)).

عالمية المعجزة المحمدية
ولكن، إن أجمعت غالبية الدراسات الاستشراقية على نفي صفة الخوارق والمعجزات عن إلى سول -صلى الله عليه وسلم- ورأت في نضاله الملحمي معجزته الإنسانية الكبرى، فإن العلامة البريطاني المستشرق هيليار بلارن يرى في مؤلفه: «فكرة الحياة» معجزة رسالة الإسلام في الإنجازات التي حققتها حين وحدت بلاد العرب، وأكدت كونيتها بخروجها من النطاق العربي إلى الصعيد العالمي، فكانت حقيقة ثابتة وحضارة مشرقة.

يقول هيليار بلارن:
((بينما كانت مدن الإمبراطورية البيزنطية، تحتفل بانتصارات الإمبراطور هرقل على الفرس، وبينما كان الناس في سرور وجذل عظيمين، حدثت العجزة المحمدية، حدث من لم يكن أحد ينتظره ولا يفطن له، حدث أمر كان أقرب إلى الهزة الأرضية أو الفيضان العام في سرعته وشدته، ووقوعه دونما سابق إنذار ولا إشارة.

لم يكن هناك أعراض سبقت هذا الحدث العظيم الضخم، ولا إمارات تدعو إلى انتظاره والتهيؤ له، ولم يكن مضى على انتصارات، هرقل الكبير سنوات قلائل، لما مشى إلى أرض الإمبراطورية فرسان من الصحراء، ما سمع عنهم أحد شيئاً إلا ما كان يقال من أنهم جماعة يضربون أرض الصحراء على خيولهم وإبلهم طلباً للكلأ والماء، وأنهم قوم من البدو)).

ويمضي هيليار بلارن فيقول:
((إني أقول إن معجزة كهذه من حيث خطرها، وبعد أثرها،وعظيم نتائجها، كانت مسوقة بقوة لا يستطاع تفسرها، وإن كان ما لدينا من المصادر والوثائق يساعدنا على تفهم الأسباب التي جعلتها أمراً واقعاً منظوراً)).