الفصل الخامس
محمد والقيادة العسكرية
العبقرية والفداء
من خلال الدراسة التي استعرضنا فيها سيرة رسول الله، عبر المواقف الاستشراقية، ركزنا على نقاط هامة، في حياة الرسول، الشجاعة والصبر والثبات على العقيدة، سواء تعلق الأمر  بمواجهة مشركي قريش في مكة، عند بدء الدعوة واضطهاد المسلمين الأوائل، أو في العمل العظيم الذي اضطلع به وهو انتقاله من مكة إلى يثرب التي غدت المدينة، فيما عرف بالهجرة التي عدها المستشرق الروماني ك. جيورجيو أعظم عمل فدائي قام به محمد -صلى الله عليه وسلم- في سبيل الإسلام حين انفصم عن قبيلته فداء "لعقيدته" أو في القيادة العسكرية السياسية التي خاضها طوال مدة إقامته في المدينة، فكان أن صارع قوى المشركين  طوال عشرة أعوام صراعاً توج بانتشار الإسلام في ربوع جزيرة العرب..

القائد العسكري اللامع والمُشَرِّعِ العظيم
وجدير بالذكر أن الرسول، قبل أن يصدع بالرسالة لم يكن بالرجل المحارب بل شهر بالوداعة والهدوء، لكنه غدا القائد العسكري اللامع والمشرع العظيم حين عمل على نشر الدين الإسلامي.

يقول المستشرق القس دافيد بنجامين كلداني، الذي اعتنق الإسلام وتسمَّى بـ عبد الأحد داود - يقول في كتابه: «محمد في الكتاب المقدس»:
((وقبل أن يُرسلَ اللهُ  مُحَمَّداً بالدعوة إلى الإسلام وإزالة الوثنية، الأمر  الذي حققه بنجاح، كان أهدأ وأصدق رجل في مكة. ولم يكن بالمحارب أو المشرع، ولكن بعد أن تحمَّل رسالة النبوة،أصبح أفصح المتكلمين  وأشجع العرب، وكان يُحارب الكفار وسيفه في يده، ليس لمصلحته الشخصية، ولكن من أجل مجد الله، وقضية دينه، وهو الإسلام  وقد عرض اللهُ عليه مفاتيح كنوز الأرض، ولكنه رفضها، وعندما توفي كان فقيراً)).

العبقرية العسكرية في وضع الخطط
لقد ظهرت  عبقرية الرسول العسكرية في أخطر المعارك وأشدها هولاً، أولاً معركة بدر، حيث رتب قوى المسلمين بشكل مثلث، وكان بوضع مكنه من جعل كل جندي مسلم أن يستقبل بمفرده العدو من غير استدبار حسب رأي جيورجيو، فحاز بفضل تلك العبقرية مع إيمان المسلمين العميق راية النصر، وكانت بالتالي هزيمة جيش يفوق عدده ثلاثة أضعاف الجيش الإسلامي.

كما برزت عبقرية الرسول العسكرية في موقعة أحد، حين درس طبيعة الموقع العسكري، وتنبه لمكمن الخطر، فكان أن وضع خطة مدروسة في تشكيل الصفوف المتكاملة المتراصة، حتى لا يمكن للخصم أن يشق الصفوف، مما مكن جيش المسلمين من مواجهة جيش العدو الذي يفوقه عددياً بأربعة أضعاف، وكانت بشائر النصر مواكبة للمسلمين لولا الخطأ الذي ارتكبه النبالة مخالفوا أوامر الرسول طمعاً في الغنائم..

النبوغ الفكري في استنباط الخطط وتنفيذها
كذلك برزت عبقرية الرسول العسكرية حين تبنى مشورة سلمان الفارسي بحفر الخندق في معركة الأحزاب، هذه الخطة التي أثارت إعجاب الباحثين العسكريين في الشرق والغرب، فالنبوغ العسكري -برأي جيورجيو- ليس في استنباط الخطط وحسب، بل في تنفيذها أيضاً... ولا يغرب عن البال كيف برزت شخصية القائد العسكري للرسول في أحلك الظروف وخاصة في معركة حنين، حين تمكن من تحويل الهزيمة إلى نصر.

ولقد حَلَّلَ الباحث العسكري محمود الدرة، هذه الواقعة بقوله:
((ليس في حياة قادة الجيوش مواقف عصيبة وخطرة كموقفهم من هزيمة جيوشهم في ميدان المعركة، وقلائل في التاريخ هم الذين استطاعوا بفضل شخصياتهم وعزائمهم وقف تيار الهزيمة  في جنودهم والحيلولة دون وقوع الكارثة والخسران. والنادر فيهم مَنْ حَوَّلَ الهزيمة  إلى نصر. أمَّا محمد القائد وقد تحدثنا عن موقفه في معركة أحُد وتحويله تيار المعركة من هزيمة مُنكرة إلى انسحاب ناجح نراه في هذا الموقف في أوج عظمته ومجده العسكري الخالد، ولا نُغالي إذا قلنا  إنه بَزَّ مَنْ كان قبله في هذا المضمار ولم يشاركه في مجده هذا أحد قبله، حيث لم يستسلم للأمر الواقع ولم تخذله نفسه كما خذلت قبله، حيث لم يستسلم للأمر الواقع ولم تخذله نفسه كما خذلت اثني عشر ألفاً من جنده  نفوسهم)).

شخصية الرسول وتحويل الهزيمة إلى  نصر
ويتفق جيورجيو مع محمود الدرة بالرأي حول الدور الذي لعبته شخصية الرسول، في تحويل الهزيمة إلى نصر، والفرار إلى ثبات، فتجمع فانتصار، بقوله:
((وقد كانت صلابة محمد -صلى الله عليه وسلم- وجلادته سبباً في توقف المحاربين عن هربهم.. فكان أن انتهت معركة حنين بنصر المسلمين)).

أعظم القادة الدينيين
ويتحدث المستشرق الكندي الدكتور زويمر (13 18 -  1900م) في كتابه: "الشرق وعاداته" عن جماع صفات  الرسول، التي من أرزها القيادة والجرأة إلى جانب كونه رجل فكر وإصلاح.

يقول الدكتور زويمر:
((أن محمداً كان ولا شك من أعظم القواد المسلمين الدينيين، ويصدق عليه القول أيضاً أنه كان مُصلحاً قديراً وبليغاً فصيحاً وجريئاً مغواراً، ومفكراً عظيماً، ولا يجوز أن ننسب إليه ما يُنافي هذه الصفات، وهذا قرآنه الذي عَمَرَ صدره، تاريخه يشهدان بصحة هذا الادعاء)).

الدروس العسكرية المستقاة من حروب الرسول
هذا، ولقد استخلص الباحث العسكري محمود الدرة، في كتابه معارك العرب الكبرى، الدروس العسكرية في حروب الرسول -صلى الله عليه وسلم- التي نضعها بنقاط محددة:
1.    في تأليف وتنظيم الجيوش، فكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- أول من عبأ معباً كاملاً في هذه الحرب الدفاعية لحماية الدعوة الإسلامية..

2.    في أسلوب القتال: وضع الخطط العسكرية المناسبة واستخدامه طبيعة أرض المعركة.

3.    وضع مباديء جديدة للحرب، منها أولاً المباغتة، إذ يتحرك بكتمان وسرية وحذر، ويستخدم أسلوب التورية.. وثانياً الاستطلاع وترصد حركة الخصوم.. وثالثا المقدرة على الحركة، فقد أثبت جيش المسلمين قدرته على السير مسافات بعيدة بسرعة فائقة مع الصبر على شظف العيش، واحتمال قسوة الطبيعة والمناخ...

4.    التوفيق بين السياسة والحرب، وذلك بعقده العهود والمحالفات مع القبائل العربية والاهتمام بالجبهة الداخلية، لئلا يؤخذ المسلمون على حين غرة، ولم يكن الرسول يكتفي بالنصر العسكري بل يسعى دائماً إلى تحقيق نصر سياسي في كسب الخصوم والأعداء...

5.    استخدام سلاح الدعاية، وخلق ما يسمى بالرتل أو الطابور الخامس في قلب الأعداء، ولنذكر كلمة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في وصف هذا السلاح حين قال: "نصرت بالرعب مسيرة شهر"، كما يؤكد خطورة أسلوب الدعاية تمهيداً لتحقيق النصر العسكري في ميادين القتال، وإلى جانب الحرب الدعائية استخدام الرسول أيضاً، الخدعة والتمويه، وهو القائل "الحرب خدعة"، وكذلك حرب الأعصاب لبلبلة صفوف الأعداء وإدخال الوهن في عزائم المحاربين)).

هذا، وإن المعارك العديدة التي خاضها الرسول بنفسه خلال عشرة أعوام والتي بلغت تسع عشرة غزوة، وكذلك السرايا التي أنفذها، قد أثبتت مكانته العسكرية ومزاياه القيادية حتى تمكن من تحقيق النصر العظيم، ففي السنة التاسعة للهجرة كان محمد -صلى الله عليه وسلم- حسب تقرير جيورجيو: «قد فتح الجزيرة العربية كلها، وغدا الجميع مسلمين أو إلى جانب المسلمين، وقد انتشر الإسلام من السنة الأولى للهجرة إلى السنة العاشرة بمساحة قدرها 822 ألف كم2 تقريباً)).

أن الإنجاز العظيم الذي حققه الرسول كقائد عسكري ومُشَرِّعٍ ومُناضل لمحو الوثنية من جزيرة العرب، بله النصر العظيم الذي حققه في نشر الإسلام بسائر أرجاء الجزيرة العربية لم يكن سوى جانب واحد من جوانب عبقريته العسكرية، إذ  وضع كذلك أساس مجابهة الدولة البيزنطية، حين قام بحملته العسكرية الأخيرة التي عرفت باسم غزوة تبوك، وكان من نتائج ثمارها أن عقد الكثير من الأمراء العرب المسيحيين المتحالفين مع الدولة البيزنطية، معاهدات معه "على عدم المهاجمة والحرب والوقوف على الحياد"... وليس هذا فقط بل صَمَّمَ عملياً على غزو سورية وعقد لواء القيادة لأسامة بن زيد تنفيذاً لهذا الهدف قبل أن يلقى ربه بقليل.

يقول الباحث العسكري محمود الدرة:
((وهذا جيش أسامة بن زيد الذي أمر محمد -صلى الله عليه وسلم- بتكوينه كان آخر عمل يقوم به في هذا السبيل -تقرير حرية الدعوة للعقيدة وتحرر العالم من عبودية الطغاة المستبدين- ولم تنسه حتى سكرات الموت الأمر بإنفاذه والدعاء لقائده بالنصر لتحرير العرب من حكم المتعبدين ليخطوا بعد ذلك خطواتهم الحاسمة لتحطيم قوى الشر والعبودية التي كانت تخيم على العالم المعروف)).