الفصل الرابع
محمد الداعية والقيادة الفكرية
أن الصفة القيادية للرسول بتعدد أشكالها تتجلى بتكامل تلك الشخصية فهو إلى جانب دوره الكبير الذي لعبه في إطار سيرته الحياتية كنبي وقائد سياسي وعسكري ومصلح اجتماعي كان يبرز دائماً كرجل فكر وداعية، إلى جانب ما وهب من الخيال والنبوغ والبحث.

يقول المستشرق الإنكليزي المؤرخ داز (1812-1907م) في كتابه «مع الشرق والغرب»:
((أن محمداً كان مجموعة من الخيال والنبوغ والبحث: كان محمد زراعياً وطبيباً وقانونياً وقائداً، اقرأ ما جاء في أحاديثه تعرف صدق ما أقول)).

أجل، أن عودة إلى دراسة السنة النبوية وكتب الأحاديث والإطلاع على مواقفه المتعددة في السيرة الرشيدة لتوضح لنا أي رجل فكر كان.. وحسبنا علماً أن السنة هي المصدر الثاني للتشريع الإسلامي بعد القرآن الكريم.


الرسول -صلى الله عليه وسلم- مفكراً
هذا، ولقد وقفنا في دراستنا السيرة الحياتية للرسول في أكثر من محطة، لنشير إلى ميزة التفكير في حياته، فقد عرفناه قبل البعثة ذلك الإنسان الذي يبحث عن الحقيقة ويتفكر في أسرار الحياة والكون، فكان أن تكشفت له الحقائق معرية زيف الوثنية قبل أن ينزل عليه الوحي، بل استطاع بعميق تفكيره أن يقترب من الحقائق الأزلية، وأصبح مهيأ لأن يكون نبياً بعد نضجه الفكري.. فطبيعي أن من سيكون قائداً لأمة بعد إعادة خلقها من جديد، أن يكون عبقرياً في فكره ونابغة في منهجه... وكانت الجوانب الفكرية للرسول تعتبر الركيزة الأولى لعبقريته وعظمته، بل وضعها المستشرق مونتجمري وات في مقامة معالم تلك العبقرية الخالدة، وتميزت بكونها تجمع الحدس إلى التفكير العميق الذي يحلل الواقع ويستشرف آفاق المستقبل.

 يقول مونتجمري وات في كتابه: «محمد في المدينة»:
((لقد أوتي الرسول موهبة خاصة على رؤية المستقبل فكان للعالم العربي بفضله، أو بفضل الوحي الذي نزل عليه حسب رأي المسلمين، أساس فكري (إيديولوجي) حلت به الصعوبات الاجتماعية، وكان تكوين هذا الأساس الفكري يتطلب في الوقت نفسه حدساً ينظر في الأسباب الأساسية للاضطراب الاجتماعي في ذلك العصر، والعبقرية الضرورية للتعبير عن هذا الحدس في صورة تستطيع إثارة العرب حتى أعمق كيانهم)).

وإذا كانت جوانب دراسة القيادة الفكرية عند الرسول أكثر من أن نستطيع حصرها فسنقف عند نقطة هامة في شخصيته كرجل فكر داعية، ألا وهى فصاحته عليه السلام وبلاغته...

رجل فكر وعمل
وإذا كان الرسول رجل فكر كان في الوقت نفسه رجل عمل.. فلم يقف البتة عند حدود التفكير فقط، بل انتقل إلى ميدان النضال في سبيل دعم النظرية بالتطبيق، والتأكيد على وحدة فكرة الفكر والعمل... فالرسالة الإسلامية هي دعوة يحتاج الجاهر بها إلى النضال في سبيل نشر التعاليم، إلى قوة الإقناع الفكري وصلابة النضال العملي توسلاً لبلوغ الغايات المرجوة...

يقول الباحث الأسوجي المستشرق السير ماكس سايكس (1876-1927م):
((إن محمداً قد استطاع بعبقريته الفذة والتعليمات الواسعة المعنى أن يجمع التفكير إلى العمل، فكانت مملكته من هذا العالم كان نبياً ثاقب الفكر وكان مشرعاً، وكان حاكماً بين الناس)).

الداعية واكتساب الأنصار
لقد نشأت رسالة الإسلام، في جو معاد، وتطلبت روحاً كفاحية عالية، ولهجة داعية حارة تكسب القلوب في المرحلة الأولى لنشر الدعوة الإسلامية.

تحدَّث إتيين دينيه في كتابه: "محمد رسول الله"، عن الرسول الداعية الذي يكسب الأنصار بصدق لهجته وعمق نظرته، فيقول:
((وكانت لهجة الداعي إليه، تلك اللهجة التي تسمو فوق حدود الإنسانية، وكانت نظرته التي يشع منها الضياء، تخرجهم من الظلمات إلى النور، فيسرعون إلى اعتناق الإسلام بين يديه)).

فصاحة الرسول وبلاغته
إذا كان حامل الرسالة يحتاج فيما يحتاجه ليؤديها بنجاح إلى الشعوب والأمم، وليؤلف بها القلوب، إلى الفصاحة في اللسان، والبلاغة في القلوب، والقوة في البيان، فقد عرف عن النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- أنه صاحب أسلوب رفيع، ولسان فصيح، فهو إمام البلغاء وسيد الفصحاء، بأسلوبه السهل الممتنع المعجز، وبجوامع كلمه الخالدة، ومنطقه السليم، وعباراته المشرقة.

ويتحدث دينيه عن قوة المعاني وسحر بيان الرسول -صلى الله عليه وسلم-، بقوله:
((وكانت المعاني تتدفق غزيرة من ألفاظه الموجزة، التي تعبر عن مراده خير التعبير. أمَّا سحر بيانه فكان شيئاً الهياً، يغزو القلوب ويأسر الألباب ولا يقوى أحَدٌ على مقاومته)).

أفصح من نطق بالضاد
ومن جانبهم، أدرك المستشرقون المهتمون بقضايا اللغة، ما تمتلكه العربية من ميزات تنفرد بها دون سائر اللغات، وعن فصاحة الرسول وإعجازه...

يقول المستشرق الفرنسي بوستل غليوم (1581-1654م) الذي اهتم بالعربية وأبجديتها:
((اللغة العربية أفصح اللغات آداباً. وهى لغة أمَّةٍ على رأسها محمد النبي العربي، وهو أفصح مَنْ نطق بالضاد، ولقد جاء بأفصح ما يمكن في خلال كلماته المأثورة عنه، لذلك نحترمه ونحترم لغته)).

ويتابع المستشرق الفرنسي برتلمي هربلو (1625-1695م) في مؤلفه "المكتبة الثرية " فكرة مواطنه، عن البلاغة العربية وفصاحة الرسول، بقوله:
((إن اللغة العربية لهى أعظيم اللغات آداباً، وأكثرها بلاغة وفصاحة، وهي لغة الضاد، ولقد تغنى محمد نبي الإسلام بما يدل على شرف هذه اللغة بقوله: "أنا أفصحُ مَنْ نطق بالضاد" وصحيح عنه ذلك لأن كلماته المأثورة تدل عليه)).

خلود العربية وعظمة الرسول
وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد أتقن العربية في بنى سعد وقومها بلغة قريش وأحاط بلهجات القبائل العربية، إذ بقى أثره عميقاً في لغتنا هذه، التي بلغت معارج الخلود.

يقول الأستاذ الباحث اللبناني حنا خير الله، في احتفال بذكرى المولد النبوي:
((يكفى النبي العربي عظمة أنه خلد اللغة العربية وقدمها، وأوجب على جميع أتباع دينه تعلمها إلى أن قال: إننا نعظم ذكر من خلد لأمتنا أعظيم مجد وأشرف تاريخ وأسمى منزلة، وحفظ لغتنا مقدمة إلى أبد الدهر، لنبرهن على أننا نكرم محمداً - النبي العربي، ونحتفل.بذكرى مولده المبارك، إننا نقدر محمداً وأعمال محمد وعظمة محمد وغاية محمد)).

وكان لفصاحة الرسول وبلاغته أن جعلت منه -إلى جانب ما تحلى به من مزايا أخرى- أعظم القادة والمصلحين الدينيين، يقول صموئيل زويمر:
((إن نبي الإسلام كان ولا شك من أعظم القواد الدينيين ويصدق عليه القول أيضاً إنه كان مصلحاً قديراً وبليغاً فصيحاً وجندياً مغواراً)).

ويقول الفيلسوف الفرنسي رنيه ديكارت (1597 - 1650م) في كتابه مقالة "في المنهاج" مُعرباً عن إعجابه ببلاغة العربية وفصاحة الرسول وإعجاز القران:
((نحن والمسلمون في هذه الحياة، ولكنهم يعملون بالرسالتين العيسوية والمحمدية، ونحن لا نعمل بالثانية، ولو أنصفنا لكنا معهم جنباً إلى جنب، لأن رسالتهم فيها ما يتلاءم مع كل زمان، وصاحب شريعتهم محمد، الذي عجز العرب عن مباراة قرآنه وفصاحته، بل لم يأت التاريخ برجل هو أفصح منه لساناً، وأبلغ منطقاً، وأعظم منه خُلُقاً، وذلك دليل على ما يتمتع به نبي المسلمين من الصفات الحميدة التي أهَّلته لأن يكون نبياً في آخر حلقات الأنبياء، ولأن يعتنق دينه مئات الملايين من البشر».

بلاغة المنطق وسداد  الرأي
ويتحدث المستشرق الفرنسي سيلفستير ساسي (1758 - 1838م) في كتابه "الحياة" عن محمد الرسول المُفَكِّرُ، وصاحب الآراء السَّديدة النَّيرة، والمبادىء الخيَّرة، الذي عُرف عنه:
((أنه بليغ في منطقه، رشيد في رأيه، نشيط في دعوته)).