جذور الاستشراق Ocia1352
جذور الاستشراق
د. أنور محمود زناتي

والخَلْقُ يَفتِك أقواهم بأضْعفهم
كالليثِ بالبَهْم أو كالحوتِ بالبَلَمِ [1]
 
جذور الاستشراق:
"يا إخوتنا في الأندلس، لقد كان عليكم أن تُصلُّوا جماعة عندما عرَفتم أن أعداءَكم يتوضَّؤون بالدم قبل أن يَجيئوا للقائكم!"؛ (بيت شعر فارسي).

الجذور والنشأة:
أمَّا عن بدايات الاستشراق، فقد اختلفت الآراء حوله؛ إذ إن البعض يعود به إلى أيام الدولة الإسلامية في الأندلس؛ حيث تمثَّل في إقبال المستعربين[2] من الأوروبيين على دراسة العربية، وجمْع المعلومات عن المسلمين، ثم ترجمة الكتب العربية إلى اللاتينية، ويدل على ذلك أيضًا وجود مُدوَّنات إسبانية محمَّلة بتأثيرات عربية واضحة في مضمونها؛ مما يُثبت أن مؤلفيها أخذوا مادتهم التاريخية وقواعدهم الحسابية من مصادر عربية، ومن تلك المدوَّنات: (مخطوطات مختلفة وُجِدت في أوبيط oviedo، وهي محفوظة في مكتبة الإسكوريال، وقد احتفَظ لنا بها القديس أولوجيوس القرطبي المتوفَّى سنة 859م، ونُقِلت إلى أوبيط عام 884م.

كما نجد الطريقة ذاتها في "المخطوطة المتنبئة Cronica Albeldenso" التي كتَبها مؤلِّف مجهول عام 883م، وفي "مخطوط البلدة Cronica Albeldenso" التي كتَبها الراهب فيجيلا Vigila، وأتمَّها عام 976م.

وبعض الرُّهبان من البلدان الأوروبية قصَدوا الأندلس في إبَّان عظمتها ومجْدها، ودرَسوا في مدارسها، وترجَموا القرآن وبعض الكتب العلمية إلى لغاتهم، ودرسوا على علماء مسلمين مختلفَ العلوم، وخاصة الفلسفة والطب والرياضيات، ومن أوائل هؤلاء الذين وصَلتنا أسماؤهم: الراهب الفرنسي "جربرت"، الذي أصبَح فيما بعد بابا لكنيسة روما عام 999م، و"بطرس المبجل 1092 - 1156م"، و"جيراردو دا كريمونا Gerardo da Cremona 1114 - 1187م"[3]، وبعد أن عاد هؤلاء الرهبان إلى بلادهم، نشروا ثقافة العرب ومؤلَّفات أشهر علمائهم، ثم أُسِّست المعاهد التي تُعنى بالدراسات العربية؛ أمثال: مدرسة "بادوا العربية"، وأخذت الأديرة والمدارس الغربية تُدرِّس مؤلفات العرب المترجمة إلى اللاتينية، واستمرَّت الجامعات الغربية تعتمد على كُتب العرب، وتعتبرها المراجع الأصلية للدراسة قرابة ستة قرون.

في حين يعود به آخرون إلى أيام الصليبيين؛ حيث لعِبت الحركة الصليبية دورًا مركزيًّا على مستوى الأحداث العالمية التي تَمحورَت في بداية العصر الوسيط، والتقاء الشرق بالغرب وجهًا لوجهٍ، وحدوث ظاهرة التمشرُق الصليبي، وافتتانهم بالشرق.

إن دراسة الشرق العربي المسلم، جاءت بقرارٍ كنسي، ونتيجة من نتائج الحروب الصليبية، التي كانت أيضًا بقرار ديني؛ إذًا تسير الحملات الصليبية باتجاه الشرق العربي الإسلامي تحت ستار ديني، كانت غايته عمليًّا: البحث عن حلٍّ لمشاكل المجتمع الغربي المسيحي، وكذلك إقامة كنيسة عالمية، بإخضاع الكنيسة الشرقية لسلطة روما، من خلال إيجاد هدف عام مُشترك، هو قتال المسلمين، وتحرير بيت المقدس، وبالتالي فإن الحروب الصليبية في دوافعها وكذلك في أدواتها، كانت أوروبية غربية؛ إذ تشكَّلت معظم جيوش تلك الحروب من فرنسا وإيطاليا، وأسكتلندا وألمانيا، وكان وجود الشرق في ذهن الغرب من خلال النتاج الفكري الأدبي والتاريخي الذي أعقب هذه الحروب.

والواقع فإن المجتمع الغربي قد اكتشَف أهمية الشرق ومعارفه وعلومه منذ العصور الوسطى، ونقَل ذلك التراث نقلاً لا يظهر فيه التصرف، إلا في تجاهُل ذِكر المؤلفين الحقيقيين، وعن طريق ذلك خطَت أوروبا خُطواتها التاريخية في مجال النهضة المعروفة بالنهضة الأوروبية renaissance، وبذلك الفكر وعلى هدْيه أخَذت أوروبا منهج التطور العلمي، وبنَت لنفسها الشخصية العلمية الرائدة، وأدرك الغرب من خلال حروبه الصليبية أن الشرق يتفوق عليه فكريًّا وحضاريًّا واقتصاديًّا، وأنه يجب على الغربيين أن يسيروا في نفس الطريق الذي سارت فيه شعوب الشرق؛ لكي يَنهضوا ويتقدَّموا.

فالفكر الاستشراقي إذًا في رأي البعض نشأ في رعاية الكنيسة، وخضَع فيما صدَر عنه لتوجيهاتها، ومن ثَمَّ لم يكن عملاً علميًّا على نحو من الأنحاء، وإنما كان لونًا من ألوان المقاومة للمد الإسلامي.

ولكن من المُتفق عليه إلى حد كبير بين الباحثين - خاصة الغربيين - أن الاستشراق اللاهوتي الرسمي قد بدأ وجوده حين صدور قرار مجمع فيينا الكنسي 1312، وذلك بإنشاء عدد من كراسي الأستاذية في العربية والعبرية في جامعات باريس، وأكسفورد، وبولونيا، وأفينيون"[4].

ويبدو أن الاستشراق قد قام في البداية على جهود فردية، لم تكن ذات تأثير على مجرى التفكير الغربي؛ مما أدى إلى عدم اتخاذها نقطةَ بدايةٍ للاستشراق لدى بعض الباحثين، ومن ثَمَّ فإن اعتبار الحروب الصليبية التي بدأَت التعبئة لها في مجمع كليرمونت 1095 على عهد البابا إربان الثاني -كما سبق أن ذكَرنا- هي البداية الحقيقية للاستشراق، وتَرجع في الأساس إلى أن الاستشراق قد تَبلوَر كتيَّارٍ فكري عام[5].

وقد تنوَّعت أنماط ومناهج الاستشراق الديني, وأهم المستشرقين فيه هم: يوحنا الدمشقي (680 - 750م)، بطرس المبجل (1092 - 1156م)، ريموند لول[6] (1235 - 1316م) في حقبة العصور الوسطى، وكل واحد منهم يمثِّل مرحلة مهمة على صعيد دراسة الشرق والإسلام، بدأت مع الأول الذي دخَل في مجادلات مع المسلمين، أما الثاني، فقد أُنجِزت تحت رعايته أوَّلُ ترجمة لاتينية للقرآن الكريم عام 1143م في دير كلوني في جنوب فرنسا، وارتبط الثالث بإقرار مجمع فيينا الكنسي إنشاءَ كراسي لدراسة اللغة العربية في كلٍّ من باريس وبولونيا في عام 1312م، وحثَّ لول على أن يتَّخذ قرارًا كنسيًّا بإنشاء ست مدارس للغات الشرقية في أوروبا[7]، والهدف المشترك بين جهود الرجال الثلاثة هو دراسة الإسلام، وهناك ميشيل سكوت وهو أسكتلندي، عاش ما بين عام 1175 وعام 1226، درس في أكسفورد، وحصل من جامعة باريس على لقب العالم الرياضي، وتعلَّم القرآن في طليطلة بالأندلس، وقد كتب عن الإسلام والمسلمين؛ مما جعله حُجة في هذا المجال، وقرَّبه من الباباوات والأباطرة، وخاصةً (فريدريك الثاني)، ويُعد (ميشيل سكوت) صاحب الفضل الأكبر في تحرير الفكر الأوروبي من الجمود في عصر الظلام الكنسي، وهو الذي فتَح الباب على مِصراعيه على نظرية (ابن رشد)، التي تعيش عليها البشرية اليوم في عقلانية متجردة، وهي كما يقول - أي: ابن رشد - (أساس كل تطوُّر، وتقدُّم، وتحضُّر)، ويَعتبر (سكوت) نفسه - كما سجَّل في دراساته - تلميذًا لـ(ابن رشد) في نظرته العقلية إلى الأمور، أما (ألبير الكبير)، فقد عاش ما بين (1206 - 1280)، وقد أخذ عن (ميشيل سكوت) إعجابه بـ(ابن رشد)، وإن كان قد جحَد فضله عليه؛ خوفًا من الكنيسة ورئيس أساقفة ألمانيا، الذي نصَّبه عام 1260 أُسقُفًّا على (ريجنزبرج)، وتاريخ (ألبير الكبير) الألماني الأصل، وهو يطلب العلم في جامعة (بادوي) و(دير كلوني)، و(ستراسبورج)، ثم (باريس)، يدلُّنا على أنه قد تخصَّص بدأبٍ دونما كللٍ في مؤلفات (ابن رشد)، و(ابن سينا)، و(الغزالي)، و(الفارابي)، وهو يقول: (عجبتُ لأتباع محمد، كيف استطاعوا في هذه الحِقبة من الزمن أن يَرتفعوا بالعلوم لهذا المستوى؟!).

ووجَدنا أيضًا القديس (توما الأكويني)، فهو -وبرغم معارضته لآراء (ابن رشد)- لا يُنكر فضل المسلمين من أتباع (محمد) في تحرير عصور الظلام التي عاشتها أوروبا؛ لتَصنع بعد ذلك هذا التطوُّر الفكري للحضارة الإنسانية.

لقد كان أهم ما أخَذه عن (ابن رشد) هو أسلوبه في البحث الفلسفي لما وراء الطبيعة (الميتافيزيقيا)، ثم أعقَبته دعوات أخرى في الاتجاه نفسه؛ مثل: كتابات همفري بريدو (1648 - 1724م)، وسيمون أوكلي[8] (1648 - 1720), ثم تبِعه في القرن التاسع عشر؛ حيث شهِدت بريطانيا المزيد من السيطرة الاستعمارية على الأراضي الإسلامية، وتجلَّت الفرصة سانحة أمام المبشِّرين؛ ليَنقضُّوا على البناء الإسلامي، وأبرز المستشرقين ألويز شبنجلر (1813 - 1893), ووليم موير (1819 - 1900)، ومرجوليوث (1858 -1940)، ودنكان ماكدونالد (1863 - 1942).

ويرى بعض الدارسين[9] أن هذه الآراء ما كانت استشراقًا؛ لأن مقاصدها ما كانت معرفية، بل تبشيرية.

لقد أراد كنَسيُّون - فيما بين القرنين الثاني عشر والرابع عشر - أن يتجاوَزوا المرحلة الأسطورية في مكافحة الإسلام، عن طريق الترجمة البدائية أو المشوهة؛ اصطناعًا لأدوات أفعل في ذلك؛ مثل: الكفاح العسكري والسياسي والثقافي بين الديانتين والثقافتين؛ لذلك يمكن وصْف هذه الجهود - حتى أعمال مارتن لوثر عن الإسلام والترك في مطلع القرن السابع عشر - بأنها كانت جزءًا من الحروب الدائرة بين المسيحية والإسلام منذ ظهوره في القرن السابع، وبَدأ التصدي له دينيًّا وثقافيًّا في القرن التاسع من جانب اللاهوتيين البيزنطيين.

وما عرَف الأوربيون -(غير اللاهوتيين)- أشياءَ محددة عن عالم الإسلام الثقافي، وبدون أغراض جدالية، إلا بعد قيام الفرنسي أنطوان جالان (1646 - 1715) بترجمة أقاصيص وحكايات ألف ليلة وليلة، وهي التي سحرت مجموعات كبيرة من المثقفين الأوروبيين في وسط القارة وغربها، وفي القرن الثامن عشر عصر الرومانسية الأوروبية.

ويرى دكتور رضوان السيد أن التاريخانية الألمانية الهولندية والفرنسية، هي التي بلوَرت على مشارف القرن التاسع عشر المعالم الأولى للاستشراق بمعناه العلمي، فقد قام الهولندي توماس إربنيوس (1624) بنشْر كتاب عن النحو العربي باللغة اللاتينية، ظل معتمدًا طوال ما يَقرُب من قرنين، وازداد تأثيره في الألمان عندما قام ميخائيليس عام 1771 بترجمته إلى اللغة الألمانية، والفيلولوجيا -كما صار معروفًا منذ حوالي قرن- هي الركن الأول للتاريخانية الألمانية التي بلَغت ذِروة ازدهارها لدى المؤرخين الألمان الكبار؛ مثل: رانكه ومومسن أواسط القرن التاسع عشر.

فاذا كانت الرومانطيقية قد أخرَجت النظرة إلى الشرق الإسلامي من دائرة الجدالات اللاهوتية، فإن التاريخانية التي اعتبرت معرفة فقه اللغات السامية وغير السامية الأساس الموضوعي للمعرفة التاريخية لأمة من الأمم - هي السقف المباشر لعلم التاريخ الأوروبي الحديث، وللاستشراق الذي ناضل طويلاً؛ لكي يكون جزءًا من ذاك التقليد التاريخي الإنسانوي.

فاللغة لدى التاريخانيين منذ ما قبل دي سوسير، هي الشيفرة التي باكتشاف مفاتيحها -(النحو والصرف، والبلاغة وعلوم اللسان الأخرى)- نَستطيع اكتشاف عقلية أي أمة من الأمم وتاريخها الثقافي، وتكويناتها الدينية والاجتماعية، ومن هنا فقد بدا الطريق اللغوي الوسيلة الأنجع للتحرُّر من مقولات اللاهوتيين حول الإسلام، والمُضي باتجاه معرفة الشرق، باعتبارها جزءًا من المعرفة التاريخانية المحايدة أو الموضوعية، لكن إشكالية الإسلام في ارتباطه الوثيق باللغة العربية، وبعكس اللغات الشرقية الأخرى -مثل الفارسية، والسنسكريتية، والصينية- أبقَت على عُسر الاندماج في العلوم التاريخية، والتحول إلى الاختصاص المنفصل الذي نعرفه منذ أكثر من قرن باسم الاستشراق، وهذه الخصوصية التي وقَع فيها الاستشراق أو آلَ إليها، بمعنى اعتباره تخصصًا بمفرده، ليس من التاريخ وليس من لاهوت الأديان، ولا من العلوم السوسيولوجية الوضعية - هي التي جعَلته موضع شُبهة دائمة لدى المسلمين، باعتباره معاديًا للإسلام، ولدى السوسيولوجيين، والأنثروبولوجيين، باعتبار أنه لا تتوافر له شروط العلم الدقيق، ولدى نُقَّاد ثقافة الاستعمار، باعتباره يُمارس هيمنة وتملُّكًا على ثقافة العرب والمسلمين، وصورتهم التاريخية المعاصرة.

وهي وجهة نظر لا شكَّ تُوضع في الحُسبان، إلا أننا عندما نُورد تلك المعلومات نؤكِّد على أنها إرهاصات لنُشوء الظاهرة الاستشراقية، لا بدَّ من ذِكرها، وبدونها تُصبح الصورة ناقصة، ولكن الذي يُهمنا أن نعرف ونُوقن تمامًا أن الغرب منذ أمَدٍ بعيد يدرسنا في جميع المجالات؛ حتى توصَّل إلى معرفة التفاصيل، وتفاصيل التفاصيل.

ويرى بعض الدارسين المُحدثين أن اتِّساع رقعة الدولة العثمانية، وروابطها الاقتصادية والسياسية الممتدة مع مجموعة كبيرة من الدول الأوروبية والغربية، كان عاملاً كبيرًا في دفْع حركة الدراسات الاستشراقية آنذاك مع كلِّ ما حمَلته هذه الحركة من آثار إيجابية أو سلبية؛ ليتواصَل الاهتمام بلغات العالم الإسلامي والعربي ولهجاته، وحتى الرهبان كانوا من المهتمين بدراسة اللغة العربية؛ ليُعينوا أقوامهم على الشعوب العربية والإسلامية؛ ليتمكَّنوا منهم في جميع مجالات الحياة الدينية، والفكرية، والسياسية، والثقافية، والاقتصادية، والاجتماعية، وحتى النفسية.

والذي لم يدَع الاستشراق يُثمر نظراتٍ موضوعيَّة، هو ارتباطه بالكنيسة ورجال الدين، ولم يتأتَّ ذلك إلا منذ نهاية القرن السابع عشر، حين مالت بعض الدراسات إلى الموضوعية والعلمية المحايدة للإسلام لا الطاعنة فيه، حتى إن كتاب "الديانة المحمدية" للمستشرق الهولندي "هادريان ريلاند"[10]1676 - 1718، "أدرجته الكنيسة الكاثوليكية في قائمة الكتب المحرَّمة، ويُمنع منعًا باتًّا تداوُله؛ لِما فيه من الموضوعية والصحة؛ وذلك خوفًا من دخول أفراد كثيرين في الإسلام.

وقد شهِد الاستشراق في القرنين السادس عشر والسابع عشر ازدهارًا في النواحي العلمية والدراسية المتخصصة، ففي القرن السادس عشر - وتحديدًا عام 1539م - تَمَّ إنشاء أول كرسي للغة العربية في الكوليج دي فرانس في باريس، وشغَل هذا الكرسي جيوم بوستل Gguillaume Postel[11] (1510 - 1581)، الذي يُعد أول المستشرقين الحقيقيين، وقد أسهم كثيرًا في إثراء دراسة اللغات والشعوب الشرقية في أوروبا، وجمَع في الوقت نفسه - وهو في الشرق - مجموعة هامة من المخطوطات، وقد سار على نهجه تلميذه جوزيف إسكاليجر[12] Joseph Scaliger.

وكانت أول مطبعة عربية في أوروبا، هي تلك التي أمر بإنشائها الكردينال فرناندودي مدتشي، كبير دوقات توسكانا، وكان يرأس هذه المطبعة - التي كان مقرها في روما - شاب إيطالي من بلدة كريمونا، يُدعى جيوفاني بتستا رايموندي، الذي أقام في المشرق مدة طويلة، ويُحتمل أنه تعلَّم العربية.

وعلى كل حال، فإنه اهتمَّ بالخطوط العربية، والحروف العربية وخصائصها، فاستطاع أن يصنع حروفًا عربية مختلفة الأوضاع: مفردة، متصلة بما قبلها، متصلة بما بعدها، في آخر الكلمة، وأتَمَّ حفْر وتقطيع هذه الحروف العربية المتحركة المرسومة رسمًا جميلاً، وابتداءً من 6 سبتمبر 1586، بدأت المطبعة في جمْع وطبْع أوَّل إنتاجٍ لها، وهو كتاب (القانون)؛ لابن سينا، ومعه (كتاب النجاة) الذي هو مختصر (الشفاء)، وتَمَّ إنجاز طبع (القانون) ومعه (النجاة) في 1593[13].

أما القرن السابع عشر، فقد واكَبه اهتمام خاص من طليعة المستشرقين الأولى في الاهتمام بالدراسات الإسلامية، والتراث العربي والإسلامي، والإشراف على نشْر هذه الكتب، ومحاولة تصحيحها؛ ولذا يمكن أن نقول: إن هذه الحِقبة تمثِّل التجارب الأولى لتعاطي المستشرقين للأسلوب الحديث في تصحيح النصوص التراثية العربية، ثم تكامَلت ونضِجت هذه التجارب في وقتٍ لاحق.

وعندما أقبل القرن الثامن عشر، كان الاستشراق قد وطَّد أقدامه واستقلَّ كِيانه، وتحدَّدت معالمه إلى حدٍّ بعيد، وشهِد إنشاء كُرسيين للغة العربية في جامعتي أكسفورد وكامبريدج[14]، وتوسُّعًا أوروبيًّا هائلاً، وإقبالاً من الطلاب والباحثين غير مسبوقٍ.

وشرَع الغربيون في تأسيس الجمعيات العلمية التي كانت نقطة انطلاقٍ كبرى للاستشراق؛ حيث تجمَّعت فيها العناصر العلمية والإدارية والمالية، فأسهَمت إسهامًا فعَّالاً في البحث والاستكشاف، والتعرُّف على عالم الشرق وحضارته[15]، وقد أُقيمت المعاهد لتعليم العربية وآدابها.

وفي 1798 جاءت الحملة الفرنسية على مصر، وكان من أهم نتائجها: الاتصال المباشر المنظَّم بالشرق، والكشْف عن طريق المعاينة والمشاهدة عن أحواله السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

وكانت هناك محاولات جادَّة كرَّستها الحملة؛ لمعرفة مصر والشرق، حتى قُبيل قدومها إلى مصر؛ مثل: تأسيس المدرسة الأهلية عام 1793؛ لتدريس اللغات العربية والتركية والفارسية [16]، وكان الغرض من تأسيسها هو إماطة اللثام عن الشعوب الشرقية، ودراستها بشكل علمي، وكذلك إيجاد مجموعة من العلماء والباحثين المتخصصين في الدراسات الشرقية، والذين أصبحوا نواة للاستشراق العلمي، والذين قاموا بتحرير كتاب (وصْف مصر) Description de L'Egypt.

وقامت فرنسا بإنشاء مدارس لتدريس اللغة العربية؛ مثل: (ريمس، وشارتر)، وإنشاء كراسي للغتين العربية والعبرية في باريس، وإنشاء كرسي للدراسات الإسلامية في جامعة السوربون، والتي أُلحِق بها فيما بعد معهد الدراسات الإسلامية، وكانت جامعة السوربون ولا زالت تَلعب دورًا هامًّا في مضمار الدراسات العربية والإسلامية[17].

وشهِد القرن التاسع عشر اهتمامًا أوروبيًّا بالشرق، وظهَرت أسماء معروفة في دراسة الشرق ولغاته وحضاراته، بفعْل دوافع سياسية؛ مثل: هنري بالمر، وريتشارد بيرتون، وتشارلز دوتي (1840 - 1883)، والأول درس الجغرافية والطبيعة البشرية لصحراء سيناء بعد احتلال إنجلترا لمصر عام 1882، وظهَرت دراسات جغرافية؛ مثل: دراسة كتشنر، وكلود كوندر، وكي لسترينج، وريتشارد بيرتون (1821 - 1890)، الذي كانت له مصالح تجسَّدت عبر بلاده في مناطق الوطن العربي، وخاصة الجزيرة العربية، وقد عمِل ضابطًا عسكريًّا في الهند، ثم عمِل في خدمة بلاده في مصر، وقام برحلات في الجزيرة ونشَر وصفًا لها في كتابه (الحج إلى المدينة ومكة)، أما دوتي (1843 - 1926)، فقد درس الجغرافية الخاصة بشبه الجزيرة العربية من خلال رحلاته، ونشَر بعد عودته إلى إنجلترا كتابه (رحلات الجزيرة العربية)، الذي يحوي معلومات تفصيلية عن مناطق لَم يعرفها الإنجليز.

وهذه الصفة العلمية للاستشراق، كانت نتيجة انفصام الهُوَّة بينه وبين الكنيسة - وخاصة في القرن التاسع عشر - وتدفُّق المستشرقين على أقطار الشرق العربي.

وهكذا يمكن القول - كما يقول بارت -: "إن الاستشراق قد تشكَّل كعِلْم في القرن التاسع عشر، وذلك عندما تأكَّد استعداد الناس للانصراف عن الآراء المُسبقة، وعن كل لون من ألوان الانعكاس الذاتي، وللاعتراف لعالم الشرق بكِيانه الخاص الذي تَحكمه نُظمه الخاصة، وعندما اجتهَدوا في نقْل صورة موضوعية له، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، ومن ذلك يتَّضح أنه بتخليص الاستشراق من سيطرة اللاهوت، أصبح عِلمًا قائمًا بذاته، هدفه دراسة اللغات الشرقية وآدابها، وبرَزت هناك نزعة علمية تتَّجه إلى دراسة الآداب والعقائد الشرقية لذاتها، مستهدفة المعرفة وحْدها"[18]إلى حدٍّ ما.

وحينما دخل العالم أعتاب القرن العشرين، جرت أحداث هامة أدَّت إلى تحوُّلات خطيرة في العالم العربي والاستشراق، ففي القاهرة أُنشئت الجمعية الأهلية التي احتضَنها عدد من المستشرقين الذين تولَّوا التدريس فيها، وخرَّجوا دفعات كبيرة من الطلاب العرب.

ووفَد عدد كبير من المستشرقين المتخصصين للتدريس بالجامعة المصرية، لعل من أبرزهم: نيللينو، ماسينيون، شاخت، توماس أرنولد، كازانوفا، كراوس، ليتمان، الذين حاضروا في الفقه والآداب العربية، والفلسفة والعلوم والفن... إلخ[19].

وبدَأ جيل جديد من المستشرقين يغوص في أعماق الفكر والدين والأدب العربي؛ فقد اتَّجهت عنايتهم بالإسلام وشعوبه، وأوضاعه الفكرية والاجتماعية، مما كان له أثرٌ كبير في هذا العصر، وقد تميَّز الاستشراق في هذا القرن بإنشاء المراكز العلمية المتخصصة، وتخصَّص كل مستشرق في فرع معيَّن من فروع المعارف الشرقية، وانعقدت العديد من المؤتمرات، أسهَم المستشرقون فيها بنصيبٍ وافر من البحوث والمقالات، وحرَص الأوروبيون والأمريكيون على إنشاء مراكز للدراسات العربية والإسلامية في العالم الإسلامي؛ لتكون أقرب إلى هذه البلاد، ويستخدمها الطلاب والباحثون الغربيون كمراكز للبحث والدراسة، ولتعلُّم اللغات الإسلامية، ولنشْر الثقافة الغربية، وقد بدأ الغرب في إنشاء هذه المراكز منذ القرن التاسع عشر بإرسال البعثات، واستمرَّت حتى الوقت الحاضر.

ويُمكن أن نَعرِف مدى سَعة وكثافة إنتاج الاستشراق، إذا لاحَظنا أنه نشر في الغرب أكثر من ستين ألف كتاب، في قرن ونصف "1800 - 1950"؛ مما يُعنى بالشرق العربي وحده، هذا فضلاً عن "واحد وأربعين ألفًا وأربعمائة وسبعين" مقالة وبحثًا، نُشرَت حول الإسلام في الدوريات الغربية، منذ مطلع القرن الحالي على مدى ستين عامًا "1906 - 1965"، كما وثَّقَ ذلك "جي. دي. بيرسون "J.D.pearson مدير مكتبة كلية الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة لندن، في كتابه: Index Islamicus الذي نشَره في لندن عام 1958م، ثم أتبَعه بملحقين.

وفيما يلي أهم هذه المراكز:
فرنسا:
1- المعهد الفرنسي للآثار الشرقية في القاهرة (1880م).

2- معهد الدراسات العليا في تونس (1945م).

3- معهد الدراسات المغربية - الرباط (1931م).

4- المعهد الفرنسي في دمشق (1930م).

ويَتبع السفارات الفرنسية في أنحاء العالم مراكز ثقافية تُقدِّم دورات في اللغة الفرنسية والحضارة الفرنسية، كما تقدِّم معلوماتٍ عن فرنسا.

بريطانيا:
1- مركز الدراسات العربية في الشرق الأوسط (شملان بلبنان).

2- كلية دلهي.

2- كلية فورت - وليم بكلكتا بالهند (1799م - 1836م).

3- كلية الملكة فيكتوريا، وهي مدرسة ثانوية بمصر، ودرَس بها كثيرٌ من أبناء الطبقة الثرية في أنحاء العالم العربي، والتعليم فيها باللغة الإنجليزية.

وللسفارة البريطانية في كل بلد مركز ثقافي يَتبع المجلس الثقافي البريطاني، ويُقدم دورات في تعليم اللغة الإنجليزية، ولديهم مكتبة يقضي فيها الشباب أوقاتَ فراغهم، ولا بد أنهم يحتكون ببعض الإنجليز العاملين في هذه المراكز.

4- معهد الدراسات المغربية في تطوان.

الولايات المتحدة الأمريكية:
1- الجامعة الأمريكية - بيروت.

2- الجامعة الأمريكية - القاهرة.

3- الكلية الأمريكية ببيروت، وهي مدرسة ثانوية درَس فيها بعض كبار المسؤولين في العالم العربي.

4- جامعة الشرق الأوسط بإسطنبول بتركيا.

5- مدرسة الدراسات الشرقية الأمريكية بالقدس.

6- المدرسة الأمريكية للأبحاث الشرقية ببغداد.

ولأمريكا معاهد لتعليم اللغة العربية لموظفي سفاراتها في العالم العربي، في كل من تونس وفاس بالمغرب واليمن، وكذلك لإجراء البحوث والدراسات على المجتمعات العربية الإسلامية.

======================================
[1] أحمد شوقي؛ الشوقيات، ج1، والبَلم: صغار السمك.
[2] المستعربون الإسبان: وهم الإسبان النصارى الذين أقاموا في البلاد الإسلامية، وعاشوا تحت ظل الحكم الإسلامي، فقد سرَت إليهم العادات الإسلامية، وتعلَّموا اللغة العربية، وكتبوا بها، وألَّف بعضهم كُتبًا بها, بل واقتَنَوا مكتبات عربية.
[3] داكريمونا : راهب فرنسي نقَل إلى اللاتينية فلسفة الكندي والفارابي، وابن سينا والرازي، ويقال: إنه ترجَم كُتبًا في جميع فنون المعرفة؛ من علومٍ، وآداب، وطبٍّ.
[4] إدوارد سعيد؛ المرجع السابق، ص 80.
[5] عبدالله محمد الأمين؛ المرجع السابق، ص 17.
[6] قضى لول تسع سنوات 1266 - 1275م في تعلُّم العربية، ودراسة القرآن، وقصَد بابا روما وطالَبه بإنشاء جامعات تُدرِّس العربية.
[7] باركر؛ الحروب الصليبية، ص 150.
[8] سيمون أوكلي: تولَّى مهمة تدريس اللغة العربية في جامعة كمبريدج 1711م، وألَّف كتابه الشهير "تاريخ المسلمين"، الذي تناوَل التاريخ الثقافي والسياسي للإسلام.
[9] رضوان السيد، كاتب لبناني متخصص في الفكر الإسلامي، جريدة الشرق الأوسط 20 أكتوبر 2004، العدد 9458.
[10] هادريان ريلاند: مستشرق هولندي، يُعد من أوائل مَن قام بعرْضٍ علمي للرسول الكريم، وهو أستاذ اللغات الشرقية في جامعة أوترخت، له: الجهاد، الإسلام.
[11] انظر: تراث الإسلام، ج1، ط 3؛ لشاخت وبوزورث، سلسلة عالم المعرفة، رقم 233، ص 59.
[12] زقزوق؛ المرجع السابق، ص 30.
[13] عبدالرحمن بدوي؛ موسوعة، ق 1، ص 248.
[14] يحيى مراد؛ المرجع السابق، ص 44.
[15] نفسه، ص45.
[16] ساسي؛ المرجع السابق، ص 91.
[17] نفسه، ص 107.
[18] زقزوق؛ المرجع السابق، ص41.
[19] ساسي، ج1، ص 63.