الاستشراق.. هل أجج نار العداء؟
كمال عبدالمنعم محمد خليل

لا يخفى على كلِّ متابعٍ لما يحدث في عالمنا اليوم أنَّ نَبْرة العداء للإسلام زادَت حدَّتُها، وأنَّ السهام الموجَّهة إليه كثُرَتْ وتتابعَت، كلُّ ذلك أحدث نوعًا من الخوف من الإسلام وأهلِه، وقد يرجع البعضُ ما يحدث إلى ما يُعرف بالدراسات الاستشراقية التي قام بها بعضُ الغربيين؛ لأن تلك الدراسات ومَن قام بها تعمدَت تزييف الحقائق تارةً، والتعمِيَة عليها تارةً أخرى، ممَّا ساهم وبشكلٍ رئيس في إِذْكاء نار العداء، وتأجِيج الصِّراع بين المسلمين وغيرِهم، والنظرة غير المنصِفة إلى كلِّ المسلمين في عالمنا الآن وقبل الآن.

معنى الاستشراق:
إنَّ معنى الاستشراق الذي تعارف عليه الناسُ إنما يُقصد به التوجُّه إلى المشرق حيث رسالة الإسلامِ، للبحث في هذا الدين الإسلاميِّ كعقيدة، وشريعة، وتاريخٍ، ولغة، وكلِّ ما يتعلَّق به، ومن معانيه: طلب الهدى والنُّور والضياء، وقد كُتبت البحوثُ، وأُعدَّت التقارير التي قام بها الباحثون الغربيُّون من اليهود والنصارى، وساعدَهم وتحالَف معهم من انتسبَ إلى الإسلام، وتتَلْمذ على أيديهم، وتشبَّع من أفكارهم، فصرَّحوا بالأفكار التي تتناسَب مع ما يدَّعيه هؤلاء المستشرقون، ولا ننكر أنَّ نفرًا من هؤلاء المفكِّرين والكتَّاب الغربيِّين قد أنصف الإسلامَ في كتاباته، وصرَّح بالحقائق التي لا لَبْس فيها، وكتب بأمانةٍ عمَّا رآه وتوصَّل إليه، ولكن هؤلاء قلَّة بين هذا الكمِّ الهادِر من الباحثين والمفكِّرين، ومعهم الأدوات الإعلاميَّة التي عمدَت - وبكلِّ إصرارٍ - إلى قَلْب الحقائق وتزييفِها في غير أمانةِ نقلٍ، أو في ليِّ عُنق التاريخ ليخدمَ مآرِبَهم وما يتطلَّعون إليه.

تشويه التاريخ الإسلامي:
سلاحٌ عمَدَ إليه كلُّ من أراد أن يوجِّه للإسلام طعنةً، يقصد بها إضعافَه مرَّةً بعد مرَّة، حتى يصل إلى الإجهاز عليه، وعمادُ أيِّ أمَّة هو تاريخُها، الذي يَنظر إليه كلُّ من أراد أن ينتمي إلى تلك الأمَّة، أو يتَّخذها قدوةً ومثلاً كلُّ من يبحث عن القدوةِ والمَثَل، وقد رأى المستشرقون ومعهم الحاقِدون من بَني جلدتِنا أنَّ دراسة التَّاريخ الإسلامي مهمَّة مِن أجل إِثارة الشُّبهات حولَ الإسلام عقيدةً وشريعة وثقافة وفكرًا، وبعد أن تبحَّروا في معرفة التاريخِ الإسلامي مِن مصادره الصَّحيحة بدؤوا في نفثِ السُّموم؛ بالطعنِ في هذا التاريخِ، والتشكيكِ فيه، وتحريف رواياتِه، وعمدوا إلى اتِّهام المسلمين بأنَّهم أصحاب هوًى، وطلاَّب دنيا، لديهم حبُّ السيطرة، والرَّغبة في سَفْك الدماء، وأنَّهم خاضوا الحروبَ تلوَ الحروب مِن أجل إِذلال الناس وإرغامِهم على الدُّخول في الإسلام، الذي انتشر بحدِّ السيف - مِن وجهة نظرهم - وتناولوا الشخصياتِ الإسلامية بالنقدِ والتجريح وكَيْل الاتهاماتِ لهم، حتى تَجعل مكانتَهم لدى المسلمين المتأثرين بكلامهم منقوصة، ليس ذلك فحَسْب؛ بل شكَّكوا في القرآن وعلومِه، والحديثِ الشريف ورواتِه، وتتبَّعوا الموضوعات من الأحاديث النبويَّة ليجعلوها محورَ الطعنِ في ثوابت الإسلام، وموردًا لإثارةِ الشبهات، ودليلاً لتدعيم آرائهم، وبناءِ نظريَّاتهم، وانتقدوا أحكامَ الإسلام الفقهيَّة التي تتعلَّق بالمرأة، والمواريث، والرِّقِّ، وغير ذلك، وسَعَوا بجدٍّ إلى تنصير المسلمين، خاصَّة في الأماكن التي تشكو الفقرَ والمرض والجهلَ.

فرية حد السيف والرد عليها:
في كلِّ دراساتهم، وفي منتدياتهم، وفي كتبِهم ومؤلَّفاتهم: لا يكفُّون عن التسويق لتلك الفِكرة؛ وهي انتشار الإسلام بالحرب وحدِّ السيف، وأنَّ العالم لم يشهَدْ قسوةً وهمجيَّة في إراقَة الدماء مثل ما حدث مِن المسلمين على مدى تاريخهم، ولكنَّ الردَّ على ذلك سهلٌ ميسور؛ فالإسلام طَوالَ تاريخِه لم يجبر أحدًا على اعتناقه؛ لأن القرآن الكريم وجَّهنا بل نَهانا عن إِكْراه الغيرِ من أجل اعتناق الإسلام، قال الله تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾ [البقرة: 256]، ولكنَّ مهمَّة الإسلام تركَّزَت في إزاحةِ ما يَحول بين الناس وبين اختيار ما يَعتقدونه ويؤمنون به، وأكبرُ دليلٍ على ذلك هو هذا التعايُش الذي كان عليه أصحابُ البلدان التي فتحها المسلمون وهم على دينِهم، لم يجبرهم أحدٌ على الدُّخول في الإسلام، ولم يعاقبهم أحدٌ على امتناعهم عن دخول الإسلام، ولم يُخرجهم أحدٌ من ديارهم، ولم يمنعهم أحدٌ من التمتُّع بأموالهم وأرضِهم وهم تحت إدارة الدَّولة المسلمة.

إن الحرب في الإسلام وسيلةٌ لا غاية، وإذا تأمَّلنا كلَّ الغزوات والسرايا التي كانَت في عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم، لوجدنا أن عددَ القتلَى لم يتجاوز ألفًا وخمسمائة شخصٍ تقريبًا، في حين أن عدد القتلَى في الحربين العالميتين الأولى والثانية تجاوز ستَّة ملايين وأربعمائة ألف شخصٍ حسب ما ذكرَته دائرةُ المعارف البريطانيَّة، هذا مع الفارق بين أهداف غزوات النبيِّ صلى الله عليه وسلم التي كانت تهدفُ إلى نشر العدلِ، وتأمين حريَّة الفردِ، وتأمين الحريَّات، وتحقيق المساواة، ورفع الظلمِ عن الإنسان وتحقيق الكرامَة والعزَّة له، أمَّا هذه الحروبُ فكانت من أجل تحقيقِ مطامع فحَسْب، فأيُّ فائدةٍ حققتها تلك النزاعات لهذه البشرية؟ ولا يخفى علينا ما يعانيه الناسُ من آثارِ تلك الحروب، خاصَّة بعد ضرب هيروشيما وناجازاكي بالقنابلِ النوويَّة.

إنَّ المسلمين لديهم عقيدة مفادُها عدم الاعتداءِ على أحدٍ، ولكن في نفس الوقت فإنَّ حقَّ الردِّ مكفول ومشروعٌ إذا اعتدى أحدٌ على المسلمين، وأيُّ قانون وأيُّ عرف يمنع إنسانًا من دفع الظلم، وردِّ الاعتداء بأيِّ وسيلة؟! ثم إنَّ الإسلام بشريعته الغرَّاء قد وضع آدابًا يتبعها المسلمون حتى في حروبهم التي يخوضونها، ليس من باب الاعتداءِ؛ ولكن من باب الدفاعِ عن النفس؛ روى الترمذيُّ في سننه وأبو داود في سننه عن سليمان بن بُريدة بن الحُصيب، عن أبيه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميرًا على جيشٍ أو سريَّةٍ، أوْصَاه في خاصَّة نفسه بتقوى الله ومَن معه من المُسلمين خيرًا، ثُم قال: ((اغزُوا بسمِ الله وفي سبيل الله، وقاتِلُوا مَن كفَر بالله، اغزُوا ولا تَغدِرُوا ولا تَغُلُّوا، ولا تُمثِّلُوا ولا تقتُلُوا وليدًا))، وفي رواية: ((ولا تقتلوا شيخًا، ولا تحرقوا شجرًا، ولا تخربوا عامرًا))، بالله عليكم، من يراعي هذه الآداب في يومِنا هذا في الصراعات المشتعِلَة والمستعرة شرقًا وغربًا؟! ثم بعد ذلك يُتَّهم الإسلامُ، وتُتَّهم شريعتُه!

أكذوبة التقارب:

بين الحين والحين يحاول بعضُ المفكرين إظهارَ فكرة التَّقارب بين الأديان، وهدفُها الأول: تخفيف الآثارِ الفكريَّة التي أسَّسها الاستشراقُ في أذهان عامَّة الغربيين، وصدَّق عليها الإعلامُ الغربي، ولكننا نتساءل: أيَّ تقاربٍ تقصدون؟ وأيَّ شريحةٍ من البشر تستهدفون؟ لقد صمت العالمُ الغربي صَمْت أصحابِ القبور وهو يرى أمامَه الانتهاكات المتكرِّرة في حقِّ المسلمين، وحروب الإِبادة الجماعيَّة التي كانَت أمام أعينِهم وسط أوربا، كالتي حدثَت في البوسنة والهرسك منتصف التسعينيات من القرنِ الماضي، هذا خلاف ما يحدُث في أماكن شتَّى من العالم شرقًا وغربًا، إن التقارب الذي تقصدون إنَّما يعني الاستسلامَ والإِذْعان، فلا مطالبة بحقٍّ، ولا تراجع عن اعتداءٍ، أيَّ تقاربٍ تقصدون والإسلام مُدان في كلِّ حادثة، والتنفير منه على أشُدِّه؟ أيَّ تقارب تقصدون والمباركاتُ للإساءات للنبي صلى الله عليه وسلم تتوالى، والتأكيد على حقوقِ الرسَّامين في رسمِ ما يشاؤون، حتَّى ولو كان ذلك يصطدم اصطدامًا مباشرًا مع معتقدات المسلمين، ويؤذي مشاعرهم؟ أيَّ تقاربٍ تقصدون ومساجدُ المسلمين تُهدم وتحرق وتدنَّس على مرأى من العالم ومؤسَّساته الدوليَّة؟!

ورغم ذلك:
فأيدي المسلمين ممدودة لكلِّ سعيٍ صادِق للتعايش بين بَنِي البشر في سِلْمٍ، وتعارف، وتعاون على مصالح مشتركة، ونفعٍ عام، ولكلٍّ معتقدُه، وهذا ما يحثنا عليه دينُنا الحنيف، ولن يتحقَّق ذلك إلاَّ بتجفيف منابِع التحريض على الإسلام، والكفِّ عن الإساءات المتكرِّرة، واحترام مقدَّسات المسلمين وشرائعهم وشعائرهم، وتغيير النَّبرة الإعلاميَّة لدى الغربيِّين عن الإسلام وأهله، أمَّا إذا استمرَّ هذا الصَّلَف وتلك الإساءات، وتتابعَت السخرية بالثَّوابت عند المسلمين، فلا يظن أيُّ عاقلٍ أن الصراع سيهدَأ، أو أن المسلمين سيرضَون بما فيه إهانة لِدينِهم.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.