الاستشراق مهنة وهواية
أ. د. محمد جبر الألفي

سبق أن ذكرنا أن الهدف الرئيس للاستشراق هو الكشف عن الحضارات الشرقية، ودراستها بمنهج علمي، ونشرها في الشرق وفي الغرب بلغاتها الأصلية، أو ترجمتها إلى شتى اللغات؛ ليَسهُلَ فهمُها، وتعمَّ فائدتها.
 
أمَّا الأهداف الأخرى التي تكلمنا عنها، فلم تكن أهدافًا رئيسة، ولم تَحجُبْ هذا الهدف الذي ظل هو الهدف الغالب، واستقطَبَ معظم المستشرقين الذين صانوا أقلامهم عن التضليل وعن السير في الرِّكاب، وصحَّحوا أخطاء زملائهم وأساتذتهم ومن تقدمهم من المستشرقين، حتى لو أدَّى ذلك بهم إلى الإفلاس، أو السجن، أو القتل، وكانت لديهم العدة الكافية والإخلاص للعلم، فأدوا إلى الحضارة الإنسانية أجلَّ الخَدَمات، وكشفوا عن كنوز من التراث الإسلامي، فحققوها، وترجموها، وبَوَّبُوها، ويسَّروا تناولها، فكان ذلك من أهم عوامل النهضة العربية الحديثة، ومن الأسباب المؤثرة في هداية الألوف من الغربيين إلى اعتناق الإسلام عن عقيدة راسخة، ودراسة علمية متعمقة[1].
 
ولقد بلغ المستشرقون هذا المبلغ لعدة مميزات، نذكر من بينها[2]:
:diamonds: أَخْذهم بأمهات اللغات - ساميةً كانت أو آرية - فدرسوها دراسة متعمقة، وصنَّفوا فيها، وشرحوا آدابها، وزادوا في معاجمها، وحلُّوا من الكتابات ما ظل عدة قرون في عداد الطلاسم، مثل الهيروغليفية والمسمارية والنبطية، فأدَّى صنيعُهم إلى اكتشافات غيَّرتْ وجه التاريخ.
 
وقد ألفت كتب عديدة تبين تغلغل اللغة العربية في العديد من لغات العالم، مثل:
المؤلف    الكتاب
مونك    تأثير العربية لغة وأدبًا في اللغة العبرية بعد التوراة.
يوشمانوف    الكلمات العربية الدخيلة على الروسية.
دوزي    معجم الألفاظ الإسبانية والبرتغالية من أصل عربي.
لامنس    المفردات الفرنسية المشتقة من العربية.
فلاديمير تسوف    الكلمات العربية الدخيلة على المغولية.
ديمترييف    الكلمات العربية في اللغة البشكيرية.
ريبكا    أثر اللغة العربية في الأدبين التركي والفارسي.
 
طبَّق المستشرقون على أنفسهم وأبحاثهم نظامَ التخصص، فالبعض يختصُّ باللغة وفقهها وبلاغتها، والآخر يختص بالتشريع الإسلامي ونشأته وتطوره، ومنهم من تفرَّد بعصر دون سواه، أو بدراسة شخص دون غيره، أو تعقَّب كل ما كتب في موضوع معين بسائر اللغات، وتصحيح ما قد يشوبُه من خطأ، فالمستشرق الفرنسي ليون جوتيه تعقَّب ترجمات "حي بن يقظان" الكثيرة المتداولة، وأعاد النظر فيها، ثم نشرها متنًا وترجمة، فجاءت الطبعة العلمية الفريدة (الجزائر 1900 - بيروت 1936 باريس 1937).
 
دأَب المستشرقون على العمل بصبر وجَلَدٍ منقطع النظير، وربما ينقضي عمر أحدهم في تحقيق مخطوط، أو تصنيف كتاب، أو تحرير مقالة، لا يشغله مال ولا أهل ولا وطن، ولا ينتظر مكافأة من أحد، وقد يتهرب من الدعوات الكثيرة التي توجه إليه لتكريمه ومنحه أرفع الجوائز.
 
ومن المعروف - على سبيل المثال - أن المستشرق البريطاني إدوارد لين، رحل ثلاث رحلات إلى مصر، في سبيل معجمه "مد القاموس" بالعربية والإنجليزية، وكان يعمل فيه من اثنتي عشرة ساعةً إلى أربعَ عشرةَ في اليوم، على مدى خمس وعشرين سنة.
 
والمستشرق الألماني فلوجيل، جمع مخطوطات كتاب الفهرست لابن النديم من مكتبات فيينا وباريس ولندن طوال خمس وعشرين سنة.
 
وتعاقب على ترجمة كتاب الخطط للمقريزي ثلاثة من المستشرقين، هم: "يوريان" الذي توفي سنة 1903، و"كازانوفا" الذي توفي سنة 1926، ثم "فييت" الذي تولى إدارة مجلة القاهرة سنة 1938.
 
المنهج العلمي[3]:
"لم يبتدعه المستشرقون ابتداعًا، بل هو منهج أشاعه في الغرب أعلامُ المفكرين، من أمثال: مونتن، وسانت أفرموند، ومونتسكيوه، ولئن كان مذهب التشكيك قد عرف عن الغزالي، فإنه لم يؤخذ به إلا بفضل: ديكارت، ولا هارب، وبرونتيير، وهو قائم على الإحاطة والتنخل، والموازنة والترتيب، والاستنباط لبلوغ الحقيقة، وكل ما لا يثبت عليه من علم وأدب وفن مردود.
 
وقد التزمه علماء الغرب في كل مناهجهم التزامًا شديدًا، وطبَّقه المستشرقون على علومنا وآدابنا وفنوننا تطبيقًا صحيحًا، فعلهم بما في اللغات الأخرى، سامية كانت أو آرية".
 
لئن نجح هذا المنهج العلمي نجاحًا منقطع النظير، وأدى للإنسانية أجلَّ الخَدَمات فيما يتصل بالعلوم والفنون والآداب، إلا أنه حين يتعلق بمناقشة معالم الإسلام قلما يؤدي إلى نتيجة مُرضية؛ ذلك "أن الإدراك الديني تجربة روحية حدسية، ولا يمكن التقاطها بالمناهج التحليلية والنقدية، وهؤلاء الذين يكونون خارج نظام ديني، لا يمكنهم اقتناص دلالة التجربة التي يمارسها من يعيشون داخل هذا النظام، إنه شيء لا يمكن تعلمه من الكتب"[4].
 
ومع ذلك فقد عرف العالم الإسلامي قدرَ هؤلاء المستشرقين، ومدى الفائدة التي يمكن أن تعود على النهضة الإسلامية الحديثة من جهودهم.
 
فقرَّر الأزهر إيفادَ عدد من مبعوثيه إلى كل من جامعات فرنسا وألمانيا وإنجلترا، وتكليفَ أعلام المستشرقين - الذين اعتنقوا الإسلام - بإلقاء سلسلة من دراساتهم الإسلامية على طلاب معهد الإعداد والتوجيه.
 
واستدعت الجامعات المصرية أساتذة من المستشرقين لإلقاء المحاضرات في كلياتها المختلفة، وأوفدت المئات من المبعوثين إلى معاهد الاستشراق؛ ليتعلَّموا من المستشرقين، ويأخذوا منهجهم، وينشروا ما يناسب من أعمالهم.
 
ولمناسبة إنشاء معهد عالٍ للتراث، اقترحت الدكتورة بنت الشاطئ إيفادَ الممتازين من خريجيه في بعثات علمية إلى معاهد الاستشراق، كليدن، ولينجراد، وطشقند، وروما، وصقلية.
 
واستعانت المؤسسات الرسمية بالمستشرقين في متاحفها ومكتباتها، ومعاهدها ومجامعها، ومؤتمراتها ومجلاتها.
 
هذا الذي حدث في مصر، حدث مثله في سائر البلدان الإسلامية؛ تقديرًا لمن شغلوا بتراثنا كشفًا وجمعًا، وتحقيقًا وترجمة، وتصنيفًا منذ ألف سنة، في جميع البلدان، وبشتى اللغات[5].

________________________________________
[1] محمد بديع شريف وزكي المحاسني وأحمد عزت عبدالكريم، دراسات تاريخية في النهضة العربية الحديثة.
[2] نجيب العقيقي، المستشرقون، جـ 3 ص: 1142 وما بعدها.
[3] نجيب العقيقي، المستشرقون، جـ 3 ص: 1141 / 1142.
[4] محمد البهي، الفكر الإسلامي الحديث، ص: 609 والمراجع التي أشار إليها.
[5] نجيب العقيقي، المستشرقون، جـ 3 ص: 1166.