الاستغراب السياسي
ومن بوادر الاستغراب السياسي يمكن أن ينظر إلى رحلة الأديب والصحفي والسياسي العربي رزق الله حسون (1240 - 1297ه/ 1825 - 1880م)، ولأسباب سياسية في الدوافع والأهداف سافر حسون هربًا من وضع سياسي قائم في البلاد العربية -في أواخر الخلافة العثمانية- إلى روسيا، ووصلها سنة (1868م)، أملًا في مساعدة قيصر روسيا الكسندر نيقولا ييفتش في إقامة دولة عربية، وقد مكث حسون في روسيا عدة سنوات، وعندما يئس من مساعدة القيصر الروسي غادر إلى إنكلترا.

وفي مدة وجوده في بطرسبورغ نظم حسون العديد من الأشعار، التي حفظت في ديوان، كما قام بنسخ بعض المخطوطات العربية الموجودة في مكتبات بطرسبورغ، فقد نسخ لنفسه في عام (1867م) نسخة من مخطوط ديوان الأخطل، وتمت الاستفادة فيما بعد من هذه النسخة في تحقيق ديوان الأخطل وطباعته في بيروت، في إطار التعاون بين العلماء الروس والعرب.

وقد تحدث المستشرق الروسي أغناطيوس كراتشكوفسكي (1883 - 1951م) عن حسون قائلًا: "كان خطاطًا وسياسيًّا وشاعرًا ومغامرًا، وقد كان قوميًّا عربيًّا، فخاف على حياته وهرب من تركيا إلى روسيا عبر بلاد القوقاز، ولم يكن ذلك على ما يبدو دون مساعدة ديبلوماسي روسي في القسطنطينية هو الجنرال يوغوسلافسكي الذي سعى إلى ترجمة معاني القرآن الكريم إلى الروسية سنة 1893م، "وكان حسون قد قضى عدة أعوام في بطرسبورغ حاول أثناءها في بساطة أو سذاجة أن يحصل على مساعدة القيصر الكسندر الثاني في تأسيس دولة العربية مستقلة، وعندما دب إليه اليأس والقنوط في محاولته تلك، رحل إلى إنكلترا، وهناك استخدم الهجاء اللاذع وكلماته الملتهبة في الكفاح ضد السلطان التركي وجمعية تركيا الفتاة، وتوفي في إنكلترا في ظروف غامضة، ويقال: إنه مات مسمومًا عن طريق جاسوس للسلطان التركي، وقد كان محبًّا للأدب وعالمًا به، وقد زينت الكتب التي كتبها بخطه الجميل خزائن المحفوظات المختلفة، وكذلك قام بترجمة أصيلة جدًّا لبعض أشعار الحكمة التي نظمها الشاعر الروسي إيفان كريلوف (1769 - 1844م) نقلًا من الروسية إلى العربية".

وفي بداية القرن العشرين الميلادي حرر الصحفي المصري محمد طلعت جريدة عربية باسم (التلميذ) في بطرسبورغ، ونشر كتابًا صغيرًا يصف فيه انطباعاته عن روسيا.

لقد اعتبر المستعرب الروسي الكبير أغناطيوس كراتشكوفسكي (1883 - 1951م) أن أهم شخصيتين أثرتا في الاستعراب الروسي هما الشيخ محمد عياد الطنطاوي ومرقص الدمشقي، يقول: "وإلى جانب عمالقة عملنا الاستعرابي أمثال فرين وروزن، وإلى جانب الروس، يقف عربيان عملا في روسيا، أولهما الشيخ الطنطاوي المصري، وثانيها مرقص الدمشقي".

وتلازمت المثاقفة المعكوسة من خلال انتشارها وتوكيدها على المكانة الحضارية للثقافة العربية الإسلامية في تراث الإنسانية، مع جهود الاستغراب الناجمة عنها والمستندة إليها في الوقت نفسه، ويذكر في هذا المجال نموذجان للمثاقفة المعكوسة، الأول: المؤثرات العربية والإسلامية في أدب بوشكين في كتابي مؤثرات عربية وإسلامية في الأدب الروسي (1992م) لمكارم الغمري وبوشكين والقرآن: دراسة في الأدب المقارن (2001م) لمالك صقور، والثاني: المؤثرات الأدبية العربية على قصص بورخيس مثالًا حيًّا للمثاقفة المعكوسة.