الاستغراب والعلاقات الحضارية
ينظر إلى الاستغراب الآن على أنه محدد رئيسي من محددات العلاقة بين الشرق والغرب، والذي يظهر أن العلاقة بين الشرق (العالم الإسلامي) والغرق قد انطلقت بقوة واضحة مع بعثة الحبيب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، حينما أرسل الوفود إلى الملوك والأباطرة والحكام يدعوهم إلى الإسلام، فكان حوار بين الوفود وهرقل إمبراطور الروم، ثم انطلقت العلاقة بين أخذ ورد، كان فيها نقاش وحجاج وجدال وحوار لا يزال قائمًا إلى يومنا هذا، وأخذ الحوار أشكالًا متعددة، منها العلمي والسياسي والحربي والبعثات العلمية والترجمة والنقل.

وظهرت الحروب الصليبية شكلًا من أشكال الحوار دام حوالي مائتي سنة؛ حيث بدأت هذه الحروب في ربيع الثاني من سنة 491هـ/ مارس من سنة 1095م، وانتهت في شعبان من سنة 690هـ/ أغسطس من سنة 1291م، ثم تبعتها حوارات أخرى، كان الاحتلال والاستشراق شكلًا آخر من أشكالها، إبان الاحتلال وقبله وبعده، والتنصير كذلك.

على أن لدينا من يرى أننا لا نزال نعيش في عصر صليبية بروتستانتية أشد قسوة من صليبية العصور الوسطى، يستوي في هذا بعض المفكرين العرب والمسلمين والمفكرين والمُستشرقين الغربيين، هذا في الوقت الذي يدعو فيه بعض المفكرين العرب إلى نسيان الصراعات والمشكلات التي حدثت في القرن الثالث عشر الهجري - التاسع عشر الميلادي وما قبله، مرورًا بغزو نابليون لمصر في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر الميلادي (1213 - 1216هـ)، وبمعاهدة سايكس - بيكو في القرن الرابع عشر الهجري العشرين الميلادي (1334هـ/ 1916م) .

كل هذا حدَا ببعض المفكرين العرب المعاصرين إلى أن يدعوا إلى قيام علم الاستغراب، فانبرى من يدعو إلى قيام هذا العلم؛ ليأتي مواجهًا لا للاستشراق فحسب، بل للتغريب "الذي امتد أثره ليس فقط إلى الحياة الثقافية وتصوراتها للعالم، وهدد استقلالنا الحضاري، بل امتد إلى أساليب الحياة اليومية، ونقاء اللغة، ومظاهر الحياة العامة وفن العمارة"، ومن نقاء اللغة الدقة في استخدام المصطلحات المشتركة لفظًا مع مصطلحات غربية والمختلفة معنًى ومفهومًا، وما يعتريها من اضطراب في المفهوم، كالإرهاب والأصولية والتسامح، وغيرها.

دعا حسن حنفي إلى العناية بالاستغراب وجعله علمًا، ويقال: إنه يعد سباقًا بهذه الدعوة، إلا أن عالم الاجتماع الفلسطيني سميح فرسون (توفي سنة 1426هـ/ 2005م) يطالب بأبوة هذه الدعوة قبل غيره، فهو يرى أن الاستغراب نقد للغرب، وقد رفض جورج طرابيشي (1939 - ) المصطلح إلى حد الاستحالة، إلا أن عز الدين قلوز (1932 - ) يؤكد أنه مع الاستغراب المشروط، حيث يقول: نعم للاستغراب لكن بشروط، منها أن تكون الدراسة من الخارج، ولا تلتزم بالجغرافيا (الجهوية).

يقول الطيب تيزيني في عرضه لكتابه (من الاستشراق الغربي إلى الاستغراب المغربي): "لقد دعا حسن حنفي إلى استغراب يمثل الوجه الآخر من الاستشراق المذكور، بحيث يمكن النظر إليه في أحد أوجه المسألة على أنه إنتاج مباشر من قبل هذا الاستشراق ورد فعل عليه، مع التأكيد من طرف آخر على أن ذلك الاستغراب يجد مسوغه الإيديولوجي والمنهجي الرئيسي في البنية الاجتماعية العربية نفسها، أما الحالة الأخرى التي نحن بصددها هنا في الكتاب المذكور فتنطلق من حقل إيديولوجي ومنهجي آخر يقوم على كونه (وهو هنا الاستشراق المعني هنا) يعيد إنتاج نفسه ضمن ظروف الشرق (العربي الغربي) وبصيغ محلية عربية الوجه واليد واللسان، ولكن استشراقية غربية المرجعية، ولقد تناولت في سياق ذكر وعلى سبيل النمذجة مجموعة كتابات الدكتور محمد عابد الجابري"، ولعل طيب تيزيني لا يقصد بمصطلح الاستغراب في كتابه ما تهدف إليه هذه الدراسة، بل ربما قصد تبني أفكار الغرب ومناهجه، مما يكون أقرب إلى التغريب.