ذكر جزيرة مصر وهي المسماة الآن بالروضة:
قال المقريزي: اعلم أن الروضة تطلق في زماننا على الجزيرة التي بين مدينة مصر وبين مدينة الجيزة، وعرفت في أول الإسلام بالجزيرة وجزيرة مصر، ثم قيل لها: جزيرة الحصن، وعرفت الروضة من زمن الأفضل بن أمير الجيوش إلى اليوم. انتهى.
والجزيرة كل بقعة في وسط البحر لا يعلوها البحر، سميت بذلك؛ لأنها جزرت، أي قطعت وفصلت من تخوم الأرض، فصارت منقطعة.
وفي الصحاح: الجزيرة: واحدة جزائر البحر؛ سميت بذلك لانقطاعها عن معظم الأرض.
وقال ابن المتوج في كتابه إيقاظ المتغفل واتعاظ المتأمل: إنما سميت جزيرة مصر بالروضة؛ لأنه لم يكن بالديار المصرية مثلها وبحر النيل حائز لها ودائر عليها، وكانت حصينة، وفيها من البساتين والثمار ما لم يكن في غيرها.
ولما فتح عمرو بن العاصي مصر تحصن الروم بها مدة، فلما طال حصارها وهرب الروم منها خرب عمرو بن العاص بعض أبراجها وأسوارها، وكانت مستديرة عليها، واستمرت إلى أن عمر حصنها أحمد بن طولون في سنة ثلاث وستين، ولم يزل هذا الحصن حتى خربه النيل.
وقال المقريزي: اعلم أن الجزائر التي هي الآن في بحر النيل كلها حادثة في الإسلام ما عدا الجزيرة التي تعرف اليوم بالروضة تجاه مدينة مصر؛ فإن العرب لما دخلوا مع عمرو بن العاص إلى أرض مصر، وحاصروا الحصن الذي يعرف اليوم بقصر الشمع في مصر؛ حتى فتحه الله عنوة على المسلمين، كانت هذه الجزيرة حينئذ تجاه القصر، لم يبلغني إلى
(2/377)
_________
الآن متى حدثت، وأما غيرها من الجزائر كلها فقد تجددت بعد فتح مصر، وإلى هذه الجزيرة التجأ المقوقس لما فتح الله على المسلمين القصر، وصار بها هو ومن معه من جموع الروم والقبط.
وقال ابن عبد الحكم: كان بالجزيرة في أيام عبد الملك بن مروان أمير مصر خمسمائة فاعل عدة لحريق إن كان في البلاد أو هدم.
وقال الكندي: بنيت بالجزيرة الصناعة في سنة أربع خمسين -والصناعة اسم لمكان قد أعد لإنشاء المراكب البحرية- وأول صناعة عملت بأرض مصر التي بنيت بالروضة في سنة أربع وخمسين من الهجرة، فاستمرت إلى أيام الإخشيد، فأنشأ صناعة بساحل فسطاط مصر، وجعل موضع الصناعة التي بالروضة بستانا سماه المختار.
وقال القضاعي: حصن الجزيرة بناه أحمد بن طولون في سنة ثلاث وستين ومائتين، ليحرز فيه حريمه وماله، وكان سبب ذلك مسير موسى بن بغا من العراق واليًا على مصر، وجميع أعمال ابن طولون، وذلك في خلافة المعتمد على الله، فلما بلغ أحمد بن طولون مسيره تأمل مدينة فسطاط مصر، فوجدها لا تأخذ إلا من جهة النيل، فبنى الحصن بالجزيرة التي بين الفسطاط والجيزة ليكون معقلًا لحريمه وذخائره، واتخذ مائة مركب حربية سوى ما يضاف إليها من العشاريات وغيرها؛ فلما بلغ موسى بن بغا بالرقة تثاقل عن المسير لعظم شأن ابن طولون وقوته، ثم لم يلبث موسى أن مات، وكفى ابن طولون أمره.
وقال محمد بن داود لأحمد بن طولون:
لما قضى ابن بغا بالرقتين ملا ... ساقيه درقًا إلى الكعبين والعقب
بنى الجزيرة حصنًا يستجن به ... بالعسف والضرب، والصناع في تعب
وواثب الجيزة القصوى فخندقها ... وكاد يصعق من خوف ومن رعب
(2/378)
_________
له مراكب فوق النيل راكدة ... لما سوى القار للنظار والخشب
ترى عليها لباس الذل مذ بنيت ... بالشط ممنوعة من عزة الطلب
فما بناها لغزو الروم محتسبًا ... لكن بناها غداة الروع للهرب
وقال سعيد القاص من أبيات:
وإن جئت رأس الجسر فانظر تأملًا ... إلى الحصن أو فاعبر إليه على الجسر
ترى أثرًا لم يبق من يستطيعه ... من الناس في بدو البلاد ولا حضر
وما زال حصن الجزيرة هذا عامرًا أيام بني طولون؛ حتى أخذه النيل شيئًا فشيئًا، وقد بقيت منه بقايا متقطعة إلى الآن.
وكان نقل الصناعة من الجزيرة إلى ساحل مصر في شعبان سنة خمس وعشرين وثلثمائة، وبنى مكانها البستان المختار، وصرف على بنائه خمسة آلاف دينار؛ فاتخذه الإخشيد متنزهًا به، وصار يفاخر به أهل العراق، ولم يزل متنزها إلى أن زالت الدولة الإخشيدية والكافورية، وقدمت الدولة العبيدية؛ فكان يتنزه فيه المعز والعزيز، وصارت الجزيرة مدينة عامرة بالناس، بها وال وقاض.
وكان يقال: القاهرة ومصر والجزيرة؛ فلما استولى الأفضل شاهنشاه ابن أمير الجيوش بدر الدين، أنشأ في بحري الجزيرة بستانًا نزهًا سماه الروضة، وتردد إليه ترددات كثيرة؛ ومن حينئذ صارت الجزيرة كلها تعرف بالروضة.
قال ابن ميسر في تاريخ مصر: أنشأ الأفضل الروضة بحري الجزيرة، وكان يمضي كل يوم إليها في العشاريات الموكبية، وكان قتل الأفضل في سنة خمس عشرة وخمسمائة.
قال: وفي سنة ست عشرة وخمسمائة، نقل المأمون البطائحي الوزير عمارة المراكب الحربية من الصناعة التي تجري بجزيرة مصر إلى الصناعة القديمة بساحل مصر، وبنى عليها منظرة كانت باقية إلى آخر أيام الدولة العلوية، فلما استبد الخليفة الآمر بالأمر، أنشأ بجوار البستان
(2/379)
_________
المختار من جزيرة الروضة مكانًا لمحبوبته البدوية عرف بالهودج، وذلك لما صعب عليها السكنى في القصور، ومفارقة ما اعتادته من الفضاء.
وكان الهودج على شاطئ النيل في شكل غريب، ولم يزل الآمر يتردد إليه للنزهة فيه، إلى أن ركب إليه يوما، فلما كان برأس الجسر، وثب عليه قوم كانوا كمنوا له بالروضة، فضربوه بالسكاكين حتى أثخنوه، وذلك يوم الأربعاء رابع ذي القعدة سنة أربع وعشرين وخمسمائة، ونهب سوق الجزيرة ذلك اليوم.
قال ابن المتوج: اشترى الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب جزيرة مصر المشهورة بالروضة من بيت المال المعمور في شعبان سنة ست وعشرين وخمسمائة، وبقيت على ملكه إلى أن سير السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ولده الملك العزيز عثمان إلى مصر، ومعه عمه الملك العادل، وكتب إلى الملك المظفر أن يسلم لهما البلاد، ويقدم عليه إلى الشام، فلما ورد عليه الكتاب، ووصل ابن عمه الملك العزيز وعمه الملك العادل، شق عليه خروجه من الديار المصرية، وتحقق أنه لا عود له إليها أبدًا، فوقف مدرسته التي تعرف في مصر بالمدرسة التقوية؛ وكانت قديمًا تعرف بمنازل العز على الفقهاء الشافعية، ووقف عليها جزيرة الروضة بكمالها، ووقف أيضا مدرسة بالفيوم، وسافر إلى عمه صلاح الدين إلى دمشق، فملكه حماة، ولم يزل الحال كذلك إلى أن ولي الملك الصالح نجم الدين أيوب، فاستأجر الجزيرة من القاضي فخر الدين أبي محمد عبد العزيز بن قاضي القضاة عماد الدين أبي القاسم عبد الرحمن بن محمد المعروف بابن السكري مدرس المدرسة المذكورة لمدة ستين سنة في دفعتين؛ كل دفعة قطعة، فالقطعة الأولى من جامع عين إلى المنظر طولا وعرضا من البحر إلى البحر، واستأجر القطعة الثانية، وهي باقي أرض الجزيرة الدائر عليها بحر النيل حينذاك، واستولى على ما كان للجزيرة من النخل
(2/380)
_________
والجميز والغروس، فكأنه لما عمر الملك الصالح مناظر قلعة الجزيرة قطعت النخل، ودخلت في العمائر.
وأما الجميز فإنه كان بشاطئ بحر النيل صف جميز يزيد على أربعين شجرة، وكان أهل مصر فرجهم تحتها في زمن النيل والربيع، قطعت جميعها في الدولة الظاهرية، وعمر بها شواني عوض الشواني التي كان سيرها إلى جزائر قبرص، وتكسرت هناك، واستمر تدريس المدرسة التقوية بيد القاضي فخر الدين إلى حين وفاته، ثم وليها بعده ولده القاضي عماد الدين أبو الحسن علي، وفي أيامه تسلم له القطعة المستأجرة من الجزيرة أولا، وبقي بيد السلطنة القطعة الثانية إلى الآن، وكان الإفراج عنهما في شهور سنة ثمان وتسعين وستمائة في الدولة الناصرية، ولم يزل القاضي عماد الدين مدرسها إلى حين وفاته، فوليها ولده وهو مدرسها الآن في شعبان سنة أربع عشرة وسبعمائة.
هذا كله كلام ابن المتوج.
ولم تزل الروضة متنزها ملوكيًّا، ومسكنا للناس إلى ان تسلطن الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل محمد، فأنشأ بالروضة قلعة، واتخذها سرير ملك، فعرفت بقلعة المقياس، وبقلعة الروضة، وبقلعة الجزيرة وبالقلعة الصالحية.
وكان الشروع في حفر أساسها يوم الأربعاء خامس شعبان سنة ثمان وثلاثين وستمائة، ووقع الهدم في الدور والقصور والمساجد التي كانت بجزيرة الروضة، وتحول الناس من مساكنهم التي كانت بها، وهدم كنيسة كانت لليعاقبة بجانب
المقياس، وأدخلها في القلعة، وأنفق في عمارتها أموالا جمة، وبنى فيها الدور والقصور، وعمل لها ستين برجًا، وبنى بها جامعا، وغرس بها جميع الأشجار، ونقل إليها من البرابي العمد الصوان والعمد الرخام، وشحنها بالأسلحة وآلات الحروب وما يحتاج إليها من الغلال، والأقوات خشية من محاصرة الفرنج فإنهم كانوا حينئذ على عزم قصد بلاد مصر.
(2/381)
_________
وبالغ في إتقانها مبالغة عظيمة؛ حتى قيل: إنه استقام كل حجر فيها بدينار، وكل طوبة بدرهم، وكان الملك الصالح يقف بنفسه، ويرتب ما يعمل، فصارت تدهش من كثرة زخرفها، ويحير الناظر إليها حسن سقوفها المقرنصة، وبديع رخامها.
ويقال: إنه قطع من الموضع الذي أنشا فيه هذه القلعة ألف نخلة مثمرة، وكان رطبها يهدى إلى ملوك مصر لحسن منظره، وطيب طعمه.
وخرب البستان المختار والهودج، وهدم ثلاثة وثلاثين مسجدًا كانت بالروضة، وأدخلت في القلعة.
واتفق له في بعض هذه المساجد خبر عجيب؛ قال الحافظ جمال الدين يوسف بن أحمد اليغموري: سمعت الأمير جمال الدين موسى بن يغمور بن جلدك، يقول: من عجيب ما شاهدته من الملك الصالح، أنه أمرني أن اهدم مسجدا بجزيرة مصر، فأخرت ذلك، وكرهت أن يكون هدمه على يدي، فأعاد الأمر، وأنا كاسر عنه؛ فكأنه فهم عني ذلك، فاستدعى بعض خدمه وأنا غائب، وأمره أن يهدم ذلك المسجد، وأن يبنى في مكانه قاعة، وقدر له صفتها، فهدم ذلك المسجد، وعمر تلك القاعة مكانه وكملت.
وقدم الفرنج على الديار المصرية، وخرج الملك الصالح مع عساكره إليهم، ولم يدخل تلك القاعة التي بنيت في مكان المسجد، فتوفي السلطان بالمنصورة، وجعل في مركب، وأتي به إلى الروضة فجعل في تلك القاعة التي بنيت مكان المسجد مدة إلى أن بنيت له التربة التي في جنب مدرسته بالقاهرة.
وكان النيل في القديم محيطا بالروضة طول السنة، وكان فيما بين ساحل مصر والروضة جسر من خشب، وكذلك فيما بين الروضة، والجيزة جسر من خشب يمر عليهما الناس والدواب من مصر إلى الروضة، ومن الروضة إلى الجيزة؛ وكان هذان الجسران من مراكب مصطفة بعضها بحذاء بعض، وهي موثقة، ومن فوق المراكب أخشاب ممتدة فوقها تراب.
وكان عرض الجسر ثلاث قصبات، ولم يزل هذا الجسر قائما إلى أن قدم المأمون
(2/382)
_________
مصر، فأحدث جسرا جديدا، فاستمر الناس يمرون عليه، وكان عبور العساكر التي قدم من المعز مع جوهر القائد على هذين الجسرين، وكان الجسر المتصل بالروضة كرسيه حيث المدرسة الخروبية قبلي دار النحاس، وكان النيل عندما عزم الملك الصالح على عمارة قلعة الروضة قد أنطرد عن بر مصر، ولا يحيط بالروضة إلا في أيام الزيادة، فلم يزل يغرق السفن في ناحية الجيزة، ويحفر فيما بين الروضة ومصر ما كان هناك من الرمال، حتى عاد ماء النيل إلى بر مصر، واستمر هناك، فأنشأ جسرا عظيما ممتدا من بر مصر إلى الروضة، وجعل عرضه ثلاث قصبات.
وكان كرسيه حيث المدرسة الخروبية قبلي دار النحاس، وصار أكثر مرور الناس بأنفسهم ودوابهم في المراكب؛ لأن الجسرين قد اجترما بحصولهما في حيز قلعة السلطان، وكان الأمراء إذا ركبوا من منازلهم يريدون الخدمة إلى السلطان بقلعة الروضة يترجلون عن خيولهم عند البر، ويمشون في طول الجسر إلى القلعة، ولا يمكن أحد من العبور عليه راكبا، سوى السلطان فقط.
ولما كملت تحول إليها بأهله وحريمه، واتخذها دار ملك، وأسكن معه فيها مماليكه البحرية؛ وكانت عدتهم نحو الألف.
وما برح الجسر قائما إلى أن خرب المعز أيبك قلعة الروضة بعد سنة ثمان وأربعين وستمائة، فأهمل، ثم عمره الظاهر بيبرس على المراكب، وعمله من ساحل مصر إلى الروضة، ومن الروضة إلى الجيزة، لأجل عبور العسكر عليه لما بلغه حركة الإفرنج.
وقال علي بن سعيد في كتاب المغرب -وقد ذكر الروضة: هي أمام الفسطاط فيما بينها وبين مناظر الجيزة، وبها مقياس النيل، وكانت متنزها لأهل مصر، فاختارها الصالح بن كامل سرير السلطنة، وبنى فيها قلعة مسورة بسور ساطع اللون، محكم
(2/383)
_________
البناء، عالي السمك، لم تر عيني أحسن منه، وفي هذه الجزيرة كان الهودج الذي بناه الآمر الخليفة لزوجته البدوية التي هام في حبها، والمختار بستان الإخشيد وقصره، وله ذكر في شعر تميم بن المعز وغيره.ولشعراء مصر في هذه الجزيرة أشعار منها قول أبي الفتح بن قادوس الدمياطي:
أرى سرح الجزيرة من بعيد ... كإحداق تغازل في المغازل
كأن مجرة الجوزاء خطت ... وأثبتت المنازل في المنازل
وكنت أبيت بعض الليالي في الفسطاط على ساحلها، فيزدهيني ضحك البدر في وجه النيل.
أما سور هذه الجزيرة الدري اللون، فلم ينفصل عن مصر حتى كمل سور هذه القلعة، وفي داخله من الدور السلطانية ما ارتفعت إليه همة بانيها، وهو من أعظم السلاطين همة في البناء، وأبصرت في هذه الجزيرة إيوانًا لجلوسه لم تر عيني مثاله، ولا يقدر ما أنفق عليه، وفيه من الكتابة بصفائح الذهب والرخام الأبنوسي والكافوري والمجزع ما يذهل الأفكار، ويستوقف الأبصار، ويفصل عما أحاط به السور أرض طويلة في بعضها حاظر حظر على أصناف الوحوش التي يتفرج فيها السلطان، وبعدها بروج يتقطع فيها مياه النيل، فينظر فيها أحسن منظر، وقد تفرجت كثيرًا في طرق هذه الجزيرة مما يلي بر القاهرة، فقطعت بها عشيات مذهبات، لا تزال لأحزان الغربة مذهبات، وإذا زاد النيل فصل ما بينها وبين الفسطاط بالكلية.
وفي أيام احتراق النيل يتصل برها ببر السلطان من جهة خليج القاهرة، ويبقى موضع الجسر يكون فيه المراكب.
وركبت مرة في هذا النيل أيام الزيادة مع الصاحب المحسن محيي الدين بن بندار وزير الجزيرة، وصعدنا إلى جهة الصعيد ثم انحدرنا، واستقبلنا هذه الجزيرة وأبراجها تتلألأ، والنيل قد انقسم عنها، فقلت:
(2/384)
_________
تأمل لحسن الصالحية إذ بدت ... مناظرها مثل النجوم تلالا
وللقلعة الغراء كالبدر طالعا ... يفرج صدر الماء عنه هلالا
ووافى إليها الماء من بعد غيبة ... كما زار مشغوفا يروم وصالا
وعانقها من فرط شوق لحسنها (1) ... فمد يمينا نحوها وشمالا
ولم تزل هذه القلعة عامرة، حتى زالت دولة بني أيوب، فلما ملك السلطان الملك المعز عز الدين أيبك التركماني أول ملوك الترك بمصر، أمر بهدمها، وعمر
منها مدرسته المعروفة بالمعزية في رحبة الحناء بمدينة مصر، وطمع في القلعة من له جاه، وأخذ جماعة منها عدة سقوف وشبابيك وغير ذلك، وبيع من أخشابها ورخامها أشياء جليلة، فلما صارت مملكة مصر إلى السلطان الملك الظاهر بيبرس البندقداري اهتم بعمارة قلعة الروضة، ورسم للأمير جمال الدين موسى بن يغمور أن يتولى عمارتها كما كانت.
فأصلح بعض ما تهدم منها، ورتب بها الجاندارية وأعادها إلى ما كانت عليه من الحرمة، وأمر بأبراجها ففرقت على الأمراء، وأعطى برج الزاوية للأمير سيف الدين قلاوون الألفي، والبرج الذي يليه للأمير عز الدين الحلي، والبرج الثالث من برج الزاوية للأمير عز الدين أدغان، وأعطى برج الزاوية الغربي للأمير بدر الدين الشمسي، وفرقت بقية الأبراج على سائر الأمراء.
ورسم أن يكون بيوت جميع الأمراء وإصطبلاتهم فيها، وسلم المفاتيح لهم.
فلما تسلطن الملك المنصور قلاوون، وشرع في بناء المارستان والقبة والمدرسة المنصورية نقل من قلعة الروضة هذه ما يحتاج إليه من العمد الصوان، والعمد الرخام التي كانت قبل عمارة القلعة بالبرابي، وأخذ منها رخاما كثيرا، وأعتابا جليلة، مما كان بالبرابي وغير ذلك.
ثم أخذ منها السلطان الناصر محمد بن قلاوون ما احتاج إليه
_________
(1) ط: "وحسنها".
(2/385)
_________
من العمد الصوان في بناء الإيوان المعروف بدار العدل من قلعة الجبل، وبالجامع الجديد الناصري ظاهر مدينة مصر، وأخذ غير ذلك حتى ذهبت كأن لم تكن.
قال المقريزي: وتأخر منها عقد جليل تسمية العامة القوس، كان مما يلي جانبها الغربي أدركناه باقيا إلى نحو سنة عشرين وثمانمائة، وبقي من أبراجها عدة قد انقلب كثير منها، وبنى الناس فوقها دورهم المطلة على النيل، وعادت الروضة بعد هدم القلعة منها متنزهًا، تشتمل على دور كثيرة، وبساتين عدة، وجوامع تقام بها الجمعات والأعياد، ومساجد.
وفي الروضة يقول الأسعد بن مماتي:
جزيرة مصر لاعدتك مسرة ... ولا زالت اللذات فيك اتصالها (1)
فكم فيك من شمس على غصن بانة ... يميت ويحيي هجرها ووصالها
مغانيك فوق النيل أضحت هوادجًا ... ومختلفات الموج فيها جمالها
ومن أعجب الأشياء جنة ... ترف على أهل الضلال ظلالها
وقال ظافر الحداد:
انظر إلى الروضة الغراء والنيل ... واسمع بدائع تشبيهي وتمثيلي (2)
وانظر إلى البحر مجموعا ومفترقًا ... هناك أشبه شيء بالسراويل
والريح تطويه أحيانا وتنشره ... نسيمها بين تفريك وتعديل
الأسعد بن مماتي في الروضة، وقد حلها السلطان الملك الكامل:
جزيرة مصر، أنت أشرف موضع ... على الأرض لما حل فيك محمد
وفيك علا البحران لكن كف ذا ... على الناس أندى بالعطاء وأجود
وأصبحت الأغصان من فرح به ... تمايل، والأطيار فيك تغرد
يرق نسيم حين سار وجدول (3) ... ويشدو هزاز حين يرقص أملد
_________
(1) ح: "فما زالت".
(2) حلية الكميت 265.
(3) ح: "فرق نسيم".
(2/386)
_________