المَبْحَث الثاني: كتابة القرآن وحِفظه
في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-
كيف كان القُرآن يُحفَظ في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟
كان العَرَب أُمّة أُمّيّة، لا تَقرأ ولا تَكتُب إلاّ قليلا؛ فَكَان اعتمادهم على الحفظ أكثر مِن اعتمادهم على الكتابة، ومع ذلك فقد حُفِظ القرآن بِطريقتين: الْحِفظ في الصدور، والكِتابة في السُّطُور.
فَكان لِرسول الله -صلى الله عليه وسلم- كُتّاب يَكتُبون له الوَحي، فإذا نَزَل الوَحي دَعا أحد الكُتّاب، فَأمَره أن يَكتب له ما نَزَل عليه مِن القرآن، ثم حَفَظِه الصحابة، فإن لَم يَحفَظوه كُلّهم حَفِظَه الْحُفّاظ منهم؛ رِجالاً ونساء؛ فالْمُجتَمَع المسلم كلّه كان يَعيش مع القرآن.
قالتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: يَرْحَمُ اللهُ نِسَاءَ الْمُهَاجِرَاتِ الأُوَلَ؛ لَمَّا أَنْزَلَ اللهُ: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [(24) النور: 31] شَقَّقْنَ مُرُوطَهُنَّ فَاخْتَمَرْنَ بِهَا (33).
وفي رواية: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ}: انْقَلَبَ رِجَالٌ مِنَ الأَنْصَارِ إِلَى نِسَائِهِمْ يِتْلُونَهَا عَلَيْهِنَّ (34).
وفي رواية: لَقَدْ أُنْزِلَتْ سُورَةُ النُّورِ: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}: انْقَلَبَ رِجَالُهُنَّ إِلَيْهِنَّ يَتْلُونَ عَلَيْهِنَّ مَا أُنْزِلَ إليهن فيها، ويتلوا الرَّجُلُ عَلَى امْرَأَتِهِ وَابْنَتِهِ وَأُخْتِهِ، وَعَلَى كُلِّ ذِي قَرَابَتِهِ (35).
والشاهِد مِن هذا: أن المجتَمَع كلّه كان يَتَناقَل الوَحي مُشَافَهَة حتى يَصِل إلى النساء في البيوت، بالإضافة إلى أنه يُكتَب في الوَقْت نفسه.
متى كان يُكْتَب الوَحي بعد نُزوله؟
كان الوحي يُكتَب بعد نُزوله مُبَاشَرة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا يُؤجَّل إلى غَدٍ أو بعد غَد؛ فَكَان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يَدْعو الكَاتِب ليَكتُب الوَحي بعد نُزُوله.
قَالَ الْبَرَاء رضي الله عنه: لَمَّا نَزَلَتْ {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ} قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: ادْعُ لِي زَيْدًا، وَلْيَجِيء بِاللَّوْحِ وَالدَّوَاةِ وَالْكَتِفِ، أَوِ الْكَتِفِ وَالدَّوَاةِ، ثُمَّ قَالَ: اكْتُبْ {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ} وَخَلْفَ ظَهْرِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- عَمْرُو بْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ الأَعْمَى قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ فَمَا تَأْمُرُنِي؟ فَإِنِّي رَجُلٌ ضَرِيرُ الْبَصَرِ، فَنَزَلَتْ مَكَانَهَا: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [(4) النساء: 95] (36).
وزيد هو: ابن ثابِت، وهو أحد كُتّاب الوَحي، وهو أحَد أذكياء الأُمّة الإسلامية، فقد تعلّم لُغة اليهود في خمسَة عشر يَومًا.
قـال زَيْد بن ثَابِت رضي الله عنه: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- الْمَدِينَةَ، ذُهِبَ بِي إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَأُعْجِبَ بِي، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا غُلَامٌ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، مَعَهُ مِمَّا أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ بِضْعَ عَشْرَةَ سُورَةً، فَأَعْجَبَ ذَلِكَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، وَقَالَ: يَا زَيْدُ، تَعَلَّمْ لِي كِتَابَ يَهُودَ، فَإِنِّي وَاللهِ مَا آمَنُ يَهُودَ عَلَى كِتَابِي. قَالَ زَيْدٌ: فَتَعَلَّمْتُ لَهُ كِتَابَهُمْ (37)، مَا مَرَّتْ بِي خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً (38) حَتَّى حَذَقْتُهُ، وَكُنْتُ أَقْرَأُ لَهُ كُتُبَهُمْ إِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ، وَأُجِيبُ عَنْهُ إِذَا كَتَبَ (39).
فإذا كان زَيْد بن ثَابِت رضي الله عنه قد تعلّم بِضعة عَشر سُورة قَبْل هِجرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فكيف يكون تعلّمه بعد الهجرة ومُلازَمته للنبي -صلى الله عليه وسلم-؟!
وقد اخْتَبَرَه النبي -صلى الله عليه وسلم-، ففي رواية البخاري في "التاريخ الكبير" (40): فاسْتَقرَأَنِي، فَقَرَأتُ. أي: طَلَب مِنّي أن أقرأ.
كَم كان عَدَد كُـتَّاب الـْوَحْي؟
بَلَغ عَدد الذين كانوا يَكتُبون لِرَسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (17) نَفْسًا.
قال ابن القيم في ذِكْر كُتّابِه -صلى الله عليه وسلم-:
أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والزبير، وعامِر بن فُهَيرة، وعَمرو بن العاص، وأُبَيّ بن كعب، وعبد الله بن الأرْقَم، وثابت بن قَيس بن شَمّاس، وحَنظلة بن الرَّبِيع الأُسَيْدِي (41)، والمغيرة بن شعبة، وعبدالله بن رَوَاحة، وخالد بن الوليد، وخالد بن سعيد بن العاص -وقيل: إنه أوّل مَن كتب له- ومعاوية بن أبي سفيان، وزَيد بن ثابت، وكان ألْزَمَهم لهذا الشأن وأخَصَّهم به (42).
وفي صحيح مُسلِم (43) أنّ أبا سفيان رضي الله عنه سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- ثلاثا -ومنها- قال: ومعاوية تَجْعَله كَاتِبًا بَيْن يَدَيك، قال: نعم.
فالذي يَطْعَن في معاوية رضي الله عنه يَطعَن في القرآن؛ لأن معاوية أحَد كُتّاب الوَحي بهذا الْخَبَر الثابِت.
مُراجَعَة القرآن:
كانت مُراجَعَة ما نَزَل مِن القرآن تَتِمّ كُلّ سَنَة، ففي حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ (44).
وفي رواية لِمسلم: إِنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام كَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ فِي رَمَضَانَ حَتَّى يَنْسَلِخَ، فَيَعْرِضُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- الْقُرْآنَ.
قال ابن حجر: "فَيُدَارِسُه القُرآن" ظاهِره إن كُلاًّ منهما كان يَقرأ على الآخَر، وهي مُوَافِقة لِقَوله: "يُعَارِضُه" فيَستَدعِي ذلك زَمانا زائدا على ما لو قَرأ الوَاحِد (45).
وفائدة هذه المراجَعَة:
إثبَـات الْمُحْكَم، وتَرْك ما نُسِخَت تلاوته، وتَثْبِيت القرآن في قَلْب النبي -صلى الله عليه وسلم-.
قال الإمام عَامِر الشَّعْبِيّ: كَانَ اللَّهُ -تَعَالَى- يُنْزِلُ الْقُرْآنَ السَّنَةَ كُلَّهَا، فَإِذَا كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ عَارَضَهُ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلامُ- بِالْقُرْآنِ، فَيَنْسَخُ مَا يَنْسَخُ، وَيُثْبِتُ مَا يُثَبِتُ وَيُحْكِمُ مَا يُحْكِمُ، وَيُنْسِئُ مَا يُنْسِئُ (46).
فَلمّا اكْتَمَل نُزول القرآن تَمّت مُرَاجَعته مرّتين.
قَالَتْ فاطمة رضي الله عنها: أَسَرَّ إِلَيَّ (47) إِنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي الْقُرْآنَ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً، وَإِنَّهُ عَارَضَنِي الْعَامَ مَرَّتَيْنِ، وَلا أُرَاهُ إِلاّ حَضَرَ أَجَلِي (48).
و"لقد جاءت رواياتٌ كثيرة وأقوال عن العَرْضَة الأخيرة، وهي العَرْضَة الثانية مِن شهر رمضان الذي كان في السَّنة العاشرة مِن الهِجرة، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- عَرَض القرآنَ على جبريل مَرّتين..
والذي أطمئنُّ له وأَدِين به، وألْقَى الله عليه: أنَّ العَرْضَة الأخيرة كان الهـدف منها زيادة تَثْبِيت للقرآن الكـريم، وزيـادة التّثْبِيت للرّسـول -عليه الصلاة والسلام-، وقد شَرُفتْ الحياة بالنبي -عليه الصلاة والسلام- بعد هـذه العَرْضة بما يزيد على سِتّة أشهُر، كانت كَافِية أن يَعلَم كثيرٌ مِن الصحابـة رضـوان الله عليهم ويَتَعَلّمُـوا الوَضْع الأخير للقرآنِ الكريم، كما هو عليه الآن في المصحف (49).
وقد نَزَلت بعض الآيات في تلك السِّتّة أشهر، كما سيأتي.