المَبْحَث الأول: نُزول القرآن
أول هذه المسائل: ما يَتعلّق بِنُزول القرآن:

كيف نَزَل القرآن الكريم؟
نَزَل جِبريلُ -عليه الصلاة والسلام- بِالقُرآن على قَلبِ محمد -صلى الله عليه وسلم-.
قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [(2) البقرة: 97] (4).
وقال -عزّ وَجَلّ-: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [(26) الشعراء: 192 - 195].
وقـال تبـارك وتعـالى: {قُــــلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [(16) النحل: 102].
قال البَغَوِيّ:
وَاخْتَلَفُوا فِي رُوحِ الْقُدُسِ (5)؛ قَالَ الرَّبِيعُ وَغَيْرُهُ: أَرَادَ بِالرُّوحِ الَّذِي نُفِخَ فِيهِ، وَالْقُدُسُ هُوَ اللَّهُ أَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ تَكْرِيمًا وَتَخْصِيصًا، نَحْوَ بَيْتِ اللَّهِ، وَنَاقَةِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ: {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} [(66) التحريم: 12]، {وَرُوحٌ مِنْهُ} [(4) النساء: 171].
وَقِيلَ:
أَرَادَ بِالْقُدُسِ الطِّهَارَةَ، يَعْنِي: الرُّوحَ الطَّاهِرَةَ، سَمَّى رُوحَهُ قُدُسًا.
وَقِيلَ:
سُمِّيَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلامُ- رُوحًا؛ لِلَطَافَتِهِ وَلِمَكَانَتِهِ مِنَ الْوَحْيِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ حَيَاةِ الْقُلُوبِ (6).
قال ابن حَجر:
وَلا يُعْــتَرَضُ بِقَــوْلِهِ -تَعَالَى-: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [(69) الحاقة: 40]؛ لأَنَّ مَعْنَاهُ قَوْلٌ تَلَقَّاهُ عَنْ رَسُولٍ كَرِيمٍ، كَقَوْلِهِ -تَعَالَى-: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [(9) التوبة: 6] (7).
وقال الشيخ الشنقيطي:
قَوْلُهُ -تَعَالَى-: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} ظَاهِرُ هَذِهِ الآيَةِ يَتَوَهَّمُ مِنْهُ الْجَاهِلُ أَنَّ الْقُرْآن كَلامُ جِبْرِيلَ، مَعَ أَنَّ الآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةَ مُصَرِّحَةٌ بِكَثْرَةٍ بِأَنَّهُ كَلامُ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ}، وَكَقَوْلِهِ: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [(11) هود: 1].
وَالْجَوَابُ وَاضِحٌ مِنْ نَفْسِ الآيَةِ؛ لأَنَّ الإِيهَامَ الْحَاصِلَ مِنْ قَوْلِهِ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ} يَدْفَعُهُ ذِكْرُ الرَّسُولِ، لأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَلامَ لِغَيْرِهِ، لَكِنَّهُ أُرْسِلَ بِتَبْلِيغِهِ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ: {لَقَوْلُ رَسُولٍ} أَيْ: تَبْلِيغُهُ عَمَّنْ أَرْسَلَهُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلا نَقْصٍ (8).
وهكذا شأن الرُّسُل التي تَحمِل الرسائل مِن الملوك؛ إنما تُبلِّغ كلام الملوك، وإن نُسِب القول إلى الرسول؛ فيُقال: قال الرسول كذا، أو يَقول لك الرسول كذا.
ولا تُتْرَك الآيات البَيِّنَات الوَاضِحَات الْمُصَرِّحَة بأن القرآن كلام الله، وأنه مِن عِنْد الله لأجْل ما يَتَوهّمه الْجُهّال في أن القرآن قَول جِبريل!
ومما جـاء صريحاً في أن القرآن مِن عِند ربّ العالمين، وأن جِبريل نَزَل به على محمد -صلى الله عليه وسلم-: قوله تبارك وتعالى {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [(26) الشعراء: 192- 195]، وقوله -عزّ وَجَلّ-: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلاً} [(76) الإنسان: 23]، وغيرها من الآيات (9).
وأمَّا ما جاء في قوله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [(2) البقرة: 97] (10)، فليس فيه شُبْهَة أن مَن كان عَدُوّا لِجبريل: أنه هو الذي أنْزَل القرآن، كما يُلبّس به بعض النصارى.
والجواب عن ذلك:
أن سِيَاق الآيات في ذمّ اليهود، وفيها: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [(2) البقرة: 94 - 96].
فكيف يُقال: إن عَدُوّ جِبريل نَزّله على قلبِك؟ وعَدوّ جبريل هُم: اليهود، فكيف يأتي الخِطاب في ذمّ اليهود ومَقْت طَرِيقَتهم، ثم يُقال: إنهم هُم الذين أنْزَلوا القرآن؟!
وبعد تلك الآية: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [(2) البقرة: 98] يَأتي الْحُكم بِكُفْرِ مَن كان عَدُوّا لِجِبْرِيل!
وقد تكفّل الله -عزّ وَجَلّ- بِجَمْع القرآن في قلب محمد -صلى الله عليه وسلم-، فقال الله -عزّ وَجَلّ-: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [(75) القيامة: 16 - 19].
قال ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فِي قَوْلِهِ -تَعَالَى-: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} قَال: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا نَزَلَ جِبْرِيلُ بِالْوَحْيِ، وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ بِهِ لِسَانَهُ وَشَفَتَيْهِ فَيَشْتَدُّ عَلَيْهِ، وَكَانَ يُعْرَفُ مِنْهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الآيَةَ الَّتِي فِي: "لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ" (11): {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} قَالَ: عَلَيْنَا أَنْ نَجْمَعَهُ فِي صَدْرِكَ، وَقُرْآنَهُ فَتَقْرَؤُهُ: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} فَإِذَا أَنْزَلْنَاهُ فَاسْتَمِعْ: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} عَلَيْنَا أَنْ نُبَيِّنَهُ بِلِسَانِكَ، قَالَ: فَكَانَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ أَطْرَقَ، فَإِذَا ذَهَبَ قَرَأَهُ كَمَا وَعَدَهُ اللَّهُ (12).
وقــال تعـالى: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [(20) طه: 114]، قال ابن عباس: يَعْنِي: لا تَعْجَلْ حَتَّى نُبَيِّنَهُ لَكَ (13).
قال الإمام القرطبي:
عَلَّمَ نَبِيَّهُ كَيْفَ يَتَلَقَّى الْقُرْآنَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ -عَلَيْهِ السَّلامُ- يُبَادِرُ جِبْرِيلَ فَيَقْرَأُ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ جِبْرِيلُ مِنَ الْوَحْيِ حِرْصًا عَلَى الْحِفْظِ، وَشَفَقَةً عَلَى الْقُرْآنِ مَخَافَةَ النِّسْيَانِ، فَنَهَاهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، وَأَنْزَلَ: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ}، وهذا كَقَولِه -تَعَالَى-: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} (14).
وتَكَفّل الله -عزّ وَجَلّ- لِنَبِيِّه -صلى الله عليه وسلم- أن يُقْرِئه القرآن فلا يَنْسَى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى (6) إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ} [(87) الأعلى: 6، 7].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: إلاّ ما شِئت أنا فأُنْسِيك (15).
وَمَعْنَى الْكَلامِ: فَلا تَنْسَى إِلاّ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَنْسَاهُ وَلا تَذْكُرْهُ، قَالُوا: ذَلِكَ هُوَ مَا نَسَخَهُ اللَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ، فَرَفَعَ حُكْمَهُ وَتِلاوَتَهُ (16).
ومثله ما جاء في قوله -تعالى-: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [(10) يونس: 94]، فليس فيه إثبات شكّ النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما أُنْزِل عليه، فإن ما صُدِّرَت به الآية {فَإِنْ} شَرْطِيّة، ولا يَلْزَم منها ثًبوت الشك، ويدلّ عليه ما خُتِمَت به الآية {لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ}، ففيه إثبات أن ما أُنْزِل إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- هو الحقّ.
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- على يَقِين مما أُوحِي إليه، ولذلك لم يَسأل.
قال سَعِيد بن جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} قَالَ: مَا شَكَّ، وَمَا سَأَلَ (17).
وفي الآية قَول: أن الْمُخاطَب بها غير رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
قال القرطبي: قَوْلُهُ -تَعَالَى-: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ، أَيْ لَسْتَ فِي شَكٍّ وَلَكِنْ غَيْرُكَ شَكَّ.
قَالَ أَبُو عُمَرَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ الزَّاهِدُ:
سَمِعْتُ الإِمَامَيْنِ ثَعْلَبًا وَالْمُبَرِّدَ يَقُولانِ: مَعْنَى {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ} أَيْ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلْكَافِرِ: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ: {فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} أَيْ: يَا عَابِدَ الْوَثَنِ إِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِنَ الْقُرْآنِ فَاسْأَلْ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْيَهُودِ، يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلامٍ وَأَمْثَالَهُ؛ لأَنَّ عَبَدَةَ الأَوْثَانِ كَانُوا يُقِرُّونَ لِلْيَهُودِ أَنَّهُمْ أَعْلَمُ مِنْهُمْ مِنْ أَجْل أَنَّهُمْ أَصْحَابُ كِتَابٍ، فَدَعَاهُمُ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى أَنْ يَسْأَلُوا مَنْ يُقِرُّونَ بِأَنَّهُمْ أَعْلَمُ مِنْهُمْ، هَلْ يَبْعَثُ اللَّهُ بِرَسُولٍ مِنْ بَعْدِ مُوسَى. وَقَالَ الْقُتَبِيُّ: هَذَا خِطَابٌ لِمَنْ كَانَ لا يَقْطَعُ بِتَكْذِيبِ مُحَمَّدٍ وَلا بِتَصْدِيقِهِ -صلى الله عليه وسلم-، بَلْ كَانَ فِي شَكٍّ (18).
وهذه الآية مثل قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} [(11) هود: 17] قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ، وَالْقُرْآنُ يَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ أَيْضًا مِنَ اللَّهِ بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- (19).

متى بدأ نُزول القرآن على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟
قال إبراهيم بن المنذر الْحِزَامِي: لا يَشك أحدٌ مِن عُلمائنا أنه -عليه الصلاة والسلام- وُلِد عام الفِيل، وبُعِث على رأس أربعين سَنَة مِن الفَيل (20).
فإذا كان عام الفيل هو عام 570م (21)، فيكون ابتداء نُزُول الوَحْي في عام 610م.
تَنَزّلات القرآن:
قال د. فضل عباس: هل للقُرآن الكريم أكثر مِن تَنَزُّل؟
لكي يَتَبَيّن لنا هذا الأمر تبيّنًا تامًّا ينبغي أن نَقِف أمام هذه الآيات الكريمة:
1-    قال تعالى {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ} [(2) البقرة: 185].
2-    قال سبحانه {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} [(44) الدخان: 1 -3].
3-    قال سبحانه: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [(97) القَدْر: 1].
هذه الآيات الكريمة تبيِّن أنَّ القرآن الكريم أُنْزِل في رمضان، وأنَه أُنزِل في ليلةٍ مباركَة، وأنَّ هذه الليلة المُباركَة هي ليلة القَدر.
ولكن ما معنى نزول القرآن في ليلة القَدر؟ اختلف العلماءُ في ذلك على أقوال:
القول الأول: ذَهَب بعض العلماء إلى أنَّ القرآن الكريم نزل كُلُّه دفعةً واحدة في ليلةِ القَدر مِن اللوحِ المحفوظ إلى بيتِ العِزَّةِ مِن السماءِ الدُّنيا.
ثُمَّ نزلَ مِن سماءِ الدُّنيا على قلبِ النبي -صلى الله عليه وسلم- مُنجَّمًا في بِضعٍ وعشرين سَنة. وقد استَدَلُّوا على ما ذهبوا إليه بآثار موقوفة عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما وبعض الأحاديثِ المرفوعةِ التي لم تَصِح.
القول الثاني:  إنَّ هناك تَنَزُّلاً واحِدًا للقرآنِ الكريم، وهو نُزوله على النبي -صلى الله عليه وسلم- في ليةِ القَدر، في شهرِ رمضان، ولكن الذي نَزَل على النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما هي الآياتُ الأولى مِن سُورة اقرأ، فكيف تُفسِّر قوله؟  قالوا: إن الأمور العظيمة والشؤون الخطيرة يؤرَّخ دائمًا بِبدْئها فمعنى قوله سبحانه: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} أي: الذي اُبتُدِئ فيه نزول القرآن عليك أيها النَّبيُ.
وكذلِك يُقال في قوله سبحانه: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} و{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} أي: ابْتَدَأنا إنْزَالَه.
القول الثالِث: يُجمِعُ العلماء على أنَّ القرآن الكريم كما يُطلَق على القرآنِ كُلّه فإنَّهُ يُطلَـق على الآية والآيتين؛ وعلى هذا فمَعنى قَوله سبحانه: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} أي: أنزلنا الآيات الأولى، وهي الآيات الْخَمس مِن سُورةِ العَلَق (96) (22).
ومثله: قَولك: قَرأتُ القرآن، وأنت تريد قرأت شيئا من القرآن.
ومِنه: قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لابنِ مَسعود رضي الله عنه: اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ. قُلْتُ: أقْرَأُ عَلَيْكَ، وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟  قَالَ: فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي، فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى بَلَغْتُ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} قَالَ: أَمْسِكْ، فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ (23).
فَابْنُ مَسعود لَم يَقرأ على النبي -صلى الله عليه وسلم- كُلّ القرآن، وإنما قرأ عليه نحو (40) آية مِن سُورة النساء.
قال ابن حجر في شرح حديث ابن عباس: "وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ" (24): وفي الحديث إطلاق القُرآن على بَعضه وعلى مُعْظَمِه؛ لأن أوّل رَمضان مِن بَعد البِعثة لم يَكن نَزَل مِن القرآن إلاّ بَعضه، ثم كذلك كُلّ رمضان بَعده إلى رمضان الأخير فكان قد نَزَل كُلّه... ومِن ثَم لا يَحنث مَن حَلف لَيَقْرَأن القُرآن، فَقَرأ بَعضه إلاّ إن قَصَد الجميع (25).
الموازنة بين هذه الأقوال:
يَبْدُو لنا - والله أعلم بالصّواب - أن الراجح هو القَولان الأخِيران، فهُما مُتَقَارِبان بل يَكادان يَكونان قولاً واحِدًا؛ فإنَّ ابتداءَ الإنزالِ في الشَّهرِ الكريمِ والليلةِ الْمُبارَكةِ معناه أنْزَل بعض الآيات، وإنما اخترت هذا القول لِما يلي:
أولاً: لأنَّ القولَ بأنَّ القرآنَ الكريم أُنزِل مِن اللوحِ المحفوظ إلى سماءِ الدُّنيا في ليلةِ القَدرِ في رمضان، لم يَصِل إلينا مِن كتابٍ أو سُنَّةٍ صحيحة، وإنما وَردتْ آثار مَوقوفة عن ابن عباس رضي الله عنهما وهي تحتاج إلى تمحيصٍ مِن حيث أسانيدها. والقول بأنَّ مِثل هذا لا يمكِن أن يكونَ رأيًا لابن عباس غير مُسلَّم، فقد يكون ابن عباس فَهِم الآية هذا الفَهم إنْ صحَّت هذه الأقوال عنه.
ثانيًا: يَلزم على القولِ الأوَّل، وهو أنَّ القرآن الكريم أُنزِل في شهرِ رمضان دُفعة واحدة إلى السماءِ الدُّنيا، عدم نُزولِه على سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- في رمضان؛ لأنهم يَرَون أنَّ الذي ذَكَرتْه الآيات في حديثها عن نزولِ القرآن في رمضان هو نزوله دفعة واحِدة إلى السماء الدُّنيا.
وهذا غير مُسلَّم به؛ فإنَّ الذي أجمعتْ عليه الأُمَّة إجماعًا مُستنِدًا إلى السُّنَّةِ الصحيحة وإلى الكتابِ الكريم هو أنَّ القرآن نَزَل على سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- في رمضان.
ثالثًا: إنَّ الْمُتَدَبِرَ للآيةِ الكريمةِ يَجزِم - بما لا َيَحتمِل شَكًّا - بأنها تَتحدّث عن نُزول القرآن على النبي -عليه الصلاة والسلام-، فَلْنَتَدَبّر هذه الآية الكريمة {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ}، فلو كان المقصود نُزُوله إلى سماء الدنيا لم يكُنْ هناك كبير فائدة في قوله تعالى: {هُدًى لِّلنَّاسِ}، إنما الأمر الذي يطمئن إليه القلبُ، وتستريح إليه النَّفسُ، هو أنَّ القرآن نَزَل على سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- هُدى للناس (26).
ويَبْدُو لي أنه لا تَعارض بين الأقوال الثلاثة، ويُمكن الْجَمْع بين الأقوال: بأن القَول الأول لا يَعني نَفْي القولين الأخيرين، وذلك بأن نُزول القرآن للسماء الدُّنيا إنما هو إعلام بِنُزول القرآن.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: أُنْزِل القرآن جملة واحدة على جبريل في ليلة القَدْر، فكان لا يَنْزِل منه إلاّ بأمْرٍ (27).
وقال ابن جريج: كان يَنْزل مِن القرآن في ليلة القدر كل شيء يَنْزل مِن القرآن في تلك السَّنَة، فَنَزَل ذلك مِن السّماء السابِعة على جبريل في السماء الدّنيا، فلا يَنْزل جبريل مِن ذلك على محمد إلاّ ما أمَره به.
وهو مُتوافِق مع ما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- مِن نُزول الأمر، وهو الوَحي وغيره.
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إِذَا قَضَى اللَّهُ الأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الْمَلاَئِكَةُ بِأَجْنِحَتِهِا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ، كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ، فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟  قَالُوا لِلَّذِي قَالَ: الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (28).
وقال ابنُ مسعود رضي الله عنه: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: إذا تَكَلَّم الله بالوَحي سَمِع أهل السماء للسماء صَلْصَلة كَجَرّ السلسلة على الصَّفَا، فيُصعَقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل عليه السلام، حتى إذا جاءهم جبريل فُزِّع عن قلوبهم، قال: فيقولون: يا جبريل، ماذا قال ربك؟ فيقول: الحق، فيقولون: الحقّ، الحقّ (29).
وهو مُتوافِق مع قوله تبارك وتعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [(34) سبأ: 23].
وأسانيد رِوايات القرآن الكريم مِن القارئ الذي يَقرأ القرآن اليوم بالإسناد إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى جبريل عن ربّ العالمين.
وسَواء تَلقّاه جِبريل مِن ربّ العالمين مُبَاشَرَة، أو أمَرَه الله تعالى أن يأخُذه مِن الكتاب الذي في السماء الدنيا؛ لا يَخرُج عن كونه كلام الله -عزّ وَجَلّ- وَوَحْيه (30).
والقرآن مَحفوظ في اللوح المحفوظ، كما قال ربّ العِزّة سبحانه وتعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [(85) البروج: 21، 22].
وهو الكتاب الْمَكْنون: {إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [(56) الواقعة: 77-80].
قال الإمام السَّمْعَاني: قوله: {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} أي: مَصُون، وقد فُسِّر باللّوح المحفوظ، وفُسِّر أيضا بِكِتاب في السماء عند الملائكة فيه القرآن (31).
وما كان جبريل يَنْزِل بالوَحي إلاّ بأمْر ربّه تبارك وتعالى.
قال الله -عزّ وَجَلّ-: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [(19) مريم: 64].
قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لِجِبْرِيلَ: مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَزُورَنَا أَكْثَرَ مِمَّا تَزُورُنَا؟ فَنَزَلَتْ: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا} (32).