مارية القبطية جارية رسول الله -صلّى اللهُ عليه وسلّم- Ocia_994
مارية القبطية جارية رسول الله -صلّى اللهُ عليه وسلّم-
أمُّ ولده إبراهيم
مارية القبطية -رضي الله عنها-، أم إبراهيم -عليه السلام- ولد رسول الله -صلّى اللهُ عليه وسلّم-.

هي: مارية بنت شمعون القبطية، وهي مصرية الأصل، كان أبوها قبطياً مصرياً، وأمُّهَا نصرانية رومية، كانت من جواري المقوقس عظيم القبط ملك مصر والإسكندرية.

هذا وإنَّ مِمَّا اشْتُهِرَ بين الناس أن مارية القبطية أماً للمؤمنين، وأن رسول الله -صلّى اللهُ عليه وسلّم- قد تزوَّجها.

وهذا لا نعلم فيه دليلاً صحيحاً ثبت عن رسول الله -صلّى اللهُ عليه وسلّم-، ولا عن الصحابة الكرام.

وإنما هي جارية بعثها مقوقس مصر هديةً إلى رسول الله -صلّى اللهُ عليه وسلّم-.

بعث رسول الله -صلّى اللهُ عليه وسلّم-حاطب بن أبي بلتعة اللخمي، وهو أحَدُ الستة إلى المقوقس صاحب الإسكندرية عظيم القبط -جريج بن مينا- يدعوه إلى الإسلام، وكتب معه كتاباً فأوصل إليه كتاب رسول الله -صلّى اللهُ عليه وسلّم- فقرأه..

بسم الله الرحمن الرحيم
من مُحَمَّدٍ بن عَبْدِ اللهِ إلى المُقوقس، عظيم القبط، سَلَامٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الهُدَى، أمَّا بَعْدُ فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك اللهُ أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم القبط.

وقرأ المقوقس الكتاب ثم طواه في عناية وتوقير، وأخذ الكتاب فجعله في حُقٍ من عاج وختم عليه ودفعه إلى جاريته وكتب إلى النبي -صلّى اللهُ عليه وسلّم-:
قد علمتُ أن نبياً قد بقي وكنت أظن أنه يخرج بالشام وقد أكرمتُ رسولك وبعثتُ إليك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم وقد أهديتُ لك كسوة وبغلة تركبها ولم يزد على هذا ولم يُسْلِمْ.

فَقَبِلَ رسولُ الله -صلّى اللهُ عليه وسلّم- هديته وأخذ الجاريتين مارية أم إبراهيم بن رسول الله -صلّى اللهُ عليه وسلّم-، وأختها سيرين، وبغلةً بيضاء لم يكن في العرب يومئذ غيرها، وهي دلدل.

وأخذ رسولُ الله -صلّى اللهُ عليه وسلّم- مارية وأنزلها في العالية في المال الذي صار يُقَالُ له: سرية أم إبراهيم، وكان يختلف إليها هناك، وكان يطؤها بملك اليمين  وضرب عليها مع ذلك الحجاب فحملت منه ووضعت هناك في ذي الحجة سنة ثمان.

ووهب رسول الله -صلّى اللهُ عليه وسلّم- سيرين -أخت مارية- لِحَسَّانِ بن ثابت، فهي أم ولده عبد الرحمن.

كان أبوها قبطيَّاً وأمُّهَا مسيحية رومية، أمضت حياتها الأولى في قريتها، ثم انتقلت مع أختها سيرين إلى قصر المقوقس عظيم القبط ملك الإسكندرية.

فلَمَّا أرسل النَّبِيُّ -صلّى اللهُ عليه وسلّم- رسالته إلى المقوقس يدعوه إلى الإسلام لم يبعد المقوقس ولم يقرب ولكنه أرسل إلى النبي -صلّى اللهُ عليه وسلّم- سنة سبع من الهجرة بمارية وأختها سيرين وألف مثقال ذهباً وعشرين ثوباً.

فعرض النبي -صلّى اللهُ عليه وسلّم- الإسلام على مارية ورَغَّبَهَا فيه فأسلمت هي وأختها وكان رسول الله -صلّى اللهُ عليه وسلّم- مُعجباً بأم إبراهيم (مارية) وكانت بيضاء جميلة.

وكانت ولادة مارية لإبراهيم -عليه السلام- سبباً في عِتْقِهَا.

ومن طريق عمرة عن عائشة، قالت: ما عزت علي امرأة إلا دون ما عزت علي مارية، وذلك أنها كانت جميلة جعدة، فأعْجِبَ بها رسولُ الله -صلّى اللهُ عليه وسلّم- وكان أنزلها أول ما قدم بها في بيت لحارثة بن النعمان فكانت جارتنا فكان عامة الليل والنهار عندها حتى فزعنا لها فجزعت فحوَّلها إلى العالية وكان يختلف إليها هناك فكان ذلك أشد علينا.

وقال البلاذري كانت أم مارية رومية، وكانت مارية بيضاء جعدة جميلة.

وكان رسولُ الله -صلّى اللهُ عليه وسلّم- يُحِبُّ مارية ويُحافظ عليها.

عن عبد الله بن عمرو، قال: دخل رسولُ الله -صلّى اللهُ عليه وسلّم- على القبطية  أم ولده إبراهيم فوجد عندها نسيباً لها قَدِمَ معها من مصر، وكان كثيراً ما يدخل عليها فوقع في نفسه شيء فرجع فلقيه عمر فعرف ذلك في وجهه فسأله فأخبره فأخذ عمر السيف ثم دخل على مارية وقريبها عندها فأهوى إليه بالسيف فلَمَّا رأى ذلك كشف عن نفسه، وكان مجبوباً ليس بين رجليه شيء، فلَمَّا رآه عمر رجع إلى رسول الله -صلّى اللهُ عليه وسلّم- فأخبره، فقال رسول الله -صلّى اللهُ عليه وسلّم-: "إن جبرائيل أتاني فأخبرني إن الله تعالى قد بَرَّأهَا وقريبها وان غلاماً منى وأنه أشبه الناس بي وأنه أمرني أن أسميه إبراهيم وكَنَّانِي أبَا إبراهيم".

قال ابن عباس: لَمَّا ولدت أم إبراهيم قال رسول الله -صلّى اللهُ عليه وسلّم-: "أعْتَقَهَا وَلَدُهَا"، وعنه قال: "أيُّمَا أمَةٍ وَلَدَتْ من سيدها، فإنها حُرَّةٌ إذا مات إلا أن يعتقها قبل موته".

عن أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلّى اللهُ عليه وسلّم- كانت له أمَةٌ يَطؤها فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حَرَّمَهَا، فأنزل اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَك).

وبولادة مارية لإبراهيم، ارتفع قدرها على غيرها من نساء النبي -صلّى اللهُ عليه وسلّم- فإنهن حُرِمْنَ الولد وَرُزِقَتْهُ مارية.

رسول الله -صلّى اللهُ عليه وسلّم- يوصي بأهل مصر خيراً:
وهكذا كانت مارية -رضي الله عنها- كرامةً للمصريين ورفعة نَسَبٍ لأهل مِصْرَ، فقد صاروا أبناء رسول الله -صلّى اللهُ عليه وسلّم- وأصهاره، وأوصى بهم رسولُ الله -صلّى اللهُ عليه وسلّم- فقال: "إنكم ستفتحون مصر وهي أرض يُسَمَّى فيها القيراط فإذا فتحتموها فأحْسِنُوا إلى أهلها، فإن لهم ذِمَّةً ورَحِمَاً، أو قال: ذِمَّةً وَصِهْرَاً".

وفي رواية:
"إنكم ستفتحون أرضاً يُذْكَرُ فيها القيراط، فاستوصُوا بأهلها خيراً، فإن لهم ذِمَّةً ورَحِمَاً".

النَّسَبُ من جهة هاجر أم إسماعيل عليه السلام، جد العرب العدنانية، والصهر من جهة مارية القبطية أم إبراهيم ابن رسول الله -صلّى اللهُ عليه وسلّم-.

وعن كعب بن مالك، أن رسول الله -صلّى اللهُ عليه وسلّم- قال: "إذا فُتِحَتْ مصر فاستوصوا بالقبط خيراً فإن لهم ذِمَّةً ورَحِمَاً".

"إذا فُتِحَتْ مصر":
أرض جامعة كليتها وجملة أقليمها نازلة منزلة الأرض كلها، فلها إحاطة بوجه ما فلذلك أعظم شأنها في القرآن: أي والسنة.

وأن العالي منها من الفراعنة. ذكره الحراني.

قال ابن زولاق:
ذُكِرَتْ مِصْرُ في القرآن في ثمانية وعشرين موضعاً.

قال المصنف بل أكثر من ثلاثين وسَرَدَهَا.

"فاستوصوا بالقبط":
كسبط أهل مصر وقد تضم القاف في النسبة.

"خيراً":
أي اطلبوا الوصية من أنفسكم بإتيان أهلها خيراً.

أو معناه:
اقبلوا وصيتي فيهم، يُقَالُ أوصيته فاستوصى أي قَبِلَ الوصية يعني إذا استوليتم عليهم وتمكنتم منهم فأحسنوا إليهم وقابلوهم بالعفو عما تنكرون، ولا يحملنكم سوء أفعالهم وقبح أقوالهم على الإساءة إليهم.

فالخطاب للولاة من الأمراء والقضاة.

ثم علله بقوله "فإن لهم ذمة":
ذماماً وحُرْمَةً وأمَانَاً من جهة إبراهيم بن المصطفى -صلّى اللهُ عليه وسلّم-، فإن أمه مارية منهم.

"وَرَحِمَاً" بفتح فكسر:
قرابة، لأن هاجر أم إسماعيل منهم، وفي رواية قرابة وصهراً، فالذّمَّةُ باعتبار إبراهيم، والرَّحِمْ باعتبار هاجر.

وأصله في مسلم: أي ولفظه:
"إنكم ستفتحون أرضاً يذكر فيها القبط  فاستوصوا بأهلها خيراً فإن لهم ذِمَّةً وَرَحِمَاً".

وعن أبي ذر -رضي الله عنه-، أن رسول الله -صلّى اللهُ عليه وسلّم- قال: "إنكم ستفتحون مصر، وهي أرض يُسَمَّى فيها القيراط، فإذا فتحتموها فاستوصوا بأهلها خيرا، فإن لهم ذِمَّةً وَرَحِمَاً، فإذا رأيت رجلين يختصمان في موضع لبنة فاخرج منها". ‌

وكان أبو بكر -رضي الله عنه- ينفق على مارية -رضي الله عنها- حتى مات، ثم عمر -رضي الله عنه- حتى توفيت في خلافته.

وفاتها -رضي الله عنها-:

قال الواقدي: ماتت في المُحَرَّم سنة ست عشرة، فكان عمر -رضي الله عنه- يحشد الناس لشهود جنازتها، وصلّى عليها ودفنها بالبقيع.

وقال بن منده ماتت مارية بعد النبي -صلّى اللهُ عليه وسلّم- بخمس سنين.

فوائد من قصة مارية -رضي الله عنها-:
ذكر ابن قيم الجوزية -رحمه الله تعالى- بعض الفوائد من قصة مارية -رضي الله عنها-.

في قصة مارية وإبراهيم أنواع من السُّنَنْ:
أحدها: استحباب قبول الهدية.

الثاني: قبول هدية أهل الكتاب.

الثالث: قبول هدية الرقيق.

الرابع: جواز التسري:

الخامس: البشارة لِمَنْ وُلِدَ له مولود بولده.

السادس: استحباب إعطاء البشير بُشْرَاه.

السابع: العقيقة عن المولود.

الثامن: كونها يوم سابعه.

التاسع: حلق رأسه.

العاشر: التصدق  بزنة شعره ورقاً.

الحادي عشر: دفن الشعر في الأرض ولا يُلقى تحت الأرجل.

الثاني عشر: تسمية المولود يوم ولادته.

الثالث عشر: جواز دفع الطفل إلى غير أمِّهِ تُرضعه وتحضنه.

الرابع عشر: عيادة الوالد ولده الطفل فإن النبي لَمَّا سمع بوجعه انطلق إليه يعوده في بيت أبي سيف القين فدعا به وَضَمَّهُ إليه وهو يكبد بنفسه فدمعت عيناه، وقال: تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يُرضى الرَّبُّ وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون.

الخامس عشر: جواز البكاء على الميت بالعين، وقد ذُكِرَ في مناقب الفضيل ابن عياض أنه ضحك يوم مات ابنه علي، فَسُئِلَ عن ذلك، فقال: إن الله تعالى قضى بقضاءٍ فأحببتُ أن أرضى بقضائه.

ولكن هدي رسول الله -صلّى اللهُ عليه وسلّم- أكمل وأفضل فإنه جمع بين الرضا  بقضاء ربه تعالى وبين رحمة الطفل، فإنه لَمَّا قال له سعد بن عبادة ما هذا يا رسول الله، قال: هذه رحمة وإنما يرحمُ اللهُ من عباده الرُّحَمَاءُ، والفضيل ضاق عن الجمع بين الأمرين فلم يتسع للرضا بقضاء الرَّبِّ وبُكَاءِ الرَّحمة للولد، هذا جواب شيخنا سمعته منه.

السادس عشر: جواز الحزن على الميت وأنه لا ينقص الأجر ما لم يخرج إلى قول أو عمل لا يُرْضِي الرَّبَّ أو ترك قول أو عمل يرضيه.

السابع عشر: تغسيل الطفل فإن أبا عمر وغيره ذكروا أن مرضعته أم بردة امرأة أبي سيف غسلته وحملته من بيتها على سرير صغير إلى لحده.

الثامن عشر: الصلاة على الطفل قال أبو عمر وصلّى عليه رسولُ الله وكَبَّرَ عليه أربعاً، وهذا قول جمهور أهل العلم وهو الصحيح وكذلك قال الشعبي: مات إبراهيم ابن النبي وهو ابن ستة عشر شهراً فصلّى عليه النَّبِيُّ -صلّى اللهُ عليه وسلّم-.

التاسع عشر: إن الشمس كسفت يوم موته فقال الناس: كسفت لموت إبراهيم فخطب النبي -صلّى اللهُ عليه وسلّم- خطبة الكسوف وقال: إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحَدٍ ولا لحياته.

وفيه رَدٌ على مَنْ قال إنه مات يوم عاشر المُحَرَّمِ فإن الله سبحانه وتعالى أجرى العادة التي أوجبتها حكمته بأن الشمس إنما تكسف ليالي السرار كما أن القمر إنما يكسف في الأبدار كما أجرى العادة بطلوع الهلال أول الشهر وإبداره في وسطه وامحاقه في آخره.

العشرون: أن النبي أخبر أن له مرضعاً تتم رضاعته في الجنة وهذا يدل على أن الله تعالى يُكْمِلُ لأهل السعادة من عباده بعد موتهم النقص الذي كان في الدنيا وفي ذلك آثار ليس هذا موضعها حتى قيل إن مَنْ مات وهو طالب للعلم -تم- له حصوله بعد موته وكذلك مَنْ مات وهو يتعلّم القرآن والله أعلم.

الحادي والعشرون: أن النبي أوصى بالقبط خيراً وقال:
إن لهم ذِمَّةً ورَحِمَاً، فإن سريتي الخليلين الكريمين إبراهيم ومحمد -صلوات الله عليهما وسلامه- كانتا منهم وهما هاجر، ومارية، فأمَّا هاجر فهي أم إسماعيل أبي العرب فهذا الرَّحِمْ، وأمَّا الذِّمَّةُ فما حصل من تسري النبي بمارية وإيلادها إبراهيم، وذلك ذِمَامٌ يجب على المسلمين رعايته ما لم تضيعه القبط والله اعلم.اهـ.

وفيها كذلك من الفوائد:
1- قبول هدية أهل الكتاب، كما قبل رسول الله -صلّى اللهُ عليه وسلّم- هدية المقوقس.

2- الولد يكون سبباً في عِتْقِ أمِّهِ من الرَّقِّ، كما كان إبراهيم -عليه السلام- سبباً في عتق أمِّهِ مارية.

3- وصية رسول الله -صلّى اللهُ عليه وسلّم- بأهل مصر خيراً لأن لهم نسباً وصِهْرَاً، النَّسَبُ من جهة هاجر أم إسماعيل -عليه السلام-، والصِّهْرُ من جهة مارية أمِّ إبراهيمَ ولد رسول الله -صلّى اللهُ عليه وسلّم-.