منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers

(إسلامي.. ثقافي.. اجتماعي.. إعلامي.. علمي.. تاريخي.. دعوي.. تربوي.. طبي.. رياضي.. أدبي..)
 
الرئيسيةالأحداثأحدث الصورالتسجيل
(وما من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه) (فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه)

soon after IZHAR UL-HAQ (Truth Revealed) By: Rahmatullah Kairanvi
قال الفيلسوف توماس كارليل في كتابه الأبطال عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد مُتمدين من أبناء هذا العصر؛ أن يُصْغِي إلى ما يظن من أنَّ دِينَ الإسلام كَذِبٌ، وأنَّ مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- خَدَّاعٌ مُزُوِّرٌ، وآنَ لنا أنْ نُحارب ما يُشَاعُ من مثل هذه الأقوال السَّخيفة المُخْجِلَةِ؛ فإنَّ الرِّسَالة التي أدَّاهَا ذلك الرَّسُولُ ما زالت السِّراج المُنير مُدَّةَ اثني عشر قرناً، لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا، خلقهم اللهُ الذي خلقنا، (وقت كتابة الفيلسوف توماس كارليل لهذا الكتاب)، إقرأ بقية كتاب الفيلسوف توماس كارليل عن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، على هذا الرابط: محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-.

يقول المستشرق الإسباني جان ليك في كتاب (العرب): "لا يمكن أن توصف حياة محمد بأحسن مما وصفها الله بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين) فكان محمدٌ رحمة حقيقية، وإني أصلي عليه بلهفة وشوق".
فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ على سائر البُلدان، كما فَضَّلَ بعض الناس على بعض والأيام والليالي بعضها على بعض، والفضلُ على ضربين: في دِينٍ أو دُنْيَا، أو فيهما جميعاً، وقد فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ وشَهِدَ لها في كتابهِ بالكَرَمِ وعِظَم المَنزلة وذَكَرَهَا باسمها وخَصَّهَا دُونَ غيرها، وكَرَّرَ ذِكْرَهَا، وأبَانَ فضلها في آياتٍ تُتْلَى من القرآن العظيم.
(وما من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه) (فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه)

المهندس حسن فتحي فيلسوف العمارة ومهندس الفقراء: هو معماري مصري بارز، من مواليد مدينة الأسكندرية، وتخرَّجَ من المُهندس خانة بجامعة فؤاد الأول، اشْتُهِرَ بطرازهِ المعماري الفريد الذي استمَدَّ مَصَادِرَهُ مِنَ العِمَارَةِ الريفية النوبية المَبنية بالطوب اللبن، ومن البيوت والقصور بالقاهرة القديمة في العصرين المملوكي والعُثماني.
رُبَّ ضَارَّةٍ نَافِعَةٍ.. فوائدُ فيروس كورونا غير المتوقعة للبشرية أنَّه لم يكن يَخطرُ على بال أحَدِنَا منذ أن ظهر وباء فيروس كورونا المُستجد، أنْ يكونَ لهذه الجائحة فوائدُ وإيجابيات ملموسة أفادَت كوكب الأرض.. فكيف حدث ذلك؟!...
تخليص الإبريز في تلخيص باريز: هو الكتاب الذي ألّفَهُ الشيخ "رفاعة رافع الطهطاوي" رائد التنوير في العصر الحديث كما يُلَقَّب، ويُمَثِّلُ هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث.
الشيخ علي الجرجاوي (رحمه الله) قَامَ برحلةٍ إلى اليابان العام 1906م لحُضُورِ مؤتمر الأديان بطوكيو، الذي دعا إليه الإمبراطور الياباني عُلَمَاءَ الأديان لعرض عقائد دينهم على الشعب الياباني، وقد أنفق على رحلته الشَّاقَّةِ من مَالِهِ الخاص، وكان رُكُوبُ البحر وسيلته؛ مِمَّا أتَاحَ لَهُ مُشَاهَدَةَ العَدِيدِ مِنَ المُدُنِ السَّاحِلِيَّةِ في أنحاء العالم، ويُعَدُّ أوَّلَ دَاعِيَةٍ للإسلام في بلاد اليابان في العصر الحديث.


 

 الباب الثاني أنواع الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 49101
العمر : 72

الباب الثاني أنواع الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم Empty
مُساهمةموضوع: الباب الثاني أنواع الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم   الباب الثاني أنواع الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم Emptyالثلاثاء 19 سبتمبر 2023, 9:49 pm

الباب الثاني أنواع الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم Ocia_921
الباب الثاني
أنواع الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم
الأدب مفهوم يتعلق بأعمال الإنسان بصورة عامة، وأنواع الأعمال تبعاً للتقسيم الواقعي لا تتعدى ثلاثة أنواع لأنها إمّا أن يكون مصدرها القلب وهي الأعمال القلبية كالحب والألفة والسرور، وإمّا أن يكون مصدرها اللسان وهي الأقوال والألفاظ، وإمّا أن يكون مصدرها الجوارح وهي الحركة والمشي وهكذا.

والأدب متصل بهذه الأنواع الثلاثة، ولذلك كان على المسلم أن يلتزم بكل منها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا بد من حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمه وتوقيره ولا بد من الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم، ولا بد من اتباعه وطاعته واتخاذه أسوة وقدوة.

وقد عقدت هذا الباب للحديث عن أنواع الأدب مع الرسول -صلى الله عليه وسلم -، ولذلك جاء في ثلاثة فصول:
الفصل الأول: الأدب القلبي.
الفصل الثاني: الأدب القولي.
الفصل الثالث: الأدب العملي.

وسوف أبحثها بعون الله بنفس الترتيب فيما يلي:
الفصل الأول
الأدب القلبي
الأدب القلبي هو ما كان مصدره القلب مثل التصديق، والحب، والإخلاص وهكذا..

والآداب القلبية لها شأن عظيم تبعاً لأهمية مصدرها، لأنّ القلب سيد أعضاء الجسد يقودها ويوجهها، ويصبغها بصبغته ومحتواه.

لقوله صلى الله عليه وسلم: "...ألا إن في الجسد مضغة (1) فإذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" (2).

ولهذا يعتبر القلب طاقة ذات أهمية كبيرة بالنسبة لحياة الإنسان في الدنيا والآخرة.

فهو أساس الأعمال الظاهرة لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنّما الأعمال بالنيات وإنّما لكل امرىء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى امرأة ينكحها أو لدنيا يصيبها فهجرته إلى ما هاجر إليه" (3).

وبه يكون قبول الأعمال عند الله تعالى لقوله سبحانه: ((لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ)) [البقرة:225].

وهو محل الإيمان لقوله تعالى: ((وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ)) [الحجرات:7].

ولقوله تعالى: ((كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ)) [المجادلة:22].

وهو أيضاً محل الهداية لقوله تعالى: ((وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ)) [التغابن:11].

كما أنّه محل للتقوى. لقوله تعالى: ((ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)) [الحج:32].

والقلب كما يوجه صاحبه للإيمان والهداية إذا استقام على الفطرة، وتدبر آيات الله واستفاد منها، يوجه صاحبه كذلك إلى المعصية والضلال إن بعد عن فطرته.

وانشغل بالهوى والشهوات وحينئذ يكون مصدر الكفر لقوله تعالى: ((وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ)) [البقرة:93].

ومحل الشك والريب لقوله تعالى: ((إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ)) [التوبة:45].

ومحل التعصب وحمية الجاهلية لقوله تعالى: ((إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ)) [الفتح:26].

يقول النيسابوري: "القلب صالح لأن يميل إلى الإيمان وصالح لأن يميل إلى الكفر وكل منهما يتوقف على داعية ينشئها الله تعالى فيه، إذ لو حدثت بنفسها لزم سد باب إثبات الصانع فإن كانت داعية الكفر فهو الخذلان والإزاغة والصد والختم والطبع والريبة وغيرها مما ورد في القرآن، وإن كانت داعية الإيمان فهو التوفيق والرشاد والهداية والتثبيت والعصمة ونحوها" (4).

 ثم استشهد بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء " (5).

ومن هنا قيل سمي القلب قلباً لتقلبه وتغايره.

وعلى هذا سأل الرسول صلى الله عليه وسلم ربّه -عز وجل- أن يثبت قلبه على طاعته قائلاً: " اللهم مصرف القلوب صرّف قلوبنا على طاعتك " (6).

وفي هذا الفصل سوف نتحدث عن الآداب التي محلها القلب وسيأتي مكوناً من مبحثين هما:
المبحث الأول: الإيمان بنبوته صلى الله عليه وسلم.
المبحث الثاني: محبته صلى الله عليه وسلم.

وذلك فيما يلي:
المبحث الأول: الإيمان بنبوته صلى الله عليه وسلم:
من الآداب القلبية المتصلة برسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان بنبوته صلى الله عليه وسلم بل هو رأس الآداب كلها لأن الإيمان به صلى الله عليه وسلم ركن من أركان العقيدة وأساس من أسس الدين وأما غيره من الآداب فتابعة له بحيث إذا اختل هذا الركن يختل معه الآداب الأخرى.

وعلى هذا، فأول ما يطلب من الأنام تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان به صلى الله عليه وسلم بعد الإيمان بالله عز وجل بل إنهما متلازمان لقوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً *أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً *وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً)) [النساء:150-152].

ولأهمية الإيمان به صلى الله عليه وسلم جعلت الكلام عنه في صدارة الباب المتعلق بالآداب مع رسول صلى الله عليه وسلم.

وسوف نتطرق في هذا المبحث إلى المسائل المتعلقة بهذا الموضوع وهي على النحو التالي:
1- تعريف الإيمان لغة واصطلاحاً.
2- حكم الإيمان به صلى الله عليه وسلم.
3- أصناف الناس في الإيمان به صلى الله عليه وسلم.
4- ثمرة الإيمان به صلى الله عليه وسلم.

وسوف أبحثها بمشيئة الله وفق هذا الترتيب.
1- تعريف الإيمان: يعد التعريف اللغوي مدخلاً للتعريف الاصطلاحي ولذلك سأبدأ بتعريف الإيمان لغة وبعده أعرّفه بما قال علماء الاصطلاح.

 وذلك فيما يلي:
 (أ) تعريف الإيمان في اللغة: يقول الأزهري (7): " الإيمان: مصدر آمن يؤمن إيماناً، واتفق أهل العلم من اللغويين وغيرهم على أنّ الإيمان معناه التصديق " (8).

ويقول ابن فارس (9): " الهمزة والميم والنون أصلان متقاربان أحدهما الأمانة التي هي ضد الخيانة ومعناها سكون القلب، والآخر التصديق، والمعنيان كما قلنا متدانيان " (10).

ويقول الفيروزأبادي (11) في مادة (آمن): " آمن به إيماناً صدقه " (12).

ويقول ابن منظور (13) في مادة  (آمن): " والإيمان بمعنى التصديق، وضده التكذيب، ويقال آمن به قوم وكذبه قوم" (14).

 أي: صدقه بعضهم دون بعض.

وهذه التعاريف التي نقلتها عن أهل اللغة تدور حول معنى واحد وهو التصديق ومنه قوله تعالى حكاية عن قول إخوة يوسف عليه السلام لأبيهم يعقوب عليه السلام.

 ((وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ)) [يوسف:17] أي بمصدق لنا.

يقول الأزهري بعد ذكر الآية السابقة: " لم يختلف أهل التفسير أنّ معناه وما أنت بمصدق لنا " (15).

ولهذا نقول: اتفق أهل التفسير مع أهل اللغة على أنّ الإيمان في اللغة هو التصديق.

 (ب) الإيمان في الشرع: الإيمان عند جهور أهل السُّنَّة هو التصديق بالجنان والإقرار باللسان والعمل بالأركان، أي عقد وقول وعمل.

يقول ابن تيمية -رحمه الله تعالى- حكاية عن أقوال السلف في تفسير الإيمان: " فتارة يقولون: قول وعمل.

وتارة يقولون: قول وعمل ونية.

وتارة يقولون: قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، وكل هذا صحيح " (16).

وكل هذه الأقوال المنقولة عن السلف والمتعلقة في تفسير الإيمان تؤول إلى معنى واحد وإن اختلفت ألفاظها كمّاً وكيفاً كما وضح ذلك شيخ الإسلام حيث قال: "إن من قال من السلف: الإيمان قول وعمل أراد قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح، ومن أراد الاعتقاد رأى أنّ لفظ القول لا يفهم منه إلاّ القول الظاهر أو خاف ذلك فزاد الاعتقاد بالقلب، ومن قال: قول وعمل ونية، قال القول يتناول الاعتقاد وقول اللسان، وأمّا العمل فقد لا يفهم منه فزاد ذلك، ومن زاد اتباع السُّنَّة فلأن ذلك كله لا يكون محبوباً لله إلاّ باتباع السُّنَّة" (17).

وإذا نظرنا إلى التعاريف الاصطلاحية التي ذكرناها لتفسير الإيمان نجد أنه لا يوجد تعريف خال عن عمل القلب أو ما يفيد معناه.

ولهذا السبب تكلمت عن الإيمان بنبوة الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الفصل الذي عقدته للأدب القلبي وإن كان يشمل الأعمال الظاهرة على قول أهل السُّنَّة إلا أنّ النية عمود الأعمال الظاهرة وأساسها وبها الثواب والعقاب وإن لم يصاحبها عمل أحياناً، والنية محلها القلب كما هو معلوم.

يقول ابن القيم -رحمه الله-: "الإيمان له ظاهر وباطن، وظاهره قول اللسان وعمل الجوارح، وباطنه تصديق القلب وانقياده ومحبته، فلا ينفع ظاهر لا باطن له، وإن حقن الدماء وعصم به الأموال والذرية، ولا يجزئ باطن لا ظاهر له، إلاّ إذا تعذر بعجز وإكراه أو ضعف وإكراه" (18).

هذا هو تعريف الإيمان بصورة عامة، وأمّا تعريف الإيمان بنبوته -صلى الله عليه وسلم- فهو الإقرار بنبوته صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً والتسليم له بما جاء به صلى الله عليه وسلم جملة وتفصيلاً عند العلم به.

يقول القاضى عياض: " والإيمان به صلى الله عليه وسلم هو تصديق بنبوته ورسالة الله تعالى له وتصديقه في جميع ما جاء به وما قاله، ومطابقة تصديق القلب بذلك بشهادة اللسان بأنّه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا اجتمع التصديق به بالقلب والنطق بالشهادة بذلك باللسان، تم الإيمان به -عليه الصلاة والسلام- والتصديق له صلى الله عليه وسلم (19).

ومن هذا يتبيّن أنّ الإيمان به صلى الله عليه وسلم يستلزم ثلاثة أمور هي:
1- الإيمان به صلى الله عليه وسلم باطناً جازماً بذلك دون شك.
2- شهادة اللسان بذلك إظهاراً لما في قلبه ما لم يكن صاحبه عاجزاً عن ذلك.
3- العمل بمقتضى ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم دون اعتراض أو ترك.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " فلا يكون الرجل مؤمناً حتى يقر بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وهو تحقيق شهادة أنّ لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله، فمن شهد أنّه رسول الله شهد أنّه صادق فيما يخبر به عن الله -تعالى-، فإنّ هذا حقيقة الشهادة بالرسالة.. وبالجملة فهذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام لا يحتاج إلى دليل، وهو الإقرار بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وهو نفس ما جاء به القرآن وجاءت به السُّنَّة " (20).

ويقول ابن القيم -رحمه الله تعالى-: " والإيمان هو حقيقة مركبة من معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم علماً والتصديق به عقداً، والإقرار به نطقاً، والانقياد به محبة وْخضوعاً، والعمل به باطناً وظاهراً، وتنفيذه والدعوة إليه بحسب الإمكان " (21).

هذا هو الإيمان المعتد به عند الله -سبحانه وتعالى- في الدنيا والآخرة، وأمّا إذا فقد أمر من الأمور الثلاثة التي ذكرناها فلكل حكمه الخاص كما سوف نبينه عند كلامنا عن أصناف الناس في الإيمان به -صلى الله عليه وسلم-.

حكم الإيمان به صلى الله عليه وسلم: الإيمان به صلى الله عليه وسلم واجب على كل مكلف بلغته الدعوة الإسلامية على وجهها الصحيح، والأدلة على ذلك كثيرة في القرآن وفي السُّنَّة.

أمّا أدلة القرآن الكريم فإنّها تنقسم إلى قسمين:
قسم يشهد له ولغيره من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام.
وقسم يشهد له صلى الله عليه وسلم خاصة.

أمّا ما يشهد له ولغيره من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فمنه قوله تعالى: ((آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ)) [البقرة:285] وقوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً)) [النساء:149-150].

وأمّا ما يشهد له صلى الله عليه وسلم خاصة فكثيرة: منها قوله تعالى: ((فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)) [الأعراف:158].

ومنها قوله تعالى: ((فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)) [التغابن:8].

ومنها قوله تعالى: ((وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً)) [الفتح:13].

وأمّا أدلة السُّنَّة فإنها تنقسم إلى قسمين على نمط أدلة القرآن الكريم ولذلك ترى في السُّنَّة ما يشهد لرسول الله ولغيره من الرسل -عليهم الصلاة والسلام-، وما يشهد له صلى الله عليه وسلم خاصة.

أمّا ما يشهد له ولغيره من الرسل -عليهم الصلاة والسلام- جميعاً: فمنه إجابة النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام بعد ما سأله عن الإيمان حيث قال: " الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وبلقائه ورسله وتؤمن بالبعث " (22).

وأمّا ما يشهد له صلى الله عليه وسلم فكثيرة منها ما أخرجه الشيخان عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلاّ بحق الإسلام وحسابهم على الله" (23).

ومنها ما أخرجه الإمام مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلاّ كان من أصحاب النار " (24).

والنصوص السابقة تفيد وجوب الإيمان به صلى الله عليه وسلم من عدة وجوه: الأول: الأمر بالإيمان به صلى الله عليه وسلم كما يفيده قوله تعالى: ((فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ)) [الأعراف: 158].

وقوله تعالى أيضاً: ((فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا)) [التغابن:8].

الثاني: تسمية من لم يؤمن به كافراً كما يفيد قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقّاً)) [النساء:150-151].

الثالث: الوعيد لمن لم يؤمن به صلى الله عليه وسلم بإدخال العذاب.

كما يدل عليه قوله تعالى: ((وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً)) [الفتح:13].

الرابع: الأمر بقتال من لم يؤمن به صلى الله عليه وسلم كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أنّ لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلاّ بحق الإسلام وحسابهم على الله " (25).

الحاصل أنّ الإيمان به صلى الله عليه وسلم يستلزم الإيمان بالرسل السابقين جميعاً -عليهم الصلاة والسلام- وأنّ الكفر بأحد منهم كفر بهمِ جميعاً كما يدل عليه قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقّاً)) [النساء:150-151].

وكل هذه الأمور التي استنبطت من الأدلة السابقة في القرآن وفي السُّنَّة تدل على وجوب الإيمان به صلى الله عليه وسلم لورود الأمر به والأمر يقتضي الوجوب ما لم يعارض ولا معارض له هنا، ولورود الوعيد على عدم الإيمان به صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أنّ الوعيد لا يتأتى إلاّ على ترك أمر واجب أو فعل محرم، ووصف من لم يؤمن به -صلى الله عليه وسلم- بالكفر، ولا يوصف بالكفر إلا من ترك واجباً متعمداً، ولورود الأمر بقتال من لم يؤمن به صلى الله عليه وسلم ولا يقاتل إلا على ترك واجب.

3- أصناف الناس في الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم: الناس في الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أصناف: الأول: صنف آمن بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً وعمل بمقتضى ذلك.

الثاني: صنف آمن به صلى الله عليه وسلم ظاهراً دون الباطن.

الثالث: من آمن به صلى الله عليه وسلم ولم يظهر ما يؤيد ذلك أو يخالفه.

أما الصنف الأول فهو المسلم الذي يقبل الله إيمانه ويجازيه عليه في الدنيا والآخرة، وأمّا الصنف الثاني فهو المنافق الذي لا يقبل إيمانه عند الله، وأمّا عند الناس فيقبل بناء على ما أظهره لنا كالنطق بالشهادتين إذ أنّه لا سبيل لأحد إلى معرفة ما في قلبه إلاّ الله ومن ثم يحقن دمه ويعصم ماله وذريته ويجري عليه ما يجري على المسلمين في الظاهر بالنسبة للأمور الدنيوية في معاشه وعند موته، أمّا في الآخرة فسوف يجد جزاءه العادل عند الله تعالى.

يقول القاضي عياض: "وأمّا الحالة المذمومة فالشهادة باللسان دون تصديق القلب وهذا هو النفاق، فلما لم تصدق ذلك ضمائرهم لم ينفعهم أن يقولوا بألسنتهم ما ليس في قلوبهم فخرجوا عن اسم الإيمان ولم يكن لهم في الآخرة حكمة إذ لم يكن معهم إيمان، وألحقوا بالكافرين في الدرك الأسفل من النار، وبقي عليهم حكم الإسلام بإظهار شهادة اللسان في أحكام الدنيا المتعلقة بالأعمال وحكام المسلمين الذين أحكامهم على الظواهر بما أظهروه من علامة الإسلام إذ لم يجعل الله للبشر سبيل إلى السرائر ولا أمروا بالبحث عنها بل نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التحكم عليها وذم ذلك (26) وقال: "... هلا شققت قلبه..." (27).

وأمّا الصنف الثالث فقد فصّل القاضي عياض -رحمه الله- في شأنه حيث قال بعد ذكر الصنفين السابقين: "بقيت حالتان أخريان بين هذين الصنفين: إحداهما: أن يصدق بقلبه ثم يخترم قبل أن يتسع الوقت للشهادة بلسانه فاختلف فيه، فشرط بعضهم من تمام الإيمان القول والشهادة، ورآه بعضهم مؤمناً موجباً للجنة لقوله صلى الله عليه وسلم: "... يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان" (28) فلم يذكر سوى ما في القلب وهذا مؤمن بقلبه غير عاص ولا مفرط بترك غيره. وهذا هو الصحيح في هذا الوجه.

الثانية: أن يصدق بقلبه ويطول مهلة، وعلم ما يلزمه من الشهادة فلم ينطق بها جملة ولا استشهد بها في عمره مرة، فهذا اختلف فيه أيضاً، فقيل: هو مؤمن لأنّه مصدق، والشهادة من جملة الأعمال فهو عاص بتركها غير مخل، وقيل: ليس بمؤمن حتى يقارن عقده شهادة اللسان، إذ الشهادة إنشاء عقد والتزام إيمان وهي مرتبطة مع العقد ولا يتم التصديق مع المهلة إلا بها وهذا هو الصحيح) (29).

4- ثمرة الإيمان بنبوته صلى الله عليه وسلم: إذا أطلق الإيمان في لسان الشرع فإنّه يفيد الإيمان بالله ورسوله وما يتبع ذلك من شعب الإيمان لقوله تعالى: ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ)) [النور:62].

قال الإمام الشافعي -رحمه الله- في تأويل هذه الآية: "جعل الله كمال الإيمان الذي ما سواه تبع له الإيمان بالله ثم برسوله فلو آمن عبد بالله ولم يؤمن بَرسوله لم يقع عليه إسم كمال الإيمان أبداً حتى يؤمن برسوله معه " (30).

وثمرة الإيمان كثيرة نذكر طرفاً منها:
1- الاستخلاف والتمكين في الأرض والاستقرار فيها كما يقول تعالى: ((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً)) [النور:55].

2- البشرى في الدنيا والآخرة. كما يدل عليه قوله تعالى: ((أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)) [يونس:62-64].

والمراد بالبشرى في الدنيا الرؤيا الصالحة، وأما في الآخرة فهي الجنة (31).

3- الهداية إلى الصراط المستقيم، كما يدل عليه قوله تعالى: ((وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)) [الحج: 54].

4- الحياة الطيبة والجزاء الحسن. كما يفيد قوله تعالى: ((مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) [النحل:97].

5- النصر في الدنيا وفي الآخرة. كما يدل عليه قوله تعالى: ((إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ)) [غافر:51].

وقوله تعالى أيضاً: ((وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)) [الروم:47].

6- قبول الأعمال. كما يدل عليه قوله تعالى: ((فَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ)) [الأنبياء: 94].

7- دخول الجنة. كما يدل عليه قوله تعالى: ((وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ)) [التوبة:72].

وهذه أهم الثمرات الحاصلة بالإيمان بنبوته صلى الله عليه وسلم وما يتبع ذلك من شعب الإيمان الأخرى الواردة في قوله صلى الله عليه وسلم: " الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق...) (32).



الباب الثاني أنواع الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 49101
العمر : 72

الباب الثاني أنواع الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم Empty
مُساهمةموضوع: رد: الباب الثاني أنواع الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم   الباب الثاني أنواع الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم Emptyالثلاثاء 19 سبتمبر 2023, 9:52 pm

المبحث الثاني: محبته صلى الله عليه وسلم
من الآداب القلبية محبته صلى الله عليه وسلم وهي من الأمور الخفية التي لا يطلع عليها إلاّ الله -سبحانه وتعالى- ويمكن معرفتها بالعلامات الظاهرة مثل الاتباع والطاعة. ولهذا قال تعالى في شأن من ادعى محبة الله اختباراً لهم: ((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ)) [آل عمران:31].

ويفهم من هذه الآية أنّ محبة العبد لله تستلزم اتباعه باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم واتباع الرسول يستلزم محبة الله للعبد.

ومحبته صلى الله عليه وسلم من موجبات الإيمان بل من الإيمان نفسه كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يؤمن أحداً حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين " (33).

وفي هذا الحديث جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أقسام المحبة التي تكون بين الناس وهي ثلاثة:
1- محبة إجلال وإعظام كمحبة الولد والده.
2- محبة إشفاق ورحمة كمحبة الوالد ولده.
3- محبة مشاكلة واستحسان كمحبة سائر الناس.

ومحبته صلى الله عليه وسلم فوق هذا كله كما يفيد أفعل التفضيل في قوله: " أحب إليه ".

وفي هذا المبحث سوف نتحدث عن المسائل المتعلقة بهذا الموضوع وهي على النحو التالي:
1- معنى المحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
2- أنواعها.
3- علاماتها.
4- ثمرتها.
5- صور من حب السلف للرسول صلى الله عليه وسلم.

وسوف أبحثها -إن شاء الله تعالى- وفق هذا الترتيب:
1- معنى المحبة: ذكر العلماء في أصل اشتقاق المحبة عدة أقوال.

وإني هنا أذكر أهم ما قيل فيها: يقول الفيروزأبادي: "وهذه المادة تدور في اللغة على خمسة أشياء:
أحدها: الصفاء والبياض -ومنه قيل: حبب الأسنان لبياضها ونضارتها.
الثاني: العلو والظهور -ومنه حبب الماء وحبابه وهو ما يعلو من النفخات عند المطر وحبب الكأس منه.
الثالث: اللزوم والثبات -ومنه حب البعير وأحب إذا برك ولم يقم.
الرابع: اللباب والخلوص - ومنه حبة القلب للبه وداخله، ومنه الحبة الواحدة الحبوب إذ هي أصل الشيء ومادته وقوامه.
الخامس: الإمساك والحفظ - ومنه حبب الماء للوعاء الذي يحفظ فيه ويمسكه. وفيه معنى الثبوت.

ثم قال: ولا ريب أنّ هذه الخمسة من لوازم المحبة (34).

هذه أصل اشتقاق المحبة، وأمّا معناها اللغوي فيقول الفيروزأبادي في مادة  (الحب): " الحب: الوداد كالحباب والحب بكسرها والمحبة والحباب بالضم " (35).

ويقول ابن منظور في مادة "حبب " ما يلي: "الحب نقيض البغض، والحب الوداد والمحبة وكذلك الحب بالكسر" (36).

وهذا هو المعنى اللغوي للمحبة وهو يدور حول الود أو نقيض الكراهية والبغض.

وأمّا علماء الاصطلاح فقد ذهبوا إلى أنّ لفظها يدل عليها وتحديد معناها بألفاظ أخرى لا يحقق الغرض من أتضاحها.

ولهذا قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: " لا تحد المحبة بحد أوضح منها، فالحدود لا تزيدها إلاّ خفاء وجفاء، فحدها وجودها، ولا توصف المحبة بوصف أظهر من المحبة، وإنما يتكلم الناس في أسبابها وموجباتها، وعلاماتها وشواهدها وثمراتها وأحكامها، فحدودهم ورسومهم دارت على هذه الستة " (37).

وبذلك فمن الصعب أن نجد لها حداَ جامعاً، ومع ذلك فإنّي أحاول أن أجليها بذكر آراء العلماء فيها.

يقول القاضي عياض مبيناً ذلك: "اختلف الناس في تفسير محبة الله ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم وكثرت عباراتهم في ذلك وليست ترجع بالحقيقة إلى اختلاف مقال ولكنّها أختلاف أحوال، فقال سفيان (38): المحبة اتباع الرسول كأنه التفت إلى قوله تعالى: ((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ)) [آل عمران:31] وقال بعضهم: محبة الرسول اعتقاد نصرته والذب عن سنته والانقياد لها وهيبة مخالفته، وقال بعضهم: المحبة دوام الذكر للمحبوب، وقال آخر: إيثار المحبوب وقال بعضهم: المحبة الشوق إلى المحبوب، وقال بعضهم: المحبة مواطأة القلب لمراد الرب بحب ما أحب وبكره ما كره، وقال آخر: المحبة ميل القلب إلى موافق له، ثم قال: وأكثر العبارات المتقدمة إشارة إلى ثمرات المحبة دون حقيقتها، وحقيقة المحبة الميل إلى ما يوافق الإنسان " (39).

وكذلك الراغب الأصفهاني حدّها بتعريف مماثل لقول الأخير قائلاً: " المحبة ميل النفس إلى ما تراه أو تظنّه خيراً، وذلك ضربان أحدهما: طبيعي وذلك في الإنسان والحيوان وقيل قد يكون بين الجمادات كالألفة بين الحديد وحجر المغناطيس.

والثاني: اختياري -وذلك يختص به الإنسان " (40).

والذي يهمنا في هذا المقام المحبة الإختيارية التي بين الناس وهي لا تكون إلاّ لأسباب مثل اللذة والنفع والفضل. وسيأتي تفصيلها عند حديثي عن أنواع المحبة وأقسامها.

وأما المحبة التي أقرها الشرع فتكون في ثلاثة: محبة الله ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم ومحبة المؤمنين.

يقول أبو عبد الله المحاسبي: "والمحبة في ثلاثة أشياء لا يسمى محباً لله عز وجل إلاّ بها:
1- محبة المؤمنين في الله عز وجل.
2- محبة الرسول صلى الله عليه وسلم لله عز وجل.
3- محبة الله -عز وجل- في إيثار الطاعة على المعصية " (41).

وعلى هذا فمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم هي ميل القلب المؤمن إليه مودة لسبب من الأسباب الموجبة على ذلك لله -عز وجل- ثم الانتفاع برسالته والفضل الذي أوثر عنه مثل مكارم الأخلاق والاتصاف بصفات حميدة.

2- أنواع المحبة: قسّم العلماء المحبة إلى عدة أنواع: فمنهم من قسّمها إلى طبيعية واختيارية، ومنهم من قسّمها إلى حسيّة ومعنوية، ومنهم من قسّمها حسب الأسباب الموجبة لها مثل اللذة والنفع والفضل، ومنهم من قسّمها بحسب الرتب والدرجات.

وقد قسّم الراغب الأصفهاني المحبة إلى قسمين حيث قال: أحدهما: طبيعي -وذلك في الإنسان والحيوان، وقيل: قد يكون بين الجمادات كألفة بين الحديد وحجر المغناطيس.

الثاني: اختياري - وذلك يختص به الإنسان فأما ما يكون بين الحيوانين فألفة، وهذا الثاني أربعة أضرب:
الأول: للشهوة -وأكثر ما يكون ذلك بين الأحداث.
والثاني: للمنفعة -ومن جهة ما يكون بين التجار وأرباب الصناعات المهنية.
والثالث: ما يكون مركباً من ضربين كمن يحب آخر للنفع وذلك يحبه للشهوة.
والرابع للفضيلة -كمحبة المتعلم للعالم.

 ثم قال: وهذه المحبة -أي الأخيرة- باقية على مرور الأوقات وهي المستثناة بقوله تعالى: ((الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ)) [الزخرف:67]، وأمّا الضروب الأخر فقد تطول مدتها وتقصر بحسب دوام أسبابها " (42).

وقال الراغب الأصفهاني أيضاً في مكان آخر: وهي على ثلاثة أوجه: محبة للذة -كمحبة الرجل المرأة ومنه  ((وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً)) [الإنسان:8] ومحبة النفع كمحبة شيء ينتفع به ومنه  ((وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ)) [الصف:13]، ومحبة للفضل كمحبة أهل العلم بعضهم لبعض لأجل العلم " (43).

وهذه الأنواع التي نقلناها مبنية غالباً على الأسباب الموجبة للمحبة الإختيارية سواء كانت حسية أو معنوية وخاصة التقسيم الأخير وهو الذي يتمشى مع هذا المقام الذي نحن بصدده.

وقد ذكر القاضي عياض -رحمه الله تعالى- هذه الأقسام الثلاثة المسببة للمحبة حيث قال: "وحقيقة المحبة الميل إلى ما يوافق الإنسان وتكون موافقته إمّا لاستلذاذه بإدراكه كحب الصور الجميلة والأصوات الحسنة والأطعمة والأشربة اللذيذة وأشباهها مما كل طبع سليم مائل إليها لموافقتها له، أو لاستلذاذه بإدراكه بحاسة عقله وقلبه معاني باطنة شريفة كحب الصالحين والعلماء وأهل المعروف المأثور عنهم السير الجميلة والأفعال الحسنة فإن طبع الإنسان مائل إلى الشغف بأمثال هؤلاء حتى يبلغ التعصب بقوم لقوم والتشيع من أمة في آخرين ما يؤدي إلى الجلاء عن الأوطان وهتك الحرم واحترام النفوس أو يكون حبه إيّاه لموافقته له من جهة إحسانه له وإنعامه عليه فقد جبلت النفوس على حب من أحسن إليها " (44).

ثم ذكر بعد ذلك أنّ هذه الأنواع المسببة للمحبة كلها مجتمعة في شخصيته صلى الله عليه وسلم على أتم وجه حيث قال: "فإذا تقرر لك هذا نظرت هذه الأسباب كلها في حقه صلى الله عليه وسلم فعلمت أنّه صلى الله عليه وسلم جامع لهذه المعاني الثلاثة الموجبة للمحبة. فقد تميّز بجمال الصورة والظاهر وكمال الأخلاق والباطن، كما تميّز بإحسانه وإنعامه على أمته.

 وقد ذكر الله تعالى في أوصافه رأفته بهم ورحمته لهم وهدايته إياهم وشفقته عليم واستنقاذهم من النار وأنّه بالمؤمنين رؤوف رحيم ورحمة للعالمين ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه، ويتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ويهديهم إلى صراط مستقيم، فأي إحسان أجلّ قدراً وأعظم خطراً من إحسانه إلى جميع المؤمنين، وأي إفضال أعمّ منفعة وأكثر فائدة من إنعامه على كافة المسلمين، إذ كان ذريعتهم إلى الهداية، ومنقذهم من العماية وداعيهم إلى الفلاح والكرامة، ووسيلتهم إلى ربّهم وشفيعهم والمتكلم عنهم والشاهد لهم والموجب لهم البقاء الدائم والنعيم السرمدي فقد استبان لك أنّه صلى الله عليه وسلم مستوجب للمحبة الحقيقية شرعاً... إلى أن قال: فإذا كان الإنسان يحب من منحه في دنياه مرة أو مرتين معروفاً أو أستنقذه من هلكة أو مضرة مدة التأذي بها قليل منقطع فمن منحة ما لا يبيد من النعيم ووقاه ما لا يفنى من عذاب الجحيم أولى بالحب، وإذا كان يحب بالطبع ملك لحسن سيرته أو حاكم لما يؤثر من قوام طريقته أو قاص بعيد الدار لما يشاد من علمه أو كرم شيمته فمن جمع هذه الخصال كلها على غاية مراقب الكمال أحق بالحب وأولى بالميل " (45).

3- علامات محبته صلى الله عليه وسلم: المحبة من الأمور القلبية التي لا يطلع عليها أحد إلاّ من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. ولذلك جعل الله لها دليلاً عملياً وعلامات كثيرة.

ونذكر هنا طرفاً من علاماتها: منها الإيثار -أي إيثار النبي- صلى الله عليه وسلم- على النفس كما يدل عليه قوله تعالى: ((وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ)) [الحشر:9].

والآية وإن كانت عامة في إيثار المهاجرين إلا أنه صلى الله عليه وسلم هو رئيس المهاجرين وقائدهم، وهو المحبوب الأول من الخلق أساساً، وأمّا غيره فتبع له بحسب قربهم إليه صلى الله عليه وسلم ومتابعتهم إيّاه.

ومنها: بغض من أبغض الله ورسوله مهما كانت صلته ورتبته لقوله تعالى: ((لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ)) [المجادلة:22].

يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: "قيل في قوله تعالى: ((وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ)) [المجادلة:22]: نزلت في أبي عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح حين قتل أباه يوم بدر  ((أَوْ أَبْنَاءَهُمْ)) [المجادلة:22]: في الصديق همّ يومئذ ابنه عبد الرحمن  ((أَوْ إِخْوَانَهُمْ)) [المجادلة:22]: في مصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يومئذ، ((أَوْ عَشِيرَتَهُمْ)) [المجادلة:22]: في عمر قتل قريباً له يومئذ أيضاً.." (46).

وهؤلاء قاموا بقتل أقرب أقربائهم في معركة بدر لأن حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم يقتضي قتل من حاد الله ورسوله وبغض من أبغض الله ورسوله.

ومنها: حب من أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أي عكس الصورة السابقة لقوله صلى الله عليه وسلم: " الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضاً بعدي فمن أحبم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله يوشك أنْ يأخذه " (47).

4- ثمرة محبته صلى الله عليه وسلم: وثمرة محبته صلى الله عليه وسلم كثيرة ولكن نذكر هنا أهمها وشواهدها: من ذلك: أنّ محبته صلى الله عليه وسلم تؤدي إلى مرافقته في الجنة.

ومما يدل على ذلك ما أخرجه الإمام مسلم -رحمه الله- عن أنس بن مالك قال:، "بينما أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم خارجين من المسجد فلقينا رجلاً عند سدة (48) المسجد فقال: يا رسول الله: متى الساعة؟ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما أعددت لها؟" قال: فكأن الرجل استكان ثم قال: ما أعددت لها كبير صلاة ولا صيام ولا صدقة ولكنّي أحِبُّ اللهَ ورسوله، قال: "فأنت مع مَنْ أحببت" (49).

ومن ثمرة محبته صلى الله عليه وسلم أنّها من الخصال الموجبة لحلاوة الإيمان لقوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كنّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، من كان الله ورسوله أحب إليه ممّا سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلاّ لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار" (50).

ومن ثمرة محبته صلى الله عليه وسلم مرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين لحديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: إنّك لأحبّ إليّ من نفسي وإنّك لأحب إليّ من ولدي وإنّي لأكون في البيت فأذكرك، فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتك عرفت إنّك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإنّي إذا دخلت خشيت أن لا أراك فأنزل الله تعالى (51): ((وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً)) [النساء:69].

ومن ثمرة محبته - صلى الله عليه وسلم- إتمام إيمان من اتصف بها لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من والده وولده والناس أجمعين" (52).

5- صور من حب السلف للرسول صلى الله عليه وسلم: هناك صور متعددة من حب السلف للرسول صلى الله عليه وسلم نذكر طرفاً منها في هذا المقام وخاصة ما روي في حب الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- للرسول صلى الله عليه وسلم: من ذلك ما أخرجه الحاكم عن ابن عمر -رضي الله عنه- قال: لمّا فرض عمر لأسامة بن زيد ثلاثة آلاف وفرض لي ألفين وخمسمائة فقلت له: يا أبت لم تفرض لأسامة بن زيد ثلاثة آلاف وتفرض لي ألفين وخمسمائة والله ما شهد أسامة مشهداً غبت عنه ولا شهد أبوه مشهداً غاب عنه أبي قال: صـدقت يا بني، ولكنّي أشهد لأبوه كان أحبّ الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك ولهو أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك " (53).

ومنها ما أخرجه البخاري عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "أنَّ خياطاً دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعه، قال أنس: فذهبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته يتتبع الدباء (54) من حوالي القصعة قال: فلم أزل أحب الدباء من يومئذ" (55).

ومنها ما روي أنّه لما أخرج أهل مكة زيد بن الدثنة من الحرم ليقتلوه، قال له أبو سفيان بن حرب: أنشدك بالله يا زيد: أتحب أن محمداً الآن عندنا مكانك لضرب عنقه وإنّك في أهلك؟ فقال زيد: والله ما أحبّ أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة وإنّي جالس في أهلي، فقال أبو سفيان: ما رأيت الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً" (56).

ومنها ما أخرجه الإمام مسلم عن أنس بن مالك أن أعرابياً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: متى الساعة؟ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أعددت لها؟" قال: حب الله ورسوله، قال: "أنت مع من أحببت" (57).

ومنها ما روي أن امرأة من الأنصار قتل أبوها وأخوها وزوجها فأخبروها بذلك فقالت: ما فعل الله برسول الله؟ قالوا: بحمد الله كما تحبين.

قالت: أرونيه حتى أنظره، فلمَّا رأت قالت: كل مصيبة بعدك جلل (58)" (59).

-------------------------------------------------------
1.    المضغة: القطعة من اللحم، قدر ما يمضغ، وجمعها مضغ، وهنا تعني القلب، لأنه قطعة لحم من الجسد. انظر النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (4/339).
2.    صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب من استبرأ لدينه (1/19-20).
3.    صحيح البخاري، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1/6).
4.    غرائب القرآن، (3/131-132).
5.    صحيح مسلم، كتاب القدر، بات تصريف الله القلب كيف شاء (4/2045).
6.    صحيح مسلم، كتاب القدر، باب تصريف الله القلب كيف شاء (4/2045).
7.    هو أبو منصور محمد بن أحمد الأْزهري (292-370هـ).
8.    تهذيب اللغة مادة أمن (15/513).
9.    تقدمت ترجمته في (ص:25).
10.    معجم مقاييس اللغة (1/133).
11.    مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزأبادي المتوفى سنة (817هـ). انظر ترجمته في بغية الوعاة (2/273-275).
12.    القاموس المحيط (4/199).
13.    تقدمت ترجمته في (ص:25).
14.    لسان العرب (13/21).
15.    تهذيب اللغة، (15/514).
16.    الإيمان (146).
17.    المصدر السابق: (146-147).
18.    الفوائد: (85).
19.    الشفا بتعريف حقوف المصطفى: القاضي عياض (2/539).
20.    القاعدة المراكشية: (24-25).
21.    الفوائد (107).
22.    البخاري في كتاب الأيمان في باب سؤال جبريل صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة (1/18).
23.    البخاري في كتاب الإيمان، باب: (فأن أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) (1/13). واللفظ له، ومسلم في كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله محمد رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة. (1/53).
24.    مسلم في كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس ونسخ الملل بملته (1348).
25.    تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.
26.    الشفا بتعريف حقوق المصطفى (2/540).
27.    جزء من حديث أسامة، وتمامه: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبحنا في الخرقات من جهينة فأدركت رجلاً فقال: لا إله إلا الله فطعنته فوقع في نفسي من ذلك فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقال: لا إله إلاّ الله وقتلته؟" قال: قلت: يا رسول الله، إنما قالها خوفاْ من السلاح. قال: "أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟" فما زال يكررها عليَّ حتى تمنيت أنّي أسلمت يومئذ. انظر صحيح مسلم في كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال: لا إله إلاّ الله (1/56).
28.    الحديث في صحيح البخاري، في كتاب الإيمان، باب تفاضل أهل الإيمان (1/13) بلفظ: "يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، ثم يقول الله تعالى: أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان".
29.    الشفا بتعريف حقوق المصطفى (2/541).
30.    موسوعة سماحة الإسلام لمحمد صادق عرجون (1/82).
31.    انظر تفسير ابن كثير (2/422).
32.    صحبح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها (1/63).
33.    أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان (1/12).
34.    بصائر ذوي التمييز: (2/416-417).
35.    القاموس المحيط: (1/52).
36.    لسان العرب: (1/289).
37.    مدارج السالكين: (3/10).
38.    يحتمل أنّه ابن عيينة أو الثوري كما ذكر الخفاجي في شرح الشفا (3/371).
39.    الشفا بتعريف حقوق المصطفى: (2/578-579).
40.    الذريعة إلى مكارم الشريعة: (190).
41.    رسالة المسترشدين: (177-179).
42.    الذريعة إلى مكارم الشريعة: (190).
43.    مفردات في غريب القرآن: (105).
44.    الشفا: (2/579).
45.    الشفا: (2/580-581).
46.    تفسير القرآن العظيم: (4/329).
47.    أخرجه الترمذي في سننه، أبواب المناقب، باب فيمن سب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (5/358) وقال: حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
48.    سدة المسجد: يعني الظلال التي حوله. النهاية في غريب الحديث: (2/353).
49.    صحيح مسلم في كتاب البر والصلة والأداب، باب المرء مع من أحب (4/2033).
50.    أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان (1/12)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان (1/66) واللفظ له.
51.    مجمع الزوائد (7/7) وقال الهيثمي: رواه الطبراني في الصغير والأوسط ورجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن عمران الغامدي وهو ثقة.
52.    أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان (1/12).
53.    مستدرك الحاكم (3/559)، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
54.    الدباء: القرع واحدتها دباءة. النهاية في غريب الحديث (2/96).
55.    صحيح البخاري، كتاب الأطعمة، باب من تتبع حوالي القصعة مع صاحبه إذا لم يعرف منه كراهية (3/291).
56.    انظر سيرة ابن هشام: (3/95).
57.    صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب المرء مع من أحب (4/2032).
58.    جلل: هين يسير، والجلل من الأضداد، يكون للحقير والعظيم. النهاية في غريب الحديث (10/289).
59.    انظر سيرة ابن هشام (3/43).



الباب الثاني أنواع الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 49101
العمر : 72

الباب الثاني أنواع الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم Empty
مُساهمةموضوع: رد: الباب الثاني أنواع الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم   الباب الثاني أنواع الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم Emptyالثلاثاء 19 سبتمبر 2023, 9:56 pm

الفصل الثاني
الأدب القولي
التأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم متعدد الجوانب متنوع الصور، وقد تحدثت عن التأدّب القلبي في الفصل السابق وأتبعه -بعون الله تعالى- بالحديث عن التأدّب القولي.

ونقصد بالتأدّب القولي ما كان متلفظاً به - وهو عمل اللسان.

والآداب -سواء كانت قلبية أو قولية أو فعلية- مترابطة إلاّ أن التقسيم منهجي للتوضيح والدراسة لأنّ من استقام قلبه استقام لسانه واستقامت جوراحه.

والأدب اللساني له أهميته لأنّ اللسان هو دليل القلب وهو الوسيلة الرئيسية التي تساعد الإنسان على الاتصال بالآخرين وبواسطته تتضح معالم شخصية صاحبه، وبه تقوم الدعوة ويتم البلاغ.

ولهذا السبب سأل موسى -عليه الصلاة والسلام- ربّه عز وجل- حل العقدة من لسانه حتى يقوم بتبليغ الدعوة على وجهها خير قيام، وذلك حين كلفه ربّه بالرسالة وأمره بدعوة فرعون وقومه يقول تعالى: ((وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي)) [طه: 27-28].

كما أنه- عليه الصلاة والسلام- طلب من ربّه أن يرسل معه أخاه هارون -عليه الصلاة والسلام- لفصاحة لسانه ووضوح بيانه يقول تعالى: ((وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي)) [القصص: 34].

يقول الفخر الرازي في تفسير هذه الآية: "ليس الغرض بتصديق هارون أن يقول له صدقت أو يقول للناس صدق موسى، وإنّما هو أن يلخص بلسانه الفصيح وجوه الدلائل ويجيب عن الشبهات ويجادل الكفار، فهذا هو التصديق المفيد" (1).

والبيان ميزة الإنسان عن سائر المخلوقات، وبه يستطيع الإنسان أن يعبر عن مراده بأسلوب واضح وبطريقة مفهومة.

وقد ذكر الله -سبحانه وتعالى- هذه الميزة على وجه الامتنان فقال تعالى: ((الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ)) [الرحمن: 1-4].

يقول الفخر الرازي في تفسيره: "لم يقل وعلمه البيان لأنه لو عطفه عليه لكان مغايراً له، أمّا إذا ترك الحرف العاطف صار قوله: ((عَلَّمَهُ الْبَيَانَ)) [الرحمن: 4] كالتفسير لقوله: ((خَلَقَ الإِنسَانَ)) [الرحمن: 3] كأنه إنما يكون خالقاً للإنسان إذ علمه البيان، وذلك يرجع إلى الكلام المشهور من أنّ ما هية الإنسان هو الحيوان الناطق" (2).

ولهذا اعتبر اللسان نصف الإنسان لأنّه يقال: المرء بأصغريه قلبه ولسانه.

يقول زهير بن أبي سلمى مشيراً إلى ذلك:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده
فلم يبق إلاّ صورة اللحم والدم (3)

واللسان مع أهميته مثل آلة ذات حدين حيث يستعمل للخير كالصدق في القول والإرشاد والتعليم والذكر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدفاع عن الحق، كما أنه يستعمل للشر من إيذاء الناس بالشتم أو بالنميمة والدفاع عن الباطل ومساندته لأن البيان قوة مؤثرة في تحريك النفوس وتوجيه الناس.

يقول صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحرا" (4).

ويقول ابن حبان البستي معلقاً على هذا الحديث: "وشبه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا البيان بالسحر إذ الساحر يستميل قلب الناظر إليه بسحره وشعوذته، والفصيح الذرب اللسان يستميل قلوب الناس إليه بحسن فصاحته ونظم كلامه، فالأنفس تكون إليه تائقة والأعين إليه رامقة" (5).

ولذا كان مجال اللسان واسعاً سواء في الخير أو في الشر.

يقول الفخر الرازي مبيناً ذلك: "ما من موجود أو معدوم خالق أو مخلوق معلوم أو موهوم إلاّ واللسان يتناوله ويتعرض له بإثبات أو نفي، فإن كل ما يتناوله الضمير يعبر عنه بحق أو باطل، وهذه خاصية لا توجد في سائر الأعضاء فإنّ العين لا تصل إلى غير الألوان والصور، والآذان لا تصل إلى غير الأصوات والحروف، واليد لا تصل إلى غير الأجسام وكذلك سائر الأعضاء بخلاف اللسان فإنّه رحب الميدان ليس له نهاية ولا حد له فله في الخير مجال رحب وله في الشر بحر سحب.." (6).

وفي هذا الفصل نبين مجاله في التأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم من حيث مخاطبته صلى الله عليه وسلم والصلاة عليه وما يتبع ذلك.

لذا يتكون هذا الفصل من مبحثين:
المبحث الأول: مخاطبته صلى الله عليه وسلم.
المبحث الثاني: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

المبحث الأول: مخاطبته صلى الله عليه وسلم:
الخطاب توجيه الكلام إلى الرسول صلى الله عليه وسلم على وجه السؤال أو الجواب أو المحادثة، وقد تكون نداء مباشراً له -عليه الصلاة والسلام- أثناء حياته.

ولذلك تضمن هذا المبحث دراسة مسألتين:
الأولى: غض الصوت وقت مخاطبته صلى الله عليه وسلم.
الثانية: استخدام النداء اللائق بمقامه صلى الله عليه وسلم.

وذلك فيما يلي:
1- غض الصوت وقت مخاطبته صلى الله عليه وسلم: من المعلوم أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم هو المصدر الوحيد الذي يتلقى عنه المسلمون تعاليم الله -سبحانه وتعالى- سواء كان قرآناً أو سنة أو حديثاً قدسياً، لذلك يجب عليهم أن يتأدبوا معه صلى الله عليه وسلم أثناء كلامه معهم أو كلامهم معه، وذلك بخفض الصوت وترك الجهر العالي كما يكون بين الإنسان وصديقه لقوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ)) [الحجرات: 2].

يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: "هذا أدب ثان أدّب الله تعالى به المؤمنين أن لا يرفعوا أصواتهم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فوق صوته) (7).

والأدب هنا يحصل بمجانبة أمرين اثنين: أولاهما: رفع الصوت فوق صوته صلى الله عليه وسلم أخذاً من النهي الوارد في قوله: ((لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ)) [الحجرات: 2].

ثانيهما: الجهر بالقول له صلى الله عليه وسلم كالجهر بعضهم بعضاً أخذاً من النهي الوارد في قوله تعالى: ((وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ)) [الحجرات: 2].

وقد فرّق المفسرون بين النهيين الواردين في الآية حيث قالوا: إن الأول يتعلق برفع الصوت فوق صوته صلى الله عليه وسلم أثناء كلامه معهم. وأمّا الثاني يتعلق بالجهر له صلى الله عليه وسلم وقت صمته.

ومنهم من يقول: إنّ النهي الأول يتعلق وقت خطابه معهم أو خطابهم معه أو صمته، وأن الثاني يتعلق بندائه صلى الله عليه وسلم باسمه المجرد أو بكنيته، مثل: يا محمد، يا أبا القاسم.

وأكثر المفسرين ذهبوا إلى القول الأول الذي مفاده أنّ النهي الأول يتعلق وقت خطابه صلى الله عليه وسلم معهم، وأمّا الثاني فيتعلق وقت خطابهم معه، وصمته، وهو الأرجح لأنّ النهي عن النداء غير اللائق به صلى الله عليه وسلم ورد في آية أخرى بعد هذه الآية بآية واحدة وهي قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ)) [الحجرات: 4].

وقد أجمل النيسابوري -رحمه الله- ما ورد في التفريق بين هذين النهيين قائلاً: "والجمهور على أنّ بين النهيين فرقاً ثم اختلفوا فقيل:
الأول: فيما إذا نطق ونطقتم أو أنصت ونطقوا في أثناء كلامه فنهوا أن يكون جهرهم باهر الجهر.
والثاني: فيما إذا سكت ونطقوا ونهوا عن جهر مقيد بما اعتادوه فيما بينهم وهو الخالي عن مراعاة أبهة النبوة.

وقيل: النهي الأول أعم مما إذا نطق ونطقوا أو أنصت ونطقوا والمراد بالنهي الثاني أن لا يتمادى وقت الخطاب باسمه أو كنيته كنداء بعضكم لبعض فلا يقال: يا أحمد يا محمد يا أبا القاسم، ولكن يا نبي الله يا رسول الله" (8).

نستنتج من النهيين السابقين وجوب غض الصوت عند النبي صلى الله عليه وسلم ولزوم الأدب في مخاطبته سواء كان ذلك أثناء كلامه أو صمته لأنّ رفع الصوت والجهر عنده يؤدي إلى سوء الأدب معه وقلة الاحتشام منه ومجانبة توقيره ومعاملته معاملة الأقران بعضهم لبعض ومن ثم يترتب إحباط عمل المؤمن -والعياذ بالله- وهو لا يشعر.

يقول الشهيد سيد قطب -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: والأدب الثاني هو أدبهم مع نبيهم في الحديث والخطاب وتوقيرهم له في قلوبهم توقيراً ينعكس على نبراتهم وأصواتهم، ويميز شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، ويميز مجلسه فيهم، والله يدعوهم إلى ذلك النداء الحبيب ويحذرهم من مخالفة ذلك التحذير الرهيب (9).

والتحذير الرهيب هو إحباط العمل الصالح بِدون شعور صاحبه أخذاً من قوله تعالى: ((أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ)) [الحجرات: 2] بمعنى أنّ عمل المؤمن يحبط بالذنوب والمعاصي دون الشرك لأن الآية خطاب للمؤمنين بدليل ابتدائها بالنداء الموجه للمؤمنين.

وعلى هذا استشكل المفسرون في توجيه هذه الآية التي ظاهرها يفيد بطلان العمل الصالح بالذنوب والمعاصي مع أن القاعدة هي أن الأعمال لا تبطل إلا بالشرك بدليل قوله تعالى: ((لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ)) [الزمر: 65].

ومن ثم اختلفت آراؤهم: فمنهم: من يقول إن الذنوب تحبط العمل الصالح ومن ثم يكفر صاحبها.

ومنهم من يقول: إن الإحباط يقصد به نقص المنزلة دون إحباط أصلها.

ومنهم من يقول: إن قلة الأدب معه صلى الله عليه وسلم تحبط العمل الصالح وإن كان لا يكفر صاحبها.

وممّن قال بالقول الأول شيخ الإسلام ابن تيمية قائلاً: "ومن ذلك أنّه حرم التقدم بين يديه بالكلام حتى يأذن، وحرم رفع الصوت فوق صوته، وأن يجهر له بالقول كما يجهر الرجل للرجل، وأخبر أن ذلك سبب حبوط العمل، فهذا يدل على أنه يقتضى الكفر لأنّ العمل لا يحبط إلا به" (10).

وممّن قال بالقول الثاني أبو سليمان الدمشقي: حيث ذهب إلى أن معنى الإحباط هاهنا نقص المترلة لا لإسقاط العمل من أصله كما يسقط بالكفر" (11) وممّن قال بالقول الثالث ابن جزي الكلبي: وهذا الإحباط، لأن قلة الأدب معه صلى الله عليه وسلم والتقصير في توقيره يحبط الحسنات، وإن فعله مؤمن لعظيم ما وقع فيه من ذلك" (12).

ومع الاختلاف الموجود بين هذه الآراء فإنها مجمعة على أن الذنوب تؤثر في العمل الصالح وتنقصه غير أن شيخ الإسلام ابن تيمية يرى أنّه يترتب على ذلك أمر آخر وهو الكفر أخذاً من ظاهر الآية.

وأحسن ما قيل في تأويل هذه الآية ما ذكره ابن المنير -رحمه الله- حيث يقول: "والقاعدة المختارة أنّ إيذاءه -عليه الصلاة والسلام- يبلغ مبلغ الكفر المحبط للعمل باتفاق، فورد النهي عمّا هو مظنّة لأذي النبي صلى الله عليه وسلم سواء وجد هذا المعنى أو لا حماية للذريعة وحسماً للمادة، ثم لما كان هذا المنهى عنه هو رفع الصوت منقسماً إلى ما يبلغ ذلك المبلغ أولاً، ولا دليل عليه يميز أحد القسمين عن الآخر لزم المكلف أن يكف عن ذلك مطلقاً وخوف أن يقع فيما هو محبط للعمل وهو البالغ حد الإيذاء إذ لا دليل ظاهر يميزه، وإن كان فلا يتفق تمييزه في كثير من الأحيان، وإلى التباس أحد القسمين بالآخر وقعت الإشارة بقوله سبحانه (13).

 ((أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ)) [الحجرات: 2].

ومن هذا الكلام الذي نقلناه عن ابن المنير يتبيّن لنا أن النهي في الآية يحتمل ما يؤدي إلى الكفر وهو ما يترتب عليه إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم أو الاستخفاف به ويحتمل ما دون ذلك، فإن كان الأول فلا غبار أنّ من فعل هذا يكفر ومن ثم يحبط عمله وعليه يتنزل كلام شيخ الإسلام ابن تيمية السابق، وإن كان الثاني فأقل ما يقال فيه: أنّ صاحبه يأثم إثماً كبيراً قد يؤدي إلى منزلق خطير دون أن يترتب عليه كفر، إلا أن عمله ينقص أو يحبط وعليه يتنزل قولا أبي سليمان الدمشقي وابن جزي الكلبي لأن الحسنات يذهبن السيئات لقوله تعالى: ((إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)) [هود: 114] وكذلك العكس أي أنّ الذنوب تحبط العمل أو تنقصه ولكن هنا بدون علم صاحبه أو حسه.

وهذا على غرار قوله تعالى في قضية الإفك: ((وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ)) [النور: 15].

وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه إليه بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم" (14).

وقد التزم الصحابة -رضوان الله عليهم- بهـذا الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عهده كما ورد في الآثار.

منها قول أبي بكر -رضي الله عنه- لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي أنزل عليك الكتاب يا رسول الله لا أكلمك ألا كأخي السرار حتى ألقى الله -عز وجل-" (15).

ومنها ما أخرجه البخاري عن ابن الزبير -رضي الله عنه- قال: "فما كان عمر يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه -الآية حتى يستفهمه" (16).

وهذان النموذجان من أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- يمثلان سائر الصحابة -رضي الله عنهم أجمعين- الذين شاهدوا التنزيل وتأدبّوا بآدابه ووقفوا عند حدوده ينفذون أوامره ويتركون نواهيه دون إبطاء أو تأخير.

وفي هذا المقام يقول الشهيد سيد قطب -رحمه الله-: "فهكذا ارتعشت قلوبهم وارتجفت تحت وقع ذلك النداء الحبيب، وذلك التحذير الرهيب، وهكذا تأدبوا في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم خشية أن تحبط أعمالهم وهم لا يشعرون ولو كانوا يشعرون لتداركوا أمرهم ولكنّ هذا المترلق الخافي عليهم كان أخوف عليهم فاخافوه واتقوه" (17).

ولأجل هذا الامتثال السريع من قبل الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- مدحهم الله سبحانه وتعالى بقوله: ((إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ)) [الحجرات: 3].

هكذا كان الأمر في حياته صلى الله عليه وسلم وأمّا بعد مماته فكذلك يجب على المسلم أن يتأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحيث لا يرفع صوته عند سماع أحاديثه صلى الله عليه وسلم لأن حرمته ميتاً كحرمته حياً سواء بسواء وأن أحاديثه تقوم مقامه.

يقول ابن العربي -رحمه الله-: "حُرمة النبي صلى الله عليه وسلم ميتاً كحُرمته حياً وكلامه المأثور بعد موته في الرفعة مثل كلامه المسموع من لفظه، فإذا قرئ كلامه وجب على كل حاضر ألا يرفع صوته عليه، ولا يعرض عنه كما كان يلزمه ذلك في مجلسه عند تلفظه به، وقد نبّه الله تعالى على دوام الحُرمة المذكورة على مرور الأزمنة بقوله تعالى: ((وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا)) [الأعراف: 204] وكلام النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي وله الحُرمة مثل ما للقرآن إلاّ معاني مُستثناة بيانها في كتب الفقه. والله أعلم" (18).

ويراعى هذا الأدب وهو عدم رفع الصوت أيضاً في مسجده صلى الله عليه وسلم لما أخرجه البخاري بسنده عنْ السائب بن يزيد قال: كنت قائماً في المسجد فحصبني رجل، فنظرت فإذا هو عمر بن الخطاب فقال: اذهب فأتني بهذين فجئته بهما، قال: من أنتما؟ أو من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم (19).

هذا في المسجد وكذلك الحال عند قبره صلى الله عليه وسلم يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي عند تفسيره هذه الآية: "ومعلوم أنّ حرمة النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته كحرمته في أيام حياته وبه تعلم أنّ ما جرت به العادة من اجتماع الناس قرب قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم في صخب ولغط وأصواتهم مرتفعة ارتفاعاً مزعجاً كله لا يجوز ولا يليق وإقرارهم عليه من المنكر" (20).

وممّا سبق ذكره يتبين لنا أنّ حرمة النبي صلى الله عليه وسلم ميتاً كحرمته في حياته على الوجه الذي شرحناه آنفاً وأنه يجب التأدب معه في الصوت بعد وفاته كما كان الحال وقت حياته للآية الكريمة التي نحن بصددها لأنّ حكمها يستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ولا ينقطع بموته صلى الله عليه وسلم.

كما أنّ هذا الأدب المستفاد من الآية يكون مع العلماء لأنهم ورثة الأنبياء وكذلك مع الأبوين وغيرهما لمن له فضل على الإنسان المسلم.

يقول الجصاص في هذا المقام: "وهذه الآيات وإن كانت نازلة في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وإيجاب الفرق بينه وبين الأمة فيه فإنه تأديب لنا فيمن يلزمنا تعظيمه من والد وعالم وناسك وقائم بأمر الدين وذي سن وصلاح ونحو ذلك إذ تعظيمه بهذا الضرب من التعظيم في ترك رفع الصوت عليه وترك الجهر عليه والتمييز بينه وبين غيره ممن ليس في مثل حاله" (21).

قلت: لا شك أنّ هؤلاء الأشخاص يأخذون هذا الحكم وينبغي التأدب معهم وتوقيرهم بالشكل اللائق بهم مع مراعاة الفرق بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنّ مقامه أرفع من هؤلاء جميعاً وهو صلى الله عليه وسلم المعنى بالآية أصلاً وهؤلاء تبعاً وليس الفرع كالأصل وإن اشتركا في أمور، والله تعالى يقول: ((النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ)) [الأحزاب: 6] بل ينبغي أن يحترم العبد النبي صلى الله عليه وسلم أَكثر من سيده.

يقول الفخر الرازي في تفسير هذه الآية: "إن هذا أفاد أنّه لا ينبغي أن يتكلم المؤمن عند النبي صلى الله عليه وسلم كما يتكلم العبد عند سيده لأن العبد داخل تحت قوله: ((كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ)) [الحجرات: 2].

لأنه للعموم فلا ينبغي أن يجهر المؤمن للنبي صلى الله عليه وسلم كما يجهر العبد للسيد وإلا لكان قد جهر له كما يجهر بعضهم لبعض.. ويؤيد ما ذكرناه قوله تعالى: ((النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ)) [الأحزاب: 6].

والسيد ليس أولى عند عبده من نفسه حتى لو كان في مخمصة ووجد العبد ما لو لم يأكله لمات لا يجب عليه بذله لسيده ويجب البذل للنبي صلى الله عليه وسلم... وأن الحكمة تقتضي ذلك كما أن العضو الرئيسي أولى بالرعاية من غيره، لأنّ عند خلل القلب مثلاً لا يبقى لليدين والرجلين استقامة، فلو حفظ الإنسان نفسه وترك النبي صلى الله عليه وسلم لهلك هو أيضاً بخلاف العبد والسيد " (22).

2- النداء اللائق به صلى الله عليه وسلم: النداء لون من ألوان الخطاب إلا أنه يتميز عنه بتوجيهه إلى شخص المنادى مباشرة، الأمر الذي يجعل له أثراً عند من ينادي عليه.

وفي مجال التأدّب مع الرسول صلى الله عليه وسلم جاء التنبيه في القرآن الكريم على ضرورة عدم مناداته بطريقة جافة ومزعجة بل لا بد من مراعاة مقامه وقدره وبالأخص عندما يكون في بيته مع نسائه وأولاده.

يقول تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) [الحجرات: 4-5].

عن الأقرع بن حابس -رضي الله عنه- أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أخرج إلينا، فلم يجبه، فقال: يا محمد إن حمدي زين وإنّ ذمي شين، فقال: فأنزل الله: ((إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ)) [الحجرات: 4] (23).

ويقول ابن كثير: "وقد ذكر أنها نزلت في الأقرع بن حابس التميمي -رضي الله عنه- فيما أورده غير واحد" (24).

وقد ذكر المفّسرون عدّة أسباب لنزول هذه الآية التي نحن بصددها ولكنّ الذي يهمنا في هذا المقام هو ما يستفاد من الآية سواء نزلت في الأقرع بن حابس -رضي الله عنه- أو في غيره لأنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

وقد تضمَّنت الآية أمرين:
أولهما: عدم إزعاج الرسول صلى الله عليه وسلم في وقت خلوته في بيته مع نسائه بالنداء غير اللائق به.

وثانيهما: الإرشاد إلى ما ينبغي أن يُفعل في هذه الحالة وهو الانتظار إلى أن يحين وقت خروجه.

يقول ابن كثير في تفسيره هذه الآية: " ثم إنه تبارك وتعالى ذَمَّ الذين ينادونه من وراء الحجرات وهي بيوت نسائه كما يصنع أجلاف الأعراب فقال: ((أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ)) [الحجرات: 4].

ثم أرشد إلى الأدب في ذلك فقال عز وجل: ((وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ)) [الحجرات: 5] أي: لكان في ذلك الخيرة والمصلحة في الدنيا والآخرة" (25).

وهذا لا يعني أنه لا يجوز مناداته صلى الله عليه وسلم بتاتاً، وإنما المحظور مناداته في وقت خلوته مع نسائه في بيته كما في هذه الحالة، وكذلك مناداته بصوت مرتفع خال من الاحترام والتقدير بل ينبغي أن يُنادي له بصوت منخفض وبصيغة معينة تتناسب مع قدره وعظمته ووقاره مثل: يا رسول الله، يا نبي الله، لا مجرد اسمه مثل: يا محمد، ويا أحمد، ويا أبا القاسم. كما يفعل بعضهم لبعض.

وهذا ما أشار إليه قوله تعالى: ((لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً)) [النور: 63].

وهذه الآية تشير إلى أحد المعاني الآتية:
 الأول: أنه نهي عن التعرض لإسخاطه صلى الله عليه وسلم لأنه إذا دعا على شخص فدعوته مستجابة.

الثاني: أنهم أمروا أن يقولوا: يا رسول الله ونهوا أن يقولوا: يا محمد وما يساويها.

الثالث: أنه نهي لهم عن الإبطاء إذا أمرهم والتأخر إذا دعاهم (26).

وقد ذكر أكثر المفسرين هذه التأويلات مع ترجيح واحد منها والسكوت عن المعنيين الآخريين إلا أن ابن عطية (27) رد معنى الأول حيث قال: "ولفظ الآية يدفع هذا المعنى" (28).

وهناك من ذكر التأويلات الثلاثة دون ترجيح إيذاناً بأن الآية تحتمل المعاني الثلاثة.

وقد أيّد كل مفسّر ما ذهب إليه بترجيحات مقبولة ونذكر بعضها هنا:
فمن الذين رجحوا التأويل الثاني الفخر الرازي بعد إيراده التأويل المذكور حيث قال: "والذي يدل على هذا عقب هذا (29): ((فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ)) [النور: 63] وذهب إلى ذلك أيضاً أبو حيان الأندلسي حيث قال بعد إيراده هذا التأويل: "وهذا موافق لمساق الآية ونظمها" (30).

وأمّا من الذين رجحوا القول الثالث فمنهم الإمام ابن كثير -رحمه الله- حيث قال: "وهذا قول وهو الظاهر من السياق كقوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا)) [البقرة: 104] إلى آخر الآية.

وقوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ)) [الحجرات: 2].

إلى قوله: ((إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ)) [الحجرات: 4] إلى آخر الآية، ثم قال: فهذا كله من باب الأدب في مخاطبته صلى الله عليه وسلم والكلام معه كما أمروا بتقديم الصدقة قبل مناجاته" (31).

يقول الأستاذ أبو الأعلى المودودي بعد ذكره الأقوال الثلاثة: "وهذه الوجوه الثلاثة وإن كان كل واحد منها صحيحاً حسب الألفاظ القرآنية، ولكن الوجه الأول (32) هو أقرب إلى نظم الآية عندنا وهو الذي يؤيده قوله تعالى: ((فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ)) [النور: 63] بعد هذه الآية (33).

والذي ينبغي في هذا المقام عدم ترجيح أحد الأقوال على آخر ما دامت ألفاظ الآية تحتمل المعاني المذكورة كلها ولا تعارض بينها وخاصة إذا كان هناك مرجحات مباشرة وغير مباشرة لكل من القولين اللذين أخذ بهما المفسرون.

وأحسن ما قيل في معنى هذه الآية التي نحن بصددها قول ابن قيم الجوزية -رحمه الله- والذي يقول فيه: "إنّ المصدر هنا لم يضف إضافته إلى فاعل ولا مفعول وإنما أضيف إضافة الأسماء المحضة، ويكون المعنى لا تجعلوا الدعاء المتعلق بالرسول المضاف إليه كدعاء بعضكم بعضاً، وعلى هذا فيعم الأمرين معاً ويكون النهي عن دعائهم له باسمه كما يدعو بعضهم بعضاً وعن تأخير إجابته صلى الله عليه وسلم، وعلى كل تقدير أمر الله سبحانه بأن يتميز عن غيره في خطابه ودعائه إياهم، قياماً للأمة بما يجب عليهم من تعظيمه وإجلاله" (34).

وخلاصة القول: إن الغرض الذي من أجله أوردنا هذه الآية هو بيان ما يجب على المسلم أن يتحلى به في ندائه صلى الله عليه وسلم حيث يخفض صوته ويتخير ألفاظ التقدير والتعظيم لندائه بيا رسول الله، ويا نبي الله، يا خير خلق الله. ويدع هذه النداءات السوقية في لفظها وكيفيتها مثل: يا محمد، ويا أحمد، أو كنيته مثل: يا أبا القاسم كما كانوا يفعلونه من قبل، بل بندائه صلى الله عليه وسلم نداء يتناسب مع مقامه ومكانته مثل: يا رسول الله ويا نبي الله اقتداء بما في القرآن من نداء الله سبحانه وتعالى له صلى الله عليه وسلم بحيث أنّ الله -سبحانه وتعالى- لم يناد رسوله في القرآن بمجرد اسمه ولو مرة واحدة وإنما ناداه بصفة النبوة والرسالة وغيرهما من الصفات الثابتة له في القرآن.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- عند كلامه عن حقوق الرسول الزائدة على مجرد التصديق (35) والإيمان:
"ومن ذلك حضّه في المخاطبة بما يليق به فقال: ((لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً)) [النور: 63] فنهى أن يقولوا يا محمد أو يا أحمد أو يا أبا القاسم ولكن يقولوا، يا رسول الله، يا نبي الله، وكيف لا يخاطبونه بذلك والله سبحانه وتعالى أكرمه في مخاطبته إياه مما لم يكرم به أحداً من الأنبياء فلم يناد باسمه في القرآن قط بل يقول: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)) [الأحزاب: 28].

و ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ)) [المائدة: 67].

و ((يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً)) [المزمل: 1-2].

و ((يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ)) [المدثر: 1].

مع أنه سبحانه قد قال: ((وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ)) [البقرة: 35].

 ((يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ)) [هود: 46].

 ((يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا)) [هود: 76].

 ((يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ)) [الأعراف: 144].

 ((يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ)) [ص: 26].

 ((يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ)) [المائدة: 110].

وعلى هذا دلت الآية التي نحن بصددها الغرض الذي من أجله أوردناها وهو الذي يهمنا هنا لاحتمالها احتمالاً قوياً أو المتبادر إلى الفهم كما ذكر ابن القيم -رحمه الله- ولوجود مرجحات غير مجاورة ترجح هذا المعنى كما ذكر ابن كثير في تفسيره، ومرجحاً آخر متقدم ومجاور لهذه الآية يرجح هذا المعنى وهو قوله تعالى: ((وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ)) [النور: 62] كما أفاد الشهيد سيد قطب في تفسيره المسمى في ظلال القرآن إذ أن مناسبة الآية لما بعدها ليست أولى من مناسبتها لما قبلها إن وجدت وهنا وجدت.

يقول الشهيد سيد قطب: "ويلتفت إلى ضرورة توقير الرسول صلى الله عليه وسلم عند الاستئذان وفي كل الأحوال فلا يُدعى باسمه يا محمد أو كُنيته يا أبا القاسم كما يدعو المسلمون بعضهم بعضاً إنما يُدعى بتشريف الله له وتكريمه يا نبي الله، يا رسول الله" (36).



الباب الثاني أنواع الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 49101
العمر : 72

الباب الثاني أنواع الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم Empty
مُساهمةموضوع: رد: الباب الثاني أنواع الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم   الباب الثاني أنواع الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم Emptyالثلاثاء 19 سبتمبر 2023, 9:59 pm

المبحث الثاني: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم:
شرع الله تعالى الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم بقوله سبحانه وتعالى: ((إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)) [الأحزاب: 56].

وقد شمل موضوع الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم حيزاً واسعاً في فكر العلماء وحياة المسلمين مما جعلني أعقد هذا المبحث للوصول إلى الحق فيه.

والأمر هنا يحتاج إلى بيان عدد من النقاط المتصلة بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي:

1- مفهوم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لغة واصطلاحاً.
2- حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
3-- صيغ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
4- مواطن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
5- ثواب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

وسوف تأتي هذه المسائل وفق الترتيب المذكور فما يلي:
تعريف الصلاة لغة واصطلاحاً: الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم غير الصلاة المفروضة التي هي الأقوال والأفعال المفتتحة بالتكبير والمختتمة بالتسليم، ولذلك كان تعريفها ضرورياً لتتضح حقيقتها المرادة من هذا المبحث.

وكما هو منهجي فإني أبدأ بالتعريف اللغوي وبعده يكون التعريف الاصطلاحي.

تعريف الصلاة لغة: يقول الجوهري: "الصلاة: الدعاء" (37).

ويقول الفيروزآبادي: "الصلاة: الدعاء والرحمة الاستغفار" (38).

ويقول صاحب مصباح المنير (39): "الصلاة في اللغة مشتركة بين الدعاء والتعظيم والرحمة والبركة" (40).

وإذا نظرنا إلى التعريفات السابقة للصلاة في اللغة نرى أن لها عدة معان، فى الدعاء وبمعنى التعظيم وبمعنى الرحمة وبمعنى البركة.

وأمّا الصلاة في الاصطلاح الشرعي: فلا تخرج عن معاني اللغة المذكورة إذا قيدت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وبالتالي فمعناها باق على ما كان عليه في الاستعمال اللغوي.

وعلى هذا فلم يذكر العلماء تعريفاً لها عند كلامهم عن هذا الموضوع وإنّما جلّ كلامهم ينصب على التفريق بين صلاة الله وصلاة المخلوقين، ولكن نحاول هنا أن نذكر تعريفاً للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من خلال كلامهم.

يقول الفيروزآبادي: "والصلاة حسن الثناء من الله عز وجل على رسوله -صلى الله عليه وسلم-...." (41).

ويقول الجرجاني بعد تعريفه الصلاة المكتوبة: "والصلاة أيضاً طلب التعظيم بجانب الرسول صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة" (42).

والصلاة في تعريف الفيروزآبادي السابق يتضمن جانباً واحداً وهو إذا كانت الصلاة من الله -عز وجل- وأما جانب المخلوقين فلم يتعرض له ولهذا كان هذا التعريف ناقصاً.

وأما تعريف الجرجاني السابق فمعناه طلب التعظيم للرسول صلى الله عليه وسلم ولكن الطلب يمكن أن يكون طلب أمر وطلب دعاء.

وإذا كان الطلب أمراً فيستقيم في حق الله تعالى-، وأما إذا كان دعاءً فيستقيم في حق المخلوقين دون الله -عز وجل- لأن الدعاء طلب الإعانة من الغير وهذا محال على الله سبحانه وتعالى.

ويلاحظ أن قوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)) [الأحزاب: 56].

يدل على أن الله سبحانه وتعالى، والملائكة يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم بحيث جمع الله صلاته وصلاة الملائكة في فعل واحد وبصيغة الأخبار وأمر المؤمنين بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم.

ولهذا فرّق العلماء بين معنى صلاة الله على النبي صلى الله عليه وسلم ومعنى صلاة المخلوقين حتى يستقيم معنى الصلاة في حق الله عز وجل وحق ملائكته وحق المؤمنين.

ولإزالة هذا الإشكال ذكر العلماء أقوالاً عدة في بيان المعنى المراد من الصلاة على اختلاف فاعلها.

يقول أبو العالية: "صلاة الله عز وجل ثناؤه عليه وصلاة الملائكة عليه الدعاء" (43).

ويقول الضحاك: "صلاة الله رحمته وصلاة الملائكة الدعاء" (44).

ويقول الضحاك أيضاً: " صلاة الله مغفرته وصلاة الملائكة الدعاء " (45).

وإذا نظرنا إلى الأقوال السابقة الواردة في معنى الصلاة نرى أن الصلاة من الله على النبي صلى الله عليه وسلم هي الثناء والرحمة والمغفرة، وأمّا الصلاة من الملائكة فله معنى واحد وهو الدعاء إلا أن هذه الأقوال لا تسلم عن مقال ومآخذ إذ يترتب عليها وجود معنيين على الأقل في فعل واحد وفي استعمال واحد مع أنه أسند إلى الاثنين معاً.

وقد ذكر ابن القيم -رحمه الله- القولين الأخيرين من الأقوال السابقة في معنى الصلاة من جانب الله تعالى وجانب الملائكة وضعفهما وأسهب في ذلك حيث ذكر خمسة عشر وجهاً تدل على ضعفهما.

ومن أحسن ما ضعفهما به قوله: "إن الله سبحانه وتعالى فرّق بين صلاته على عباده ورحمته فقال: ((وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ)) [البقرة: 155-157].

فعطف الرحمة على الصلاة فاقتضى تغايرهما.

هذا أصل العطف، وإن الله سبحانه فرّق بين صلاته وصلاة ملائكته وجمعهما في فعل واحد فقال: ((إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ...)) [الأحزاب: 56].

 وهذه الصلاة لا يجوز أن تكون هي الرحمة وإنّما هي ثناؤه سبحانه وثناء ملائكته عليه، ولا يقال الصلاة لفظ مشترك ويجوز أن يستعمل في معنييه معاً لأنّ في ذلك محاذير متعددة" (46).

ومن هنا نجزم بأنّ صلاة الله وصلاة الملائكة عليه صلى الله عليه وسلم في الآية التي نحن بصددها لها معنى واحد وهو الثناء عليه، وأمّا صلاتنا نحن عليه صلى الله عليه وسلم فهي طلب المزيد من الثناء من الله عز وجل طلب دعاء لا طلب أمر.

يقول الحليمي -رحمه الله-: " فيدل على أنَّ قولنا: اللهم صل على محمد صلاة منّا عليه إنّا لا نملك إيصال ما يعظم به أمره ويعلو به قدره إليه وإنّما ذلك على الله تعالى فيصح أن صلاتنا عليه الدعاء له بذلك وابتغاؤه من الله عز وجل " (47).

وقد أيد ابن القيم هذا الرأي القائل بأنّ صلاتنا هي طلب المزيد من الثناء من الله -عز وجل- حيث قال: "الصلاة المأمور بها فيها هي الطلب من الله ما أخبر به عن صلاته وصلاة ملائكته، وهي ثناء عليه وإظهار لفضله وشرفه وإرادة تكريمه وتقريبه فهي تتضمن الخبر والطلب وسمى هذا السؤال والدعاء منّا نحن صلاة عليه لوجهين:
أحدهما: أنّه يتضمن ثناء المصلي عليه والإشارة بذكر شرفه وفضله والإرادة والمحبة كذلك من الله تعالى، فقد تضمنت الخبر والطلب.

الوجه الثاني: أن ذلك سمي منّا صلاة لسؤالنا من الله أن يصلي عليه فصلاة الله عليه ثناؤه وإرادته لرفع ذكره وتقريبه، وصلاتنا نحن عليه سؤالنا الله تعالى أن يفعل ذلك به وضد هذا في لعنة أعدائه الشائنين لما جاء به فإنها تضاف إلى الله وتضاف إلى العبد كما قال تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ)) [البقرة: 159].

فلعنة الله لهم تتضمن مقته وإبعاده وبغضه لهم ولعنة العبد تتضمن سؤال الله تعالى أن يفعل ذلك بمن هو أهل اللعنة" (48).

وعلى هذا فمعنى صلاة الله -عز وجل- وصلاة الملائكة على النبي صلى الله عليه وسلم الثناء، وأمّا في حق المؤمنين في طلب ذلك الثناء من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم.

حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم:
ذكر السخاوي عن شيخه (49) في حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عشرة أقوال:
القول الأول: إنها مستحبة.
الثاني: إنها واجبة في الجملة بغير حصر لكن أقل ما يحصل به الأجزاء مرة.
الثالث: أنّها تجب في العمر في صلاة أو في غيرها وهي مثل كلمة التوحيد.
الرابع: تجب في القعود مرة آخر الصلاة بين قول التشهد وسلام التحليل.
الخامس: تجب في التشهد فقط.
السادس: تجب في الصلاة من غير تعيين المحل.
السابع: يجب الإكثار منها من غير تقييد بعدد.
الثامن: تجب كلما ذكر صلى الله عليه وسلم.
التاسع: تجب في كل مجلس مرة ولو تكرر ذكره مراراً.
العاشر: تجب في كل دعاء (50).

هذه عشرة أقوال في حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ولكنّها في الحقيقة والواقع قولان:
أولهما: أنّها مستحبة.
ثانيهما: أنّها واجبة ولكن الذين يقولون بوجوبها اختلفوا في عدد المرات وفي المواطن التي تجب فيها حتى بلغت أقوالهم تسعة أقوال إلا أنّ أغلب هذه الأقوال متعلقة بالمواطن التي تجب الصلاة فيها.

وأصح ما قيل في حكمها أنّها تجب في الجملة بدون تقييد بعدد أو وقت مع مراعاة المواطن التي يتأكد وجوبها أو استحبابها.

يقول صاحب بهجة المحافل (51): "وأما حكمها فهي واجبة إجماعاً للآية الكريمة (52) لكنّه غير محدد بوقت ولا عدد" (53).

وهذا الإجماع الذي ادعاه فيه نظر لأنّ من العلماء من يقول باستحبابها مطلقاً إلاّ إذا حملنا الاستحباب بما زاد على المرة الواحدة.

يقول السخاوي: "وقد أول بعض العلماء هذا القول بما زاد على المرة الواحدة وهو متعين والله أعلم" (54).

صيغ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم صيغ كثيرة ذكرها العلماء في كتبهم يروونها عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد بعضها صحيحة وبعضها حسنة وبعضها ضعيفة أو يلفقونها مما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من صيغ الصلاة أو يؤلفونها من عندهم.

وهنا نكتفي بذكر الصيغ الصحيحة لأنّ الغرض يتم بها وأمّا غيرها من الصيغ الضعيفة أو الملفقة فلا يتم بها بل نص بعض العلماء على عدم جوازها لعدم ثبوتها عن النبي صلى الله عليه وسلم من ناحية السند أو بالكيفية الملفقة.

وعلى هذا فلا بد للمسلم أن يلتزم بالصيغ المأثورة الصحيحة أو الحسنة.

وقد ذكر الشيخ ناصر الدين الألباني سبع صيغ صحيحة للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (55).

ونذكر هذه الصيغ كما وردت في كتابه " صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وبنفس الترتيب:
الصيغة الأولى: عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنّه كان يقول: "اللهم صلّ على محمد وعلى أهل بيته وعلى أزواجه وذريته كما صليت على آل أبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل بيته وعلى أزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنّك حميد مجيد" (56).

الصيغة الثانية: عن كعب بن عجرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد" (57).

الصيغة الثالثة: عن طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله كيف الصلاة عليك؟ قال: قل: " اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد " (58).

الصيغة الرابعة: عن أبي مسعود الأنصاري -رضي الله عنه- قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس عبادة فقال بشير بن سعد: أمرنا الله أن نصلي عليك يا رسول الله، فكيف نصلي عليك؟ قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تمنينا أنّه لم يسأله، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا: "اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنّك حميد مجيد" (59).

الصيغة الخامسة: عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قلنا يا رسول الله هذا السلام عليك، فكيف الصلاة عليك؟ قال: قولوا: "اللهم صلّ على محمد عبدك ورسولك كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم" (60).

الصيغة السادسة: عن أبي حميد الساعدي -رضي الله عنه- أنّهم قالوا: يا رسول الله كيف نصلّي عليك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قولوا: "اللهم صلّ على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنّك حميد مجيد" (61).

الصيغة السابعة: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف نصلي عليك؟ قال: قولوا: "اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد" (62).

هذه هي صيغ الصلاة التي علّمها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بعد ما سألوا عنها والتي وردت بأسانيد صحيحة كما بينّا، ولهذا ذهب بعض العلماء على التزامها دون تغيير أو تلفيق لأنّها أفضل الكيفيات في الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم يقول السخاوي: "استدل بتعليمه صلى الله عليه وسلم لأصحابه كيفية الصلاة عليه بعد سؤالهم عنها أنّها أفضل الكيفيات؛ لأنّه لا يختار لنفسه إلا الأشرف والأفضل، ويترتب على ذلك لو حلف أن يصلي عليه أفضل الصلوات فطريق البر أن يأتي بذلك" (63).

ومع ورود هذه الصيغ الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد أجاز بعض العلماء الصلاة عليه بلفظ جميل: يقول الفاكهي (64): "ونقل ابن مندة عن جمع من الصحابة وغيرهم أنّ من رزقه الله بياناً شافياً عن المعاني الصحيحة بالألفاظ الفصيحة فأبان عن الشرف النبوي كان كمن سلك السنن السنية" (65).

وجاء في كتاب حسن التوسل: "والصلاة بلفظ صلى الله عليه وسلم أمر حسن متضمن للبلاغة والإيجاز الموفي بالمقصود على أكمل وجه (66) ولذا تواطأ المؤلفون وغيرهم من العلماء المتقدمين والمتأخرين على التزامها" (67).

وأمّا التلفيق بين صيغ الصلاة فقد استحسنه بعض العلماء وكرهه بعضهم.

ومن الذين استحسنوه الإمام النووي -رحمه الله- حيث يقول: "وينبغي أن يجمع ما في الأحاديث الصحيحة فيقول: "اللهم صل على محمد عبدك ورسولك النبي الأمي وعلى آل محمد وأزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد وأزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنّك حميد مجيد" (68).

ومع هذا - فقد فاته شيء، ولعلها توازي قدر ما زاده وتزيد عليه كما ذكر السخاوي عن شيخه ابن حجر العسقلاني مثل قوله: عبدك ورسولك ومثل قوله في العالمين في الأولى ومثل قوله: "اللهم صلّ وبارك لأنهما ثبتا معاً وغير ذلك" (69).

وأما الذين كرهوا التلفيق بين صيغ الصلاة فمنهم ابن تيمية -رحمه الله- حيث يقول: " ولبعض المتأخرين في بعض هذه الأدعية والأذكار التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقولها ويعلمها بألفاظ متنوعة ورويت بألفاظ متنوعة طريقة محدثة بأن جمع تلك الألفاظ واستحب ورأى ذلك أفضل ما يقال فيها مثال الحديث الذي في الصحيحين (70) عن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- أنّه سأل رسول الله: علِّمني دعاء أدعو به في صلاتي قال: "اللهم إنّي ظلمت نفسي ظلماً كثيراً..." قد روي كثيراً وروي كبيراً فيقول هذا القائل يستحب أن يقول كثيراً كبيراً وكذلك إذا روي: "اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد" وروي "اللهم صلّ على محمد وعلى أزواجه وذريته" وأمثال ذلك، وهذه طريقة محدثة لم يسبق إليها أحد من الأئمة المعروفين وطرد هذه الطريقة أن يذكر التشهد بجميع هذه الألفاظ المأثورة وأن يقال الاستفتاح بجميع الألفاظ المأثورة، وهذا مع أنّه مخالف لعمل المسلمين لم يستحبه أحد من أئمتهم، بل عملوا بخلافه فهو بدعة في الشريعة، فاسد في العقل، ثم قال: إذ قال هذا تارة على آل محمد وتارة على أزواجه وذريته كان حسناً..." (71).

وتبعه في ذلك تلميذه ابن قيم الجوزية -رحمه الله- حيث يقول: "إنّ هذه الطريقة -أي طريقة التلفيق بين جمع صيغ الصلاة طريقة محدثة لم يسبق إليها أحد من الأئمة المعروفين وأنّ صاحبها إن طردها لزمه أن يستحب للمصلي أن يستفتح بجميع الاستفتاحات وأن يستشهد بجميع التشهدات وأن يقول في ركوعه وسجوده جميع الأذكار الواردة فيه، وهذا باطل فإنه خلاف عمل الناس ولم يستحبه أحد من أهل العلم وهو بدعة وإن لم يطردها تناقض وفرق بين متماثلين" (72).

والرأي الأخير هو الأصح لأن هذه الصيغ تثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الكيفية وأنه علّم أصحابه بهذه الكيفية، بعد ما سألوه عنها ولأن التلفيق يترتب عنه صيغة مصطنعة مؤتلفة لم يقل بها الرسول صلى الله عليه وسلم وعلينا الاتباع لا الابتداع.

هذا ما يتعلق بصيغ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم قولاً. وأما الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم كتابة فقد اصطلح المؤلفون على كتابة عبارة " صلى الله عليه وسلم " بعد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم.

ولذلك يكره أن يقتصر على الصلاة دون السلام أو السلام دون الصلاة كما أنه يكره أن يرمز إليهما بحرفين أو نحو ذلك مثل صعم أو "صلعم" أو "ص" أو "صلم" وما شابه ذلك.

يقول ابن كثير -رحمه الله تعالى- نقلاً عن ابن الصلاح: "وليحافظ على الثناء على الله عز وجل والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن تكرر فلا يسأم فإن فيه خيراً كثيراً. بحيث يكتب الصلاة والتسليم كاملة لا رمزاً ولا يقتصر على قوله "عليه السلام" يعني وليكتب "صلى الله عليه وسلم" واضحة كاملة (73).

ومستند الجمع بين الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بهما معاً في قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)) [الأحزاب: 56].

ومعنى السلام فقيل السلام الذي هو اسم من أسماء الله عليك وتأويله لا خلوت من الخيرات والبركات وسلمت من المكاره والآفات... ويحتمل أن يكون بمعنى السلام أي ليكن قضاء الله عليك السلام وهو السلامة كالمقام والمقامة... أي يسلمك الله من الملام والنقائص... ويحتمل أن يكون بمعنى المسالمة له والانقياد (74).

وأما حكم السلام عليه صلى الله عليه وسلم فتابع لحكم الصلاة عليه لأمر الوارد بهما معاً في الآية السابقة.

وأما صيغة السلام عليه فهي "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته الواردة في التشهد" كما هو الظاهر (75).

وأما مواطنها المتفق عليها فهي في التشهد وعند زيارة قبره صلى الله عليه وسلم بأبي وأمي.

وأما ثوابها فتشترك الصلاة في كثير من ذلك.

مواطن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: ذكر العلماء مواطن كثيرة للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فمنهم من ذكر أربعين موطناً كابن قيم الجوزية -رحمه الله تعالى- في جلاء الأفهام (76)، وكذلك السخاوي في القول البديع (77) نحو عدد المواطن التي ذكرها ابن القيم.

ومنهم من ذكر اثنين وثلاثين موطناً كصاحب بهجة المحافل (78).

ونذكر هنا أهم ما صح من هذه المواطن وخاصة المرفوع من ذلك:
الموطن الأول: في الصلوات عامة بعد التشهد لحديث فضالة بن عبيد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو في صلاته لم يمجد الله ولم يصلّ على النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عجل هذا، ثم دعاه فقال له ولغيره: "إذا صلّى أحدكم فليبدأ بتمجيد اللّه والثناء عليه ثم يصلّي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو بعد بما شاء" (79).

وهذا الحديث يدل في منطوقه على أنّ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مطلوبة في الصلاة.

الموطن الثاني: صلاة الجنازة بعد التكبيرة الثانية: لحديث الزهري قال: سمعت أبا أمامة بن سهل بن حنيف يحدث سعيد بن المسيب قال: "إن السُّنَّة في صلاة الجنازة أن يقرأ بفاتحة الكتاب، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يخلص الدعاء للميت متى يفرغ ولا يقرأ إلا مرّة واحدة ثم يسلم في نفسه" (80).

الموطن الثالث: عقب إجابة المؤذن: لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أنّه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا سمع المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلّوا عليّ فإنّ من صلّى عليّ صلاة صلّى الله عليه بها عشراً ثم سلوا لي الوسيلة فإنَّها منزلة في الجنة، لا تنبغي إلاّ لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت له شفاعتي" (81).

وهذه الصلاة ينبغي أن يقولها القائل سرّاً لا جهراً خلافاً لما يفعله الناس وخاصة المؤذنون من الجهر بالآية (82) ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

يقول الشيخ ناصر الدين الألباني: "ومن العجيب أن ترى بعض المتهاونين بهذه السنن أشد الناس تعصباً وتمسكاً ببدعة جهر المؤذن بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عقب الأذان مع كونه بدعة اتفاقاً، فإن كانوا يفعلون ذلك حبّاً بالنبي صلى الله عليه وسلم فهلا اتبعوه في هذه السُّنَّة (83) وتركوا تلك البدعة" (84).

الموطن الرابع: طوال يوم الجمعة: لحديث أوس بن أوس -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ من أفضل أيامكم يوم الجمعة فأكثروا عليّ من الصلاة فيه، فإنّ صلاتكم معروضة عليّ"، فقالوا: يا رسول الله وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ قال: "يقول بليت؟ قال: إن الله حرّم على الأرض أجساد الأنبياء" (85).

الموطن الخامس: في كل مجلس: لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- موقوفاً عليه قال: "ما جلس قوم مجلساً ثم تفرقوا قبل أن يذكروا الله ويصلوا عليه فيه إلاّ كان عليهم حسرة يوم القيامة" (86).

الموطن السادس: كلما ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم: لقوله صلى الله عليه وسلم: "البخيل من ذكرت عنده فلم يصلّ عليّ.." (87).

ثواب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: ذكر العلماء ثواباً كثيراً للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فمنهم من ذكر ما يقارب أربعين ثواباً كابن القيم -رحمه الله- في جلاء الأفهام (88)، والسخاوي في القول البديع (89).

وهذا الثواب المذكور منه ما يستند إلى دليل صحيح، ومنه ما يستند إلى أدلةٍ ضعيفة، كما أنّ بعضاً منه يدخل في بعض الآخر.

وأذكر هنا أهم ما ذكره العلماء:
أولها: كتابة عشر حسنات لمن صلّى عليه صلى الله عليه وسلم صلاة واحدة لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- أنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "... من صلّى عليّ صلاة صلّى الله عليه بها عشراً" (90).

ولحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ صلّى عليَّ صلاة واحدة صلّى الله عليه عشراً" (91).

ثانيها: محو عشر سيئات عمن صلّى على النبي صلى الله عليه وسلم لحديث عبد الرحمن بن عمرو قال: "من صلّى على النبي صلى الله عليه وسلم كتب الله له عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات..." (92).

ثالثها: رفع عشر درجات لمن صلى عليه صلى الله عليه وسلم لحديث عبد الرحمن بن عمرو قال: "من صلّى على النبي صلى الله عليه وسلم كتب الله له عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات" (93).

رابعها: مغفرة الذنب كله لمن صلّى على النبي صلى الله عليه وسلم لحديث أبي بن كعب -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج في ثلثي الليل فيقول: "جاءت الراجفة تتبعها الرادفة جاء الموت بما فيه "وقال أبيّ: يا رسول الله إنّي أصلّي من الليل أفأجعل لك ثلث صلاتي؟ (94) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشطر قال: أفأجعل لك شطر صلاتي؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الثلثان أكثر، قال: أفأجعل لك صلاتي كلها؟ قال: أذن يغفر لك ذنبك كله" (95).

خامسها: القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة لحديث ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليّ صلاة" (96).

سادسها: أن من صلّى عليه صلى الله عليه وسلم عند ذكره ينجو من أن يوصف بالبخل لحديث علي -رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "البخيل من ذكرت عنده فلم يصلّ علىّ" (97).

سابعها: أنّه من صلى عليه لا يخطئ أبواب الجنة لحديث ابن عباس -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ينسى الصلاة عليَّ خطئ طريق الجنة" (98).

وهذان الحديثان الأخيران يدلان على الثواب بدليل المخالفة.

ثامنها: أنها سبب لشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرنها بسؤال الوسيلة له.

لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلّوا عليَّ فإن مَنْ صلّى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً ثم سلوا لي الوسيلة فإنها مترلة في الجنة لا تنبغي إلاّ لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلّت له شفاعتي" (99).

----------------------------------------------
1.    تفسير الفخر الرازي: (24/249).
2.    تفسير الفخر الرازي: (22/46).
3.    في ديوانه: (89).
4.    صحيح البخاري، كتاب الطب، باب من البيان سحرا (4/21).
5.    روضة العقلاء ونزهة الفضلاء: (219).
6.    تفسير الفحر الرازي: (22/47).
7.    تفسير القرآن العظيم: (4/205).
8.    تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان للنيسابوري (26/57).
9.    في ظلال القرآن: (6/3339).
10.    الصارم المسلول على شاتم الرشول (ص:423).
11.    زاد المسير (8/457).
12.    التسهيل (4/104).
13.    الإنصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال الذي بهامش الكشاني (3/556).
14.    صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب حفد اللسان (4/126).
15.    الحاكم في مستدركه (2/462)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
16.    صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة الحجرات (3/191).
17.    في ظلال القرآن: (6/3339).
18.    أحكام القرآن لابن العربي: (4/1702- 1703).
19.    صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب رفع الصوت في المسجد (1/93).
20.    أضواء البيان: (7/617).
21.    أحكام القرآن للجصاص (3/398).
22.    تفسير الفخر الرازي: (28/113).
23.    الدر المنثور بالتفسير بالمأثور للسيوطي، (7/552)، وقال السيوطي: رواه أحمد والطبراني وغيرهما بسند صحيح.
24.    تفسير القرآن العظيم: (4/208).
25.    تفسير القرآن العظيم: (4/208).
26.    انظر زاد المسير (6/68).
27.    هو عبد الحق بن غالب المعروف بابن عطية المتوفى سنة (541هـ) انظر ترجمته في طبقات المفسرين للداودي (1/260-261).
28.    انظر البحر المحيط: (6/476).
29.    تفسير الفخر الرازي (24/40).
30.    البحر المحيط: (6/476).
31.    تفسير القرآن العظيم: (3/306-307).
32.    الثاني عندنا.
33.    تفسير سورة النور (ص:231).
34.    جلاء الأفهام: (ص:235).
35.    الصارم المسلول (ص:422-423) بتصرف.
36.    في ظلال القرآن: (4/2535).
37.    الصحاح (6/2402).
38.    القاموس المحيط (4/335).
39.    وتأتي ترجمته في (ص:261).
40.    مصباح المنير (1/371).
41.    القاموس المحيط: (1/371).
42.    كتاب التعريفات: (139).
43.    انظر فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص:80) للقاضي إسماعيل الجهضمي.
44.    انظر المصدر السابق: (80-81).
45.    انظر المصدر السابق: (80-81).
46.    جلاء الأفهام: (ص:83).
47.    المنهاج في شعب الإيمان: (2/134).
48.    جلاء الأفهام: (ص:86).
49.    يقصد به الحافظ ابن حجر العسقلاني كما صرح به السخاوي نفسه في آخر القول البديع (ص:264).
50.    انظر القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع (ص:14) وما بعدها.
51.    هو عماد الدين يحيى بن أبي بكر العامري.
52.    وهي قوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)) [الأحزاب:56].
53.    بهجة المحافل وبغية الأماثل (2/416).
54.    القول البديع (ص:14).
55.    صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم (ص:146) وما بعدها، وانظر فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بتحقيق الألباني هامش (ص:54).
56.    أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار (3/74)، وذكر السخاوي هذه الرواية في القول البديع (ص:42)، وصحيح الألباني هذه الرواية بعد عزوه إلى الإمام أحمد والطحاوي في صفة صلاة النبي (ص:147).
57.    صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب قوله تعالى: (إن الله وملائكته يصلون على النبي.) (3/178)، وصحيح مسلم، كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد (1/305).
58.    أخرجه الإمام أحمد في مسنده (1/162)، والنسائي في سننه (1/190) وقد ذكر ابن القيم هذه الرواية في جلاء الأفهام (ص:9) والسخاوي في القول البديع (ص:34) بألفاظ متقاربة، وصحح الألباني هذه الرواية في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم (ص:147) بعد عزوها إلى الإمام أحمد والنسائي وغيرهما.
59.    أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد (1/305).
60.    أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب قوله تعالى: (إن الله وملائكته يصلون على النبي.) (3/178).
61.    صحيح البخاري، كتاب الأنبياء باب يزفون القسلان في المشي (2/239)، وصحيح مسلم، كتاب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد (1/306).
62.    أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار (3/75)، وقد ذكر ابن القيم في جلاء الأفهام (ص:13) هذه الصيغة وصححها، وكذلك السخاوي في القول البديع (ص:40) وصححها، والألباني في صفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص:148)، وصححها بعد عزوها إلى الطحاوي وغيره.
63.    القول البديع (ص:47).
64.    حسن التوسل: (ص:196).
65.    حسن التوسل في آداب زيارة أفضل الرسل (ص:196).
66.    ففيه نظر، لأنها لم تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكيفية، والأكمل ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم لا غير وخاصة في الأمور الدينية. وهذا الاعتراض يرد أيضاً على قول الفاكهي السابق المبني على نقل ابن مندة عن جمع من الصحابة وغيرهم.
67.    هو عبد الله بن أحمد الفاكهي المتوفي سنة (972هـ). انظر ترجمته في الأعلام (4/193).
68.    المجموع شرح المهذب (3/447).
69.    انظر القول البديع (ص:61-62).
70.    الحديث في صحيح البخاري، كتاب صفة الصلاة، باب الدعاء قبل السلام (1/151)، وفي صحيح مسلم، في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب أستحباب خفض الصوت بالذكر (4/2078).
71.    مجموع الفتاوي (1/161-162).
72.    جلاء الأفهام: (ص:190).
73.    انظر الباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث للحافظ ابن كثير (ص:135-136).
74.    القول البديع: (67-68).
75.    انظر المصدر السابق: (66).
76.    انظر (ص:193) وما بعدها.
77.    انظر (ص:170) وما بعدها.
78.    انظر بهجة المحافل. (2/416-417).
79.    رواه الإمام أحمد في مسنده (6/18)، وحسنه الألباني، في تعليقاته على كتاب فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم انظر هامش (ص:86).
80.    أخرجه الحاكم في مستدركه (1/360) وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.
81.    صحيح مسلم، كتاب الصلاة، باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسأل الله له الوسيلة (1/288).
82.    وهي قوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)) [الأحزاب:56].
83.    وهي أن يقولوا مثل ما يقول المؤذن ثم يصلّوا على النبي صلى الله عليه وسلم سراً.
84.    انظر فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم للقاضي إسماعيل بن إسحاق الجهضمي هامش (ص:50).
85.    الحاكم في مستدركه (1/278) وصححه ووافقه الذهبي.
86.    رواه الحاكم في مستدركه (1/492).
87.    أخرجه الحاكم في مستدركه (1/549) وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.
88.    انظر (ص:262) وما بعدها.
89.    انظر (ص:151) وما بعدها.
90.    صحيح مسلم، (1/288-289) وقد تقدم في (ص:209).
91.    رواه إسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص:26)، وصحح الألباني إسناد هذا الحديث في تعليقاته على الكتاب المذكور. انظر هامش (ص:26).
92.    رواه إسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص:38). وقال الألباني في تعليقاته على الكتاب المذكور إسناده ضعيف، لكن له شاهد مرفوع عن أنس، أخرجه النسائي وغيره بسند صحيح. انظر هامش (ص:28)، قلت: رواية أنس التي أشار إليها هي بلفظ: "من صلى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه عشر صلوات، وحطت عنه عشر خطيئات، ورفعت له عشر درجات". سنن النسائي في كتاب السهو، باب الفضل في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (3/50).
93.    الحديث هو نفس الحديث الذي قبله.
94.    صلاتي هنا تعني دعائي.
95.    أخرجه إسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (29-30) وقال الألباني: حديث جيد. انظر فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم هامش (ص:30).
96.    رواه الترمذي في سننه، أبواب التطوع، باب ما جاء في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (2/302)، وقال: هذا حديث حسن غريب.
97.    أخرجه الحاكم في مستدركه (1/549) وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.
98.    رواه ابن ماجة في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (1/294)، وقال الألباني والحديث يرتقي إلى درجة الحسن على أقل الدرجات. انظر فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم هامش (45).
99.    صحيح مسلم (1/288-289) وقد تقدم في (ص:209)، وفي (ص:211) أيضاً.



الباب الثاني أنواع الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 49101
العمر : 72

الباب الثاني أنواع الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم Empty
مُساهمةموضوع: رد: الباب الثاني أنواع الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم   الباب الثاني أنواع الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم Emptyالثلاثاء 19 سبتمبر 2023, 10:02 pm

الفصل الثالث
الأدب العملي
في بداية هذا الباب قسمت الأدب إلى ثلاثة أنواع وذكرت في الفصلين السابقين نوعين منها وهما الأدب القلبي والأدب القولي، وفي هذا الفصل سوف أتحدث عن النوع الثالث والأخير وهو الأدب الفعلي والعملي، ونقصد بالأدب العملي الأدب الذي يتعلق بالجوارح، ويكون عملياً محسوساً.

وبذا يتكون هذا الفصل من مبحثين:
المبحث الأول: الطاعة والاتباع.
المبحث الثاني: مجالسته صلى الله عليه وسلم.

المبحث الأول: الطاعة والاتباع:
وردت طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم مرّات كثيرة بصيغ مختلفة، حيث جاءت أمراً بطاعته ونهياً عن مخالفته، وإخباراً بأن طاعته صلى الله عليه وسلم يترتب عليها ثواباً عظيم في الدنيا والآخرة.

والصيغ التي تدل على أنّ طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة على الأمة هي صيغتا الأمر بطاعته والنهي عن مخالفته أو ما يجري مجراهما من تحذير عن مخالفته أو توعد بعقاب لمن يخالف.

وأمّا الصيغة الأولى وهي الأمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فقد وردت في القرآن الكريم مقترنة بطاعة الله مع تكرير الفعل "أطيعوا" مرة مع الله، ومرة مع الرسول صلى الله عليه وسلم.

يقول تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)) [النساء: 59].

ومرة بعدم تكرير الفعل مثل قوله تعالى: ((يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ)) [الأنفال: 1].

ولكل من التعبيرين مدلول خاص كما ذكر المفسرون قائلين: إذا كان الفعل أطيعوا متكرراً يفيد على أن للرسول صلى الله عليه وسلم نوع استقلال من الطاعة مثل قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)) [النساء: 59].

يقول الألوسي -رحمه الله- في تفسيره هذه الآية: "وأعاد الفعل وإن كانت طاعة الرسول مقترنة بطاعة الله تعالى اعتناء بشأنه -عليه الصلاة والسلام- وقطعاً لتوهم أنه لا يحب امتثال ما ليس في القرآن وإيذاناً بأن له صلى الله عليه وسلم استقلالاً بالطاعة لم يثبت لغيره من البشر ومن ثم لم يعد في قوله سبحانه: ((وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ)) [النساء: 59] ايذاناً بأنهم لا استقلال لهم فيها استقلال الرسول صلى الله عليه وسلم (1).

وقد حذّر الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذا المفهوم الخاطىء وهو الاكتفاء بما جاء في القرآن دون الرجوع إلى السُّنَّة المبينة للقرآن الكريم بقوله -صلى الله عليه وسلم-.

"لا ألفين أحداً متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه" (2).

وفي رواية المقدام زيادة: "ألا وإن ما حرّم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرم الله" (3).

وأمّا إذا كانت الفعل غير متكرر مثل قوله تعالى: ((يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ)) [الأنفال: 1].
 
فيفيد أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي طاعة الله تعالى.

يقول الألوسي -رحمه الله- في تفسيره هذه الآية: "وذكر الرسول صلى الله عليه وسلم مع الله -تعالى- أولاً وآخراً لتعظيم شأنه وإظهار شرفه والإيذان بأن طاعته عليه الصلاة والسلام -طاعة الله تعالى، وقال غير واحد أنّ الجمع بين الله -تعالى- ورسوله صلى الله عليه وسلم أولاً لأن اختصاص الله تعالى بالأمر والرسول صلى الله عليه وسلم بالامتثال" (4).

ومما يدل على هذا المعنى قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ)) [الأنفال: 20] حيث أفرد الضمير وأعيد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم دون الله -عز وجل- بعد الأمر بطاعتهما معاً لأنّ الضمير يرجع إلى أقرب المذكور كما هو معروف في علم النحو للإشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم هو الوسيلة بين الله وبين خلقه في تبليغ مراد الله تعالى وبيانه، وأنّ طاعته صلى الله عليه وسلم طاعة لله على غرار قوله تعالى: ((مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)) [النساء: 80].

يقول الألوسي -رحمه الله-: "وأعيد الضمير إليه -عليـه الصلاة والسلام- لأنّ المقصود طاعته صلى الله عليه وسلم وذكر طاعة الله توطئة لطاعته وهي مستلزمة لطاعة الله -تعالى- لأنّه مبلغ عنه فكان الراجع إليه كالراجع إلى الله تعالى" (5).

ومن هذه النماذج التي ذكرناها سابقاً في موضوع طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم يتبين لنا أنّ طاعته صلى الله عليه وسلم واجبة على كل مسلم في كل أمر من الأمور سواء كان ذلك الأمر ثبت بالقرآن أو بالسُّنَّة لأنّ طاعته طاعة الله تعالى كما يدل عليه قوله تعالى: ((مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)) [النساء: 80] ولأنه صلى الله عليه وسلم لا يتكلم عن الهوى وإنما عن وحي من الله -سبحانه وتعالى- ((وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى)) [النجم: 3-4].

ويدخل في مفهوم طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم اتباعه لأنّ مدلول الاتباع والطاعة يكادْ يكون واحداً حيث أنها من المترادفات وشأن المترادفات أن يكون معناها واحداً مع وجود فروق طفيفة مثل كلمتي قعد وجلس حيث أن الأولى من الاضطجاع والثانية من القيام مع أنّ مدلولهما واحد.

وهكذا شأن كل المترادفات، وأما كلمتي الاتباع والطاعة، فقد ذكر أبو هلال العسكري -عند كلامه عن الفرق بين العبادة والطاعة- أنّ مدلول الاتباع والطاعة واحد فقال: "والطاعة الفعل الواقع على حسب ما أراده المريد متى كان المريد أعلى رتبة ممن يفعل ذلك وتكون للخالق والمخلوق والعبادة لا تكون إلا للخالق، والطاعة في مجاز اللّغة تكون اتباع المدعو والداعي إلى ما دعاه إليه وإن لم يقصد التبع كالإنسان يكون مطيعاً للشيطان وإن لم يقصد أن يطيعه ولكنّه اتبع دعاءه وإرادته" (6).

وكلام أبي هلال العسكري يفيد أن الاتباع والطاعة يؤديان معنى واحداً تجوزاً كما أنّهما يكونان عن قصد وعن غير قصد، وحديثي هنا يدور حول الاتباع والطاعة التي يكون عن قصد وإرادة من صاحبها مع نيّة صالحة لأنّ المنافق هو الذي يظهر اتباع الرسول ويبطن مخالفته، وعلى هذا نفى الله سبحانه وتعالى عنهم سمة الإيمان في قوله تعالى: ((وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ)) [النور: 47].

ومع أن الاتباع والطاعة معناهما واحد كما ذكرنا إلاّ أننا نذكر هنا النصوص التي وردت بصيغة الاتباع أو ما يجري مجراها.

وقد وردت نصوص كثيرة من القرآن والسُّنَّة التي تأمرنا تارة باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وتارة باتباع طريقة الله التي هي طريقته وتارة باتباع القرآن.

من الآيات التي تدل على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: ((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ)) [آل عمران: 31].

وقوله تعالى: ((فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)) [الأعراف: 158].

وأمّا ما يدل على وجوب اتباع طريقة الله التي هي طريقته فمنه قوله تعالى: ((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) [الأنعام: 153].

وقد ورد في السُّنَّة ما يبين معنى هذه الآية وهي ما أخرجه الحاكم في مستدركه عن عبد الله -هو ابن مسعود- (7)  قـال: خـط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً بيده ثم قال: هذا سبيل الله مستقيماً وخط عن يمينه وشماله خطوطاً ثم قال: "هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعوا إليه ثم قرأ: ((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)) [الأنعام: 153].

وأمّا ما يدل على وجوب اتباع القرآن فمنه قوله تعالى: ((وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)) [الأنعام: 155] (8).

يقول ابن كثير -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: " فيه الدعوة إلى اتباع القرآن يرغب سبحانه عباده في كتابه ويأمرهم بتدبره والعمل به والدعوة إليه ووصفه بالبركة لمن اتبعه وعمل به في الدنيا والآخرة " (9).

ومجموع هذه النصوص من القرآن والسُّنَّة التي أوردناها في موضوع الاتباع كلما تفيد على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم سواء كانت تتعلق باتباع سبيل الله أو اتباع القرآن لأن اتباع سبيل الله اتباع سبيله صلى الله عليه وسلم لأنه هو الداعي إلى ذلك.

قال تعالى: ((قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي)) [يوسف: 108].

وكذلك فاتباع القرآن هو اتباعه صلى الله عليه وسلم لأنّه هو المبلغ عن الله سبحانه وتعالى.

قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)) [المائدة: 67].

هذا ما يتعلق بموضوع وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه الواردة بصيغة الأمر، وأمّا الآن فسوف نتحدث عن وجوب الانتهاء عن مخالفته صلى الله عليه وسلم وهي طريقة أخرى لوجوب اتباعه لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده وكذلك العكس.

وقد ورد في هذا المعنى آيات كثيرة: منها قوله تعالى: ((فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) [النور: 63].

ومنها قوله تعالى: ((وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً)) [الأحزاب: 36].

ومنها قوله تعالى: ((وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)) [الحشر: 7].

ومجموع هذه الآيات التي أوردناها تدل على حرمة مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم.

ومن هذا المعنى أي مخالفة أمره التقدم بين يديه صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)) [الحجرات: 1].

وقد ذكر المفسرون عدة أسباب لنزول هذه الآية التي تبين المعاني المختلفة للتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الأوجه التي يحصل بها التقدم بين يديه صلى الله عليه وسلم.

منها كما ذكر ابن العربي: أنّ قوماً كانوا يقولون: لو أنزل في كذا وكذا فأنزل الله هذه الآية.

ومنها -نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه.

ومنها - لا تفتاتوا على الله ورسوله في أمر حتى يقضي الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.

ومنها - أنها نزلت في قوم ذبحوا قبل أن يصلي النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم أن يعيدوا الذبح.

ومنها - لا تقدموا أعمال الطاعة على وقتها (10).

قال القاضي: "هذه الأقوال كلها صحيحة تدخل تحت العموم فالله أعلم بما كان السبب المثير للآية ولعلها نزلت دون سبب" (11).

وقال أيضاً: "هذه الآية أصل في ترك التعرض لأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وإيجاب اتباعه والاقتداء به" (12).

نعم، هذه الوجوه المذكورة في أسباب نزول الآية محتملة وكلها تفسر الآية من زاوية معينة، كما أنّها تحتمل وجوهاً أخرى لم يذكرها ومجمل معناها هو وجوب الانتهاء عن التقدم بين يدي الله ورسوله في كل أمر من الأمور حتى يقضي الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في حال حياته، وأمّا بعد مماته فمعناها وجوب الانتهاء عن التقدم بين يدي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في كل أمر من الأمور الدنيوية والأخروية.

يقول ابن القيم -رحمه الله-: "ومن الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم أن لا يتقدم بين يديه بأمر ولا نهي، ولا إذن ولا تصرف حتى يأمره وينهي ويأذن كما قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)) [الحجرات: 1]، وهذا باق إلى يوم القيامة لم ينسخ، فالتقدم بين يدي سنته بعد وفاته كالتقدم بين يديه في حياته ولا فرق بينهما عند كل ذي عقل سليم" (13).

وممّا يدخل في هذا المعنى أي التِقدم بين يدي رسوله صلى الله عليه وسلم تقديم القوانين الوضعية على الشريعة الإسلامية في هذا العصر حتى لو لم يصرّح واضعو هذه القوانين أو الذين استوردوها أنها أفضل من الشريعة الإسلامية أو لا، لأن مجرد إقصاء الشريعة الإسلامية عن الحياة البشرية ووضع القوانين الوضعية مكانها وإجبار الناس على التحاكم إليها والتوعد لمن يخالفها بالعقاب الشديد وإن خالفت الشريعة الإسلامية مخالفة صريحة كما هو مشاهد في واقعنا اليوم، وكذلك إذا وافقت الشريعة الإسلامية لاختلاف مصدر تلقيهما لأن هذه مصدرها هو الله -سبحانه وتعالى- وبواسطة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلك مصدرها الطاغوت وهوى النفس الأمارة بالسوء وإن زعم أصحابها أنهم يؤمنون بالله ورسوله مئات المرات.

وكيف يكون لهم إيمان بعد قوله تعالى: ((فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)) [النساء: 65].

وقوله تعالى: ((وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ)) [المائدة: 44].

يقول الشنقيطي في تفسيره الآية التي نحن بصددها: "وهذه الآية الكريمة فيها التصريح بالنهي عن التقدم بين يدي الله ورسوله ويدخل دخولاً أولياً تشريع ما لم يأذن به الله وتحريم ما لم يحرمه وتحليل ما لم يحلله لأنه لا حرام إلاّ ما حرمه الله ولا حلال إلا ما حلله الله ولا شرع إلا ما شرعه الله" (14).

ويقول الإمام ابن كثير -رحمه الله- عند تفسير قوله تعالى: ((أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)) [المائدة: 50].

"ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير الناهي عن كل شر وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهـداف والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يصنعونها بآَرائهم وأهوائهم وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم "جنكز خان" الذي وضع لهم "الياسق" وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه فصارت في بيئته شرعاً متبعاً يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكم في سواه في قليل ولا كثير" (15).

ثواب الاتباع والطاعة: طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه يترتب عليها ثواب كثير في الدنيا والآخرة.
وقد ورد في القرآن الكريم ما يدل على ذلك نذكر طرفاً منها.

من ذلك أن الله -سبحانه وتعالى- جعل طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم طاعة له ((مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)) [النساء: 80].

كما أنه -سبحانه وتعالى- جعل طاعته شرطاً للهداية: ((وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا)) [النور: 54].

وجعل طاعة الرسول أيضاً شرطاً لدخول الجنة.

 ((وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ)) [النساء: 13].

كما أنها تؤدي إلى مرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في الجنة.

يقول تعالى: ((وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً)) [النساء: 69].
 
كما أنه يترتب عليها الفوز العظيم في الدارين.

يقول تعالى: ((وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)) [الأحزاب: 71].

ويقول الله تعالى أيضاً: ((وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ)) [النور: 52] كما أنها تكون سبباً لرحمة الله لقوله تعالى: ((وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ)) [التوبة: 71].

سلوك السلف في الاتباع: تعد الجماعة الأولى التي تلقت الدين وأخذته من رسول الله مباشرة خير من قام بما شرع لها من طاعة واتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله صلى الله عليه وسلم: "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) (16).

وإنّي هنا أحاول إبراز بعض الصور التطبيقية للطاعة والاتباع لتكون أمثلة توضح ما شرع للمسلمين في هذا الجانب الهام.

وسأجعل هذه الأمثلة مرتبة على النحو التالي:
أولاً: سلوكهم في الاتباع وهم جماعة: أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة"، فأدرك بعضهم العصر في الطريق فقال: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد منّا ذلك، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحداً منهم" (17).

وهذا الحديث يدل دلالة واضحة على مدى إسراع الصحابة -رضوان الله عليهم- في تنفيذ أمره صلى الله عليه وسلم باذلين في ذلك أقصى الجهد.

ومنها ما أخرجه البخاري في صحيحه عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتماً من ذهب فاتخذ الناس خواتيم من ذهب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني اتخذت خاتماً من ذهب فنبذه وقال: إنّي لن ألبسه أبداً، فنبذ الناس خواتيمهم" (18).

وهذا الحديث أيضاً يدل دلالة واضحة على مدى إسراع الصحابة -رضوان الله عنهم- في اتباع فعل الرسول صلى الله عليه وسلم حتى ولو لم يأمرهم بفعل ذلك الفعل وبدون أن يسألوا العلة في ذلك أو أنّ ذلك خاص به صلى الله عليه وسلم أو يعم الأمة جميعاً.

ومن ذلك ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "بينما الناس في صلاة الصبح بقباء اذ جاءهم آت فقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة" (19).

وفي هذا الحديث يدل دلالة واضحة على مدى استجابة الصحابة لأوامر الله على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أثناء الصلاة دون تردد أو إبطاء وبدون استفسار أو تأخير.

ومن ذلك ما أخرجه الإمام البخاري في صحيحه عن عائشة -رضي الله عنها أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلة من جوف الليل فصلى في المسجد وصلى رجال بصلاته فأصبح الناس فتحدثوا، فاجتمع أكثر منهم فصلى فصلوا معه، فأصبح الناس فتحدثوا فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى فصلوا بصلاته، فلمّا كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح فلمّا قضى الفجر أقبل على الناس ثم قال: "أمّا بعد فإنّه لم يخف عليّ مكانكم ولكنّي خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك" (20).

وهذا الحديث أيضاً يدل على أنّ الصحابة -رضوان الله عنهم- كانوا يحرصون على الاقتداء بالمصطفى صلى الله عليه وسلم في كل فعل من أفعاله إذا لم يكن هناك خصوصية حتى ولو لم يأمرهم بذلك الفعل.

وهذه النصوص التي ذكرناها نموذج لاستجابة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء بفعله وتنفيذ أمره جماعة، ولكن هناك نصوص أخرى كثيرة تدل على ذلك يصعب حصرها في هذا المقام.

ثانياً: ما يفيد أيضاً سلوك السلف في اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فرادى: من ذلك ما أخرجه البخاري في صحيحه عن عمر -رضي الله عنه- "أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبله فقال: إنّي أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك" (21).

وهذا الحديث يدل دلالة واضحة أنّ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- صرَّح بـأنّ تقبيلـه للحجر الأسود هو مجرد التأسّي بالنبي صلى الله عليه وسلم مع إيمانه ويقينه أنّه لا يضر ولا ينفع لذاته.

ومن ذلك ما أخرجه البخاري أيضاً في صحيحه عن مروان بن الحكم قال: "شهدت عثمان وعلياً -رضي الله عنهما- وعثمان ينهى عن المتعة (22) وأن يجمع بينهما فلمّا رأى علي أهل بهما لبيك بعمرة وحجة قال: ما كنت لأدع سنة النبى صلى الله عليه وسلم لقول أحد" (23).

وهذا يدل على أنّ الصحابة -رضي الله عنهم- يقدمون سنة النبي صلى الله عليه وسلم على أي قول صدر من غيره مهما كانت رتبته كما فعل علي -رضى الله عنه- مع عثمان بن عفان -رضي الله عنه- في هذا الأمر الذي اختلفت وجهة نظرهما لأنّ عثمان بن عفان -رضي الله عنه- وإن كان أميراً للمؤمنين آنذاك إلا أن اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق كل شيء.

ومن ذلك أيضاً ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن وبرة قال: كنت جالساً عند ابن عمر فجاءه رجل فقال: أيصلح لي أن أطوف بالبيت قبل أن آتي الموقف؟ فقال: نعم. فقال: فإن ابن عباس يقول: لا تطف بالبيت حتى تأتي الموقف فقال ابن عمر: فقد حج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت قبل أن يأتي الموقف (24)، فبقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن نأخذ أم بقول ابن عباس أن كنت صادقاً (25).

وهذه أيضاً حادثة أخرى اختلفت فيها وجهة نظر الصحابة -رضي الله عنهم- ومضمونها يؤكد حرص صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على اتباع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم إذا ثبتت وترك قول أي أحد من الناس مهما كانت رتبته إذا كان ذلك القول يخالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا أنكر ابن عمر -رضي الله عنهما- على السائل حينما ذكر فتوى ابن عباس -رضي الله عنه- بعد إخباره ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك المقام، ورحم الله الإمام مالك حينما قال: "ما من قول أحد إلا ويؤخذ قوله ويترك إلا صاحب ذلك القبر -يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه القاعدة هي الفيصل في هذا الموضوع.

وأما المراجعات التي وقعت بينه صلى الله عليه وسلم وبين الصحابة -رضوان الله عليهم- في بعض الأمور أثناء حياته فلا يعتبر قدحاً في اتباعهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنّ هذه المراجعات كانت مجرد استفسار لبعض الأمور التي لم يتضح لهم الغرض منها أو التبست عليهم أو لم يستسيغوها في أول الأمر ظنّاً منهم أنّهم لا يقدرون على تحملها غيرة للرسول صلى الله عليه وسلم وللإسلام لا للاستهزاء أو الانتقاص من توقير الرسول صلى الله عليه وسلم بخلاف ما كان يفعله المنافقون لعنهم الله -تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاء به وبرسالته والانتقاص من توقيره صلى الله عليه وسلم متسترين تحت ما أظهروا من الإسلام.

وقد قسّم شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- هذه المراجعات للرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثة أقسام حيث قال: "وبالجملة فالكلمات في هذا الباب ثلاثة أقسام: أحداهن: ماهو كفر - مثل قوله: إنَّ هذه القسمة ما أريد بها وجه الله.

الثاني: ما هو ذنب ومعصية يخاف على صاحبه أن يحبط عمله، مثل رفع الصوت فوق صوته، ومثل مراجعة من راجعه عام الحديبية بعد ثباته على الصلح (26)، ومجادلة من جادله يوم بدر بعد ما تبيّن له الحق (27)، وهذا كله يدخل في المخالفة عن أمره.

الثالث: ما ليس من ذلك بل يحمد عليه صاحبه أو لا يحمد كقول عمر: ما بالنا نقصر الصلاة وقد آمنا (28)؟ وكقول عائشة: ألم يقل الله: ((وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا)) [مريم: 71]، وكمراجعة الحباب في منزل بدر (29)، ونحو ذلك ممّا فيه سؤال عن إشكال ليتبين لهم، أو عرض لمصلحة قد يفعلها الرسول صلى الله عليه وسلم" (30).

المقالة الأولى: من هذه الأقسام لم تصدر عن الصحابة -رضوان الله عليهم- وإنّما صدرت عن بعض المنافقين الذين كانوا مع الصحابة ظاهراً لا باطناً لأنّ هذه المقالة هي عين ما حكاه الله -سبحانه وتعالى- عنهم في كتابه كقوله تعالى: ((وَمِنْهُم مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ)) [التوبة: 58].

وأما المقالة الثانية: فقد صدرت من بعض الصحابة -رضوان الله عليهم- عن غفلة أو اجتهاد أو عن عجلة إلا أنهم لم يصرّوا على خطأهم وإنما تنازلوا عن رأيهم الذيي رأوه إلى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إيماناً منهم ويقينا أنّ ما ذهب إليه الرسول صلى الله عليه وسلم هو الصواب.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "فهذه أمور صدرت عن شهوة وعجلة لا عن شك في الدين" (31).

وأما المقالة الأخيرة: فقد صدرت من الصحابة أيضاً -رضوان الله عليهم- ولكنّها لا تعتبر ذنباً ولا معصية أو مخالفة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنّما الاستفسار عن دين الله -عز وجل- وطلب المزيد من التفقه إيماناً منهم بأنّ مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم هي التبيين لقوله تعالى: ((وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)) [النحل: 44] كما أنّها صدرت منهم لأجل الإشارة لبعض الأمور إذا كان المقام يتطلب المشورة لأن الله تعالى يقول: ((وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ)) [آل عمران: 159].

يقول ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "وكانت المراجعة المشهورة منهم لا تعدو إمّا لتكميل نظره صلى الله عليه وسلم في ذلك إن كان من الأمور السياسية التي للاجتهاد فيها مساغ، أو ليتبين لهم وجه ذلك إذا ذكر، ويزدادوا علماً وإيماناً، وينفتح لهم طريق التفقه فيه" (32).



الباب الثاني أنواع الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 49101
العمر : 72

الباب الثاني أنواع الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم Empty
مُساهمةموضوع: رد: الباب الثاني أنواع الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم   الباب الثاني أنواع الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم Emptyالثلاثاء 19 سبتمبر 2023, 10:04 pm

المبحث الثاني: في مجالسته صلى الله عليه وسلم:
ذكرنا في المبحث الأول من هذا الفصل جانباً من جوانب الأدب العملي وهو طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه.

وأمّا في هذا المبحث فسوف نتناول جانباً آخر من جوانب الأدب العملي وهو الأدب المتعلق بمجالسة الرسول صلى الله عليه وسلم أو ما ينبغي للمسلم أن يفعل نحو مقام النبوة، أثناء حضوره عنده صلى الله عليه وسلم سواء كان ذلك في بيته أو في الأماكن العامة مع أنّ بعض هذه الآداب لا تتأتى إلا في حال حياته صلى الله عليه وسلم مع أصحابه -رضوان الله عليهم-.

وننظر مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم من زاويتين:
الزاوية الأولى: في حال وجوده في بيته مع نسائه.
الزاوية الثانية: في حالة وجوده في الأماكن العامة.

الزاوية الأولى: وهي حالة وجوده صلى الله عليه وسلم في بيته مع نسائه: في هذه الحالة ينبغي أو يجب على المسلم تجاه مقام النبوة عدم إزعاجه سواء في الحضور عنده بغير إذن أو الجلوس في بيته فترة من الزمن والانشغال بالحديث بعد انتهاء الغرض الذي من أجله أذن له لما يترتب عليه من إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم في حين أنه لا يقدر أن ينبه على من تصدر عنه هذه الأفعال حياء منه كما تشير إليه الفقرة الأولى من آية الحجاب، وهي قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ)) [الأحزاب: 53].

من هذه الفقرة من الآية الكريمة يتبين لنا عدة أمور مرغوب عنها في المجتمع الإسلامي وخاصة في بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي: دخول البيوت بغير إذن والتطفل أو الضيفن وانتظار نضج الطعام والمكث في البيوت بعد انتهاء الغرض الذي من أجله أذن لهم.

وهذه الأمور التي ذكرنا هي أمور ينبغي أن يطهر من المجتمع الإسلامي في ذلك الحين وإلى الأبد لأنها من الأمور المتبقية من العادات الجاهلية التي لا تتمشى مع روح الإسلام السامية.

قال ابن عطية في تفسير هذه الآية: "وكانت سيرة القوم إذا كان لهم طعام وليمة أو نحوه أن يبكر من شاء إلى الدعوة ينتظرون طبخ الطعام ونضجه وكذلك إذا فرغوا منه جلسوا كذلك، فنهى الله المؤمنين عن ذلك في بيت النبي صلى الله عليه وسلم ودخل في النهي سائر المؤمنين والتزم الناس أدب الله لهم في ذلك فمنعهم من الدخول إلاّ بإذن عند الأكل لا قبله لانتظار الطعام" (33).

وخلاصة القول:
الآية تشير إلى أنّه يجب على المسلم أن لا يتطفل على النبي صلى الله عليه وسلم بحيث يحضر عند نضج الطعام فيشارك فيه لأنه ربما أعد الطعام لأناس معدودين وأنّ زيادة العدد قد تضر صاحب البيت وتحمله على تقديم شيء زائـد ربما لا تكون في حوزته وأما إذا أذن للطعام فعلى المسلم أن لا يأتي قبل نضج الطعام بل في وقت مناسب لأن أهل البيت مشغولون بإعداد الطعام وقد يحمل الحضور قبل نضج الطعام على الإسراع في إعداد الطعام كما هو المألوف، وكذلك إذا حضر في الوقت المناسب فعليه أن يخرج من البيت بعد الطعام لا أن يمكث فترة للحديث والاستئناس مع غيره لأنَّ ذلك يؤدي إلى مضايقات لأهل البيت والاستماع إلى ما يجري في البيت من كلام أو إلى النظر إلى ما لا ينبغي أن ينظر قصداً أو بغير قصد ولا سيما إذا كان هناك منافقون.

وأمر واحد من هذه الأمور المذكورة ممّا يتأذى به صاحب كل بيت عادة فما بال إذا كانت مجتمعة مع أنّه لا يقدر أن يفصح بها حياء منه كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم مع الرهط الذين تخلفوا في البيت بعد الطعام عشية بناءه صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش -رضي الله عنها- كما يظهر من بعض الروايات الواردة في سبب نزول هذه الآية.

عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: أنا أعلم الناس بهذه الآية آية الحجاب لما أهديت زينب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت معه في البيت، صنع طعاماً دعا إليه القوم فقعدوا يتحدثون فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يخرج ثم يرجع وهم قعود يتحدثون، فأنزل الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ)) [الأحزاب: 53]، فضرب الحجاب وقام القوم " (34).

وفي رواية أخرى: "وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحياء" (35).

ومن هنا نقول: إنّ الله -سبحانه وتعالى- قد أعطى اهتماماً كبيراً حال وجود النبي صلى الله عليه وسلم في بيته مع نسائه، أخذاً من هذه الآية وغيرها من الآيات الأخرى التي جاءت لمناسبات شتى.

من ذلك قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) [الحجرات: 4-5].

وقد فصلنا القول في ذلك عند الكلام عن مناداته صلى الله عليه وسلم في الفصل السابق الذي عقدنا للأدب القولي وإن كانت متصلة بالآداب المتعلقة ببيت النبي صلى الله عليه وسلم كما ورد بسبب نزولها إلا أننا تحدثنا هناك حسب ما يقتضي التقسيم المنهجي لأنها تتعلق بالآداب القولية وهنا الآداب العملية.

وعلى هذا فنكتفي بالإشارة إلى موضعها وإن كانت الآداب كلها مترابطة سواء كانت قلبية أو قولية أو عملية إلا أننا قسمناها إلى ذلك للتوضيح والدراسة.

وقبل أن أنتقل إلى الفقرة الأخيرة من الآية والتي تتعلق بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لا بد من الإشارة إلى فقرة تتوسط بين الفقرة الأولى المتعلقة في حياته صلى الله عليه وسلم والفقرة الأخيرة التي تتعلق بعد وفاته وهي الفقرة التي تشير إلى وجوب سؤال أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من وراء حجاب أخذاً من قوله تعالى: ((وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ)) [الأحزاب: 53] لأن سؤالهن قد تكون في حياته صلى الله عليه وسلم وقد تكون بعد وفاته وإنَّ سؤالهن بعد وفاته أولى وخاصة فيما يتعلق بأمور الدين لأنّ جزءاً كبيرا من الأحكام الشرعية قد وصلنا عن طريقهن.

وهذا الحكم وإن كان يعم النسوة كلهن لأنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب إلا أن تخصيص الآية بنسائه صلى الله عليه وسلم له مزيته بحيث يتأكد هذا الحكم في جانبهن لارتباطهن بشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم خير خلق الله الذي يتأذى بذلك الفعل كما يدل عليه قوله تعالى بعد هذه الجزئية: ((وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ)) [الأحزاب: 53].

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه المزية لنساء النبي صلى الله عليه وسلم في آية أخرى وهي قوله تعالى: ((يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ إِنْ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً)) [الأحزاب: 32].

ونأتي إلى الفقرة الأخيرة من آية الحجاب: بينما الفقرة الأولى من هذه الآية تتعلق ببيت النبي ونسائه وقت حياته صلى الله عليه وسلم هذه الفقرة الأخيرة أيضاً تتعلق ببيت النبي ونسائه ولكن بعد وفاته صلى الله عليه وسلم بحيث تنهي المؤمنين نهياً قاطعاً عن الزواج بإحدى زوجاته بعده على التأبيد كما يدل عليه قوله تعالى: ((وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً)) [الأحزاب: 53].

وكيف يتزوج أحد من المسلمين إحدى زوجات النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن وصفهن الله تعالى بأمهات المؤمنين بقوله تعالى: ((النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ)) [الأحزاب: 6].

يقول الدكتور حسن باجودة في تأملاته: "وبما أن حديث الآية الكريمة في الجزئية السابقة قد صرّح بأنه لا يصح للمؤمنين أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيّاً فإنّ الجزئية الكريمة التالية تصرّح بأنه لا يصح أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ميتاً عن طريق زواج إحدى زوجاته، فقد خص ربّ العزة المصطفى صلى الله عليه وسلم في حياته الزوجية بالعديد من الخصائص التي من بينها هذه الخصيصة وهي، أنّه لا يحل لأحد أن يتزوج إحدى زوجاته لأنهن أمهات المؤمنين كما صرحت بذلك هذه السورة، وكيف يتزوج المرء أمه، لأن منزلة الأمومة لهن -رضوان الله عليهن- أجمعين بالنسبة لرجال الأمة مستمرة إلى أن يلحقن كلهن بالرفيق الأعلى" (36).

وقد عد المفسرون هذه الآية من الآيات التي تتحدث عن تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم حياً وميتاً.

يقول الزمخشري في تفسير هذه الآية: "وسمي نكاحهن بعده عظيماً عنده وهو من أعلام تعظيم الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم- وإيجاب حرمته حيّاً وميتاً، وإعلامه بذلك مما طيب نفسه وسر قلبه واستغزر شكره فإن نحو هذا مما يحدث الرجل به نفسه ولا يخلى منه فكره ومن الناس من تفرط غيرته على حرمته حتى يتمنى لها الموت لئلا تنكح من بعده" (37).

وهذه الآداب التي ذكرناها في هذه الزاوية المتعلقة ببيت النبي صلى الله عليه وسلم وإن كانت وردت في حقه صلى الله عليه وسلم وقت حياته -يلتزم المسلمون فيما بينهم أثناء حياته صلى الله عليه وسلم وبعد مماته لأنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب إلا ما خص به صلى الله عليه وسلم من عدم الاقتران بإحدى زوجاته بعد وفاته صلى الله عليه وسلم مع أن هذا الحكم لا يمكن تطبيقه بعد لحوقهن بالرفيق الأعلى، وأما وقت حياتهن فكان ملتزماً به من قبل الموجودين وقتئذ.

الزاوية الثانية: في حالة وجوده في الأماكن العامة: كانت الزاوية السابقة تتعلق بحالة وجوده صلى الله عليه وسلم مع نسائه في بيته وما ينبغي المسلم أن يتجنب عنه من إيذائه صلى الله عليه وسلم من دخول بيته بغير إذن أو عدم الانصراف بعد انتهاء الغرض الذي من أجله أذن له والأمور الأخرى التي فصلناها فأما في هذه الزاوية، فسوف نتحدث عن الأمور التي ينبغي للمسلم أن يرعى تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حالة وجوده في الأماكن العامة وفي ملأ من الناس.

وهذه الحالة العامة تتطلب عدم الخروج من مجلسه إلا بإذن بل البقاء معه إلا لضرورة قصوى وخاصة إذا كان هناك أمر مهم يتطلب المشاورة والاستعانة بأهل الرأي مثل أوقات الحرب والشدة على عكس ما كان مطلوباً في حالة وجوده مع نسائه في بيته صلى الله عليه وسلم لأنه يقال لكل مقام مقال ولكل مقال مقام، وهنا اختلفت المقالتان لاختلاف المقامين.

وقد ذكر الله -سبحانه وتعالى- مراعاة مقام النبوة في حالة وجوده في ملأ من الناس في القرآن الكريم وشهد لمن يلتزم مراعاة ذلك الجانب الإيمان بالله ورسوله في أسلوب حصر كأنهم هم المؤمنون وحدهم كما يشير إليه قوله تعالى: ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) [النور: 62].

ويتبين من نص الآية الكريمة الآداب التي ينبغي أن يراعى بها في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاستئذان إذا نوى أحد أن يخرج منه وإن كان ذلك خلاف الأولى لتذييل الآية بطلب الاستغفار من الرسول لمن يستأذن مع تفويض للرسول صلى الله عليه وسلم قبول الاستئذان وعدمه لمن يشاء تقديراً للموقف والملابسات المحيطة به.

يقول الشهيد سيد قطب -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: "ومع هذا يشير إلى مغالبة الضرورة وعدم الانصراف هو الأولى وأن الاستئذان والذهاب فيها تقصير أو قصور يقتضي استغفار النبي صلى الله عليه وسلم للمعتذرين: ((وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) [النور: 62]، وبذلك يقيد ضمير المؤمن فلا يَستأذن وله مندوحة لقهر العذر الذي يدفع به الاستئذان" (38).

ويدخل تحت هذا المفهوم أي الاستئذان من الرسول صلى الله عليه وسلم بالخروج من مجلسه وقت خطبته صلى الله عليه وسلم وإن كان هناك خلاف حول معنى الأمر الجامع في الآية الكريمة، هل هو في الحرب خاصة أم يعم جميع الاجتماعات الأخرى كالجمعة والعيدين؟

وقد ذهب الإمام ابن العربي إلى القول بأنّ الأمر الجامع مخصوص في الحرب مؤيداً ما ذهب إليه بأدلة نوردها هنا:
يقول ابن العربي -رحمه الله-: "وقد روى أشهب ويحيى بن بكير وعبد الله بن عبد الحكم عن مالك أنّ هذه الآية إنّما كانت في حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق وكذلك قال محمد بن إسحاق.

والذي بيّن ذلك أنّ الآية مخصوص في الحرب أمران صحيحان:
أمَّا أحدهما: فهو قوله تعالى في الآية الأخرى:
((قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً)) [النور: 63] وذلك أن المنافقين كانوا يتلوذون ويخرجون عن الجماعة ويتركون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر الله جميعهم بألاّ يخرج أحد حتى يأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم وبذلك يتبيَّن إيمانه.

وأمَّا الثاني: فهو قوله تعالى: ((لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ)) [النور: 62].

فأي إذن في الحدث والإمام يخطب.
 
وليس للإمام خيار في منعه ولا إيقافه وقد قال: ((فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ)) [النور: 62].

فيبين ذلك أنه مخصوص في الحرب التي يؤثر فيها التفرق" (39).

وهناك فريق آخر من العلماء الذين ذهبوا إلى أنّ الأمر الجامع يعم جميع الاجتماعات من حرب وصلاة جمعة وصلاة العيدين وغيرها من الأمور الأخرى التي تقتضي اجتماع المسلمين مع قائدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن هؤلاء الإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى- حيث يقول في تفسير هذه الآية: "وهذا أيضاً أدب أرشد الله عباده المؤمنين إليه، فكما أمرهم بالاستئذان عند الدخول كذلك أمرهم بالاستئذان عند الانصراف لا سيما إذا كانوا في أمر جامع مع الرسول -صلوات الله وسلامه عليه- من صلاة جمعة أو عيد أو جماعة أو اجتماع في مشورة ونحو ذلك أمرهم الله أن لا يتفرقوا عنه والحالة هذه إلاّ بعد استئذانه ومشاورته، وأنّ من يفعل ذلك فإنّه من المؤمنين الكاملين" (40).

ويقول الإمام القرطبي -رحمه الله- بعد إيراده قول الإمام ابن العربي: "القول بالعموم أولى وأرفع وأحسن وأعلى" (41).

وممّا يرجح القول الثاني وهو أنّ الأمر الجامع يعم كل الاجتماعات قوله تعالى: ((وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ اللَّهْوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)) [الجمعة: 11].

يظهر من سياق هذه الآية أن بعض الصحابة أو جلهم خرجوا من عند رسول الله وهو قائم يخطب لأمور دنيوية بحتة وهي التجارة بحيث آثروا التجارة القادمة إلى المدينة على استماع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا نبههم الله -سبحانه وتعالى- على أن البقاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خير لهم بخلاف ما صدر عنهم الذي لا يليق لمقام النبوة.

يقول الشهيد سيد قطب -رحمه الله تعالى-: " وتشير إلى حادث معين حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبهم في المسجد للجمعة حين حضرت قافلة من قوافلهم التجارية، فما أعلن نبأ قدومها حتى انفض المستمعون منصرفين إلى التجارة واللهو الذي كانت القافلة تحاط به على عادة الجاهلية، من ضرب بالدفوف وحداء وهيصة وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً فيما عدا اثني عشر من الراسخين فيهم أبو بكر وعمر بقوا يستمعون كما تذكر الروايات (42).

والرواية التي تحدد العدد هي ما أخرجه البخاري -رحمه الله عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال (43): أقبلت عير يوم الجمعة ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم فثار الناس إلاّ اثني عشر رجلاً فأنزل الله: ((وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا)) [الجمعة: 11].

وخلاصة القول أنّ الآيتين اللتين ذكرناهما في هذه الزاوية ترشدان المسلمين إلى الآداب التي تجب على المسلم أن يتحلى بها في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء قلنا أنّ الأمر الجامع خاص بالحرب أو أنّه يعم كل الاجتماعات، أو أنّ الآية الأولى تتعلق بالحرب بينما الآية الثانية تتعلق بالخطبة وما يجري مجراها.

وهذه الآداب محلها في حال حياته صلى الله عليه وسلم وأمّا بعد مماته فتنتقل إلى ما بعده من الخلفاء الراشدين ومن في حكمهم.

يقول القرطبي -رحمه الله-: "وظاهر الآية يقضي أن يستأذن أمير الأمرة الذي هو في مقعد النبوة، فإنّه ربما كان له رأي في حبس ذلك الرجل لأمر من أمور الدين) (44).

---------------------------------------------------
1.    روح المعاني: (5/65).
2.    أخرجه الحاكم في مستدركه (1/108) وقال: "هو صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي.
3.    أخرجه الحاكم في مستدركه (1/109) وصححه.
4.    روح المعاني: (9/164).
5.    روح المعاني: (9/188).
6.    الفروق في اللغة (ص:215).
7.    كما صرح ابن كثير عند تفسير هذه الآية. انظر تفسيره (2/190).
8.    مستدرك الحاكم (2/139)، وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.
9.    ابن كثير: (2/192).
10.    أحكام القرآن (4/1700) مع التصرف.
11.    المصدر السابق (4/1701).
12.    المصدر السابق (4/1701-1702).
13.    مدارج السالكين: (2/389).
14.    أضواء البيان (7/614).
15.    تفسير القرآن العظيم: (2/67).
16.    صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم (4/1963).
17.    صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب ومخرجه إلى بني قريظة ومحاصرته إياهم (3/34).
18.    صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم (4/260).
19.    البخاري في كتاب التراويح، باب فضل من قام رمضان (1/343).
20.    صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة (1/375).
21.    صحيح البخاري في كتاب الحج، باب ما ذكر في الحجر الأسود (1/278).
22.    يعني التمتع في الحج وهو نوع من أنواع الحج الثلاثة المعروفة.
23.    صحيح البخاري في كتاب الحج في باب التمتع والإقران والإفراد بالحج وفسخ الحج لمن لم يكن معه هدي (1/272-273).
24.    يعني عرفة.
25.    صحيح مسلم في كتاب الحج، باب ما يلزم من أحرم بالحج ثم قدم مكة، من الطواف والسعي (2/905).
26.    مثل قصة عمر مع النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية وفيها: جاء عمر فقال: ألسنا على الحق وهم على باطل؟ أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ فقال: (بلى) قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا، ونرجع ولما يحكم الله بيننا؟ فقال: (يا ابن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعني الله أبداً)، فرجع متغيظاً فلم يصبر حتى جاء أبا بكر فقال: يا أبا بكر ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال: يا ابن الخطاب، إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولن يضيعه الله أبداً ". انظر صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب: (إذ يبايعوك تحت الشجرة) (3/190).
27.    يشير إلى قوله تعالى: (يجادلونك في الحق بعدما تبين.). سورة الأنفال: آية (6).
28.    احتجاجاً بقوله تعالى: (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم.) سورة النساء، آية 101. وأجاب صلى الله عليه وسلم عن ذلك: (صدقة تصدق الله بها عليكم) انظر صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافر ين، باب صلاة المسافرين وقصرها (1/478).
29.    حيث أشار إلى النبى صلى الله عليه وسلم أن يغير المكان الذي نزل فيه أولاً إلى مكان آخر أحسن بالنسبة للأهمية الحربية ووافقه على ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم كما في كتب السيرة. انظر السيرة النبوية لابن كثير (2/402).
30.    الصارم المسلول: (ص:119).
31.    الصارم المسلول: (ص:197).
32.    الصارم المسلول: (ص:191).
33.    تفسير القرطبي: (14/225).
34.    صحيح البخاري، كتاب التفسير: باب في قوله تعالى: (لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام) (3/176-177).
35.    صحيح البخاري، كتاب التفسير: باب في قوله تعالى: (لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام) (3/176-177).
36.    تأملات في سورة الأحزاب (ص:460-461) مع التصرف.
37.    تفسير الكشاف: (3/272).
38.    في ظلال القران: (4/2534).
39.    أحكام القرآن: (3/1398).
40.    تفسير ابن كثير: (3/306).
41.    تفسير القرطبي: (12/321).
42.    في ظلال القرآن: (6/3563).
43.    صحيح البخاري، كتاب التفسير، تفسير سورة الجمعة (3/202).
44.    تفسير القرطبي: (13/320).



الباب الثاني أنواع الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
 
الباب الثاني أنواع الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» الباب الأول أسباب قيام الأمَّة بالأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم
» الباب الثاني رؤيا محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم
» مع الرسول صلى الله عليه وسلم ( الرسول داعيا – 1 )
» دروس فضيلة الشيخ: سلمان بن فهد العودة
» مع الرسول صلى الله عليه وسلم (وفد عبد القيس-2)

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers :: (العربي) :: إلا رســـول الله صلى الله عليه وسلم :: التأدُّب مـــع الرســــول-
انتقل الى: