إدارة الشئون الداخلية
أراد الصديق أن ينفذ السياسة التي رسمها لدولته، واتخذ من الصحابة الكرام أعواناً يساعدونه على ذلك، فجعل أبا عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمَّة (وزير المالية)، فأسند إليه شئون بيت المال، وتولى عمر بن الخطاب القضاء (وزارة العدل)، وباشر الصديق القضاء بنفسه أيضاً، وتولى زيد بن ثابت الكتابة (وزير البريد والمواصلات) وأحياناً يكتب له مَنْ يكون حاضراً من الصحابة؛ كعلي بن أبي طالب أو عثمان بن عفان رضي الله عنهم.
وأطلق المسلمون على الصديق لقب خليفة رسول الله، ورأى الصحابة ضرورة تفريغ الصديق للخلافة، فقد كان أبو بكر رجلاً تاجرًا يغدو كل يوم إلى السوق، فيبيع ويبتاع، فلمَّا استُخلِفَ أصبح غادياً إلى السوق وعلى رقبته أثواب يتَّجرُ بها، فلقيه عمر وأبو عبيدة فقالا: أين تريد يا خليفة رسول الله؟ قال: السوق.
قالا: تصنع ماذا وقد وليت أمور المسلمين؟ قال: فمن أين أطعم عيالي؟ فقالا: انطلق معنا حتى نفرض لك شيئاً، فانطلق معهما ففرضوا له كل يوم شطر شاة.
وجاء في «الرياض النضرة» أن رزقه الذي فرضوه له خمسون ومائتا دينار في السَّنَة، وشاة يؤخذ من بطنها ورأسها وأكارعها، فلم يكن يكفيه ذلك ولا عياله، قالوا: وقد كان قد ألقي كل دينار ودرهم عنده في بيت مال المسلمين، فخرج إلى البقيع فتصافق «بايع»، فجاء عمر فإذا هو بنسوةٍ جلوس، فقال: ما شأنكن؟ قلن: نريد خليفة رسول الله يقضي بيننا، فانطلق فوجده في السوق فأخذه بيده فقال: تعالَ ها هنا.
فقال: لا حاجة لي في إمارتكم، رزقتموني ما لا يكفيني ولا عيالي.
قال: فإنا نزيدك.
قال أبو بكر: ثلاثمائة دينار والشاة كلها.
قال عمر: أمَّا هذا فلا، فجاء علي وهما على حالهما تلك، قال: أكملها له، قال: ترى ذلك؟ قال: نعم، قال: قد فعلنا.
وانطلق أبو بكر فصعد المنبر، واجتمع إليه الناس فقال: أيها الناس، إن رزقي كان خمسين ومائتي دينار وشاة يؤخذ من بطنها ورأسها وأكارعها، وإن عمر وعلياً كملا لي ثلاثمائة دينار والشاة، أفرضيتم؟
قال المهاجرون: اللهم نعم، قد رضينا.
وهكذا وقف الصحابة في فهمهم الراقي لولاية الدين وأمانة الحُكم يفرضون لإمامهم رزقاً يغتني به عن التجارة، بعد إذ صار عاملاً للأمَّة تملك منه الوقت والجهد والفكر، ومن ثم يقررون معنى في الإسلام بديعاً يفصل الذمة المالية للأمَّة عن ذمة الحاكم.
هذا المعنى الذي لم يعرفه الغرب إلا في عهوده القريبة، إذا ظلت راية (ما لقيصر لقيصر) مشرعة خفاقة يقاتل الناس دونها أزماناً طويلة.
إن أصدق تعبير تقف به على دخول الذمة المالية للدولة بأسرها في ذمة الحاكم لهو مقالة لويس الخامس عشر: أنا الدولة والدولة أنا.
لقد كان لويس تاجر غلال معروفاً يتجر في قوت أمته، وهي تتضور جوعاً، ثم لا يرى أحد في ذلك شيئاً من العار، أليس هو الأصل والأمَّة فرع عنه؟.
أين البشرية اليوم من أولئك الصحابة رضوان الله عليهم؟ فإن الخزينة قد أضحت بعدهم بيد أشخاص ينفقون كيف يشاءون، ويتصرفون كما يريدون، كما أصبحت لهم نفقات مستورة لا حصر لها، وفوق هذا فقد تكدست لهم الأموال لكثرتها وأكثرها يعود إلى الحكام وأمراء الشعوب المستضعفة، مع أنه قد ظهر أن هذه الأموال مهما بلغت، والعقارات مهما كثرت، فإنها لا تكفي شيئاً، ولا تغني صاحبها شيئاً، فإن شاه إيران مع ضخامة ما يملك لم يجد أرضا تقبله ليأوي إليها، هذا في الدنيا، وأما في الآخرة فالأمر أشد والحساب عظيم.
فعلى حكام المسلمين أن يقتدوا بهذا الصحابي الجليل الذي أدار دولة الإسلام بعد وفاة الرسول، فما أجمل قوله: لقد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مؤونة أهلي وشغلت بأمر المسلمين، فسيأكل آل أبي بكر من هذا المال ويحترف للمسلمين فيه.
إن الصديق يؤكد معاني بديعة، فولاية الدين ليست في حد ذاتها مغنمًا، أما ما يفرض لها من رزق فلما تقضي إليه من اشتغال عامل الأمَّة عن أمر نفسه.
لقد سطر الصديق والصحابة الكرام صفحات رائعة في جبين الزمن، حتى إن البشرية تسعى في سلم التطور وتسعى، ثم إذا هي قابعة عند أقدامهم.
سار الصديق في بناء دولة الإسلام بجد ونشاط واهتم بالبناء الداخلي، ولم يترك أي ثغرة يمكن أن تؤثر في ذلك البناء الذي تركه رسول الله، فاهتم بالرعية وله مواقف مشرفة في هذا الباب، وأعطى للقضاء اهتماماً خاصاً، وتابع أمر الولاة، وسار على المنهج النبوي الكريم في كل خطواته.

وإليك شيء من التفصيل عن تلك السياسة الرشيدة:
نصحه لامرأة نذرت أن لا تحدث أحدًا
كان أبو بكر ينهى عن أعمال الجاهلية، والابتداع في الدين، ويدعو إلى أعمال الإسلام، والتمسك بالسنة، فعن قيس بن أبي حازم: دخل أبو بكر على امرأة من أحمس، يقال لها زينب، فرآها لا تتكلم، فقال أبو بكر: ما لها لا تتكلم؟ قالوا: نوت حجة مصمتة.
فقال لها: تكلمي، فإن هذا لا يحل، هذا من عمل الجاهلية.
قال: فتكلمت، فقالت: من أنت؟
قال: أنا امرؤ من المهاجرين.
قالت: أي المهاجرين؟
قال: من قريش.
قالت: من أي قريش أنت؟
قال: إنك لسئول، أنا أبو بكر.
قالت: يا خليفة رسول الله، ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح الذي جاء الله به بعد الجاهلية؟
فقال: بقاؤكم عليه ما استقامت به أئمتكم.
قالت: وما الأئمَّة؟
قال: أما كان لقومك رؤوس وأشراف يأمرونهم فيطيعونهم؟
قالت: بلى.
قال: فهم أولئك على الناس.
قال الخطابي -رحمه الله-: كان من سُنَّةِ الجاهلية الصَّمت، فكان أحدهم يعتكف اليوم والليلة ويصمت، فنهوا عن ذلك وأمروا بالنطق بالخير، وقد استدل بقول أبي بكر هذا من قال بأن من حلف أن لا يتكلم استحب له أن يتكلم ولا كفارة عليه، لأن أبا بكر لم يأمرها بالكفارة، وقياسه أن من نذر أن لا يتكلم لم ينعقد نذره؛ لأن أبا بكر أطلق أن ذلك لا يحل، وأنه من فعل الجاهلية، وأن الإسلام هدم ذلك، ولا يقول مثل هذا إلا عن علم من النبي ، فيكون من حكم المرفوع.
وقال ابن حجر: وأما الأحاديث الواردة في الصمت وفضله فلا يعارض لاختلاف المقاصد في ذلك؛ فالصمت المرغب فيه: ترك الكلام بالباطل، وكذا المباح إن جر إلى شيء من ذلك، والصمت المنهي عنه ترك الكلام في الحق لمن يستطيعه، وكذا المباح المستوي الطرفين، والله أعلم.
--------------------------------------------