فصل في ضرورة مراعاة الحدود الشرعية وشيء من أحوال ابن الجوزي
فصل في ضرورة مراعاة الحدود الشرعية وشيء من أحوال ابن الجوزي Ocia_714
وانظر يا بني إلى نفسك عند الحدود، فتلمَّح كيف حِفظُكَ لها؟

فإنه من راعى رُوعي، ومن أهملَ تُرِك، وإني لأذكر لك بعضَ أحوالي لعلك تنظر إلى اجتهادي، وتسألَ الموفقَ لي.

إن أكثر الإنعام عَلِي لم يكن بكسبي، وإنما هو من تدبير اللطيف بي، فإني أذكر نفسي ولي همةٌ عالية وأنا في المكتب ولي نحو من ست سنين، وأنا قرينُ الصبيان الكبار قد رُزِقتُ عقلاً وافرًا في الصغر يزيدُ على عقلِ الشيوخ، فما أذكر أني لعبتُ في طريقٍ معَ صبيٍ قط، ولا ضحِكتُ ضحكًا جارحًا، حتى إني كنتُ ولي سبعُ سنين أو نحوُها أحضرُ رحبةَ الجامع، ولا أتخيّرُ حلقةَ مشعبذٍ، بل أطلب المحدّث، فيتحدث بالسند الطويل، فأحفظُ جميعَ ما أسمع، وأرجع إلى البيت فأكتبه.

ولقد وُفِّقَ لي شيخنا أَبُو الفضل ابن ناصر رحمه الله، فكان يحملني إلى الأشياخ، وأسمعني " المسندَ " وغيرَه من الكتب الكبار، وأنا لا أعلم ما يُراد مني، وضبط لي مسموعاتي إلى أن بلغت، فناولني ثبتها، ولازمته إلى أن توفي رحمه الله، فأدركتُ به معرفة الحديث والنقل.

ولقد كان الصبيان ينزلون دِجلة، ويتفرجون على الجسر، وأنا في زمن الصغر آخذ جزءًا، وأقعد حُجزةً من الناس إلى جانب الرِّقة فأتشاغلُ بالعلم.

ثم أُلْهِمت الزهدَ، فسردتُ الصوم وتشاغلت بالتقلل وألزمتُ نفسي صبرَها، فاستمرأتُ وشمّرت ولازمت، وأحببتُ السهر، ولم أقنع بفن واحد من العلم، بل كنت أسمع الفقه والوعظ والحديث وأتّبع الزهاد.

ثم قرأت اللغة ولم أترك أحدًا ممن قد انزوى أو يعظ، ولا غريبًا يقدُمُ إلا وأحضره وأتخيّر الفضائل.

وكنت إذا عرض لي أمران أقدّم في أغلب الأحوال حقَ الحق، فأحسن اللهُ تدبيري وأجراني على ما هو الأصلح لي، ودفع عني الأعداء والحساد ومن يكيدني، وهيأ لي أسباب العلم، وبعث إلي الكسب من حيث لا أحتسب، ورزقني الفهمَ وسرعة الحفظ وجودة التصنيف، ولم يُعْوِزني شيئًا من الدنيا، بل ساق إلي مقدارَ الكفاية وأزيَد، ووضع لي في قلوب الخلق من القبول فوق الحد، وأوقع كلامي في نفوسهم فلا يرتابون بصحته.

وقد أسلم على يدي نحو من مائتين من أهل الذمة، ولقد تاب في مجالسي أكثر من مائة ألف، وقد قطعتُ أكثر من عشرين ألف جُمّةٍ مما يتعاناه الجهال.

ولقد كنت أدور على المشايخ لسماع الحديث فينقطع نفَسي من العَدْوِ لئلا اُسبَق، وكنت أصبح وليس لي ما آكل، وأمسي وليس لي شيء، وما أذلني الله لمخلوق، ولكنه ساق رزقي لصيانة عِرضي، ولو شرحتُ أحوالي لطال الشرح، وها أنا، ترى ما قد آلت الحال إليه، وأنا أجمعه لك في كلمة واحدة وهي قوله تعالى: {وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [سورة البقرة: الآية 282].