فضل ليلة القدر
الشيخ/ ندا أبو أحمد
فضل ليلة القدر Ocia_210
بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ الحمدَ لله نحمدُه، ونستعينُه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، مَن يَهد اللهُ فلا مُضل له، ومَن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحدهُ لا شريك لهُ، وأشهد أنَّ مُحَمَّدًا عبدهُ ورسولُه.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (آل عمران: 102).

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (النساء: 1).

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (الأحزاب: 70،71).

أمَّا بعد..
فإن أصدق الحديث كتاب الله -تعالى-، وخير الهدي، هدي محمد ﷺ، وشر الأمُور مُحدثاتها، وكل مُحدثةٍ بدعةٍ، وكل بدعةٍ ضلالةٍ، وكل ضلالةٍ في النَّار.

نبض الرسالة
فضل ليلة القدر
1- أن الله تعالى أنزل القرآن الكريم في هذه الليلة.
2- أن الله -عَزَّ وَجَلَّ- العظيم؛ عظَّم شأنها.
3- إن العبادة والعمل الصالح فيها: من الصيام والقيام والدعاء وقراءة القرآن خيرًا من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر.
4- ليلة القدر لا يخرج الشيطان معها.
5- أن الملائكة والروح تَنَزَّل في هذه الليلة.
6- أن الأمن والسلام يحل في هذه الليلة على أهل الإيمان.
7- أنهـا ليلـة مبــاركة.
8- مَن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه.
9- يتم في ليلة القدر تقدير مقادير السَّنَة.

فضل ليلة القدر
ليلة القدر؛ ليلة عَظَّمَ اللهُ قدرها، ورفع من شأنها، وفيها العطايا والمنح الكثيرة.

ومنها:
1- أن الله تعالى أنزل القرآن الكريم في هذه الليلة:
كما قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (القدر: 1) فالصحيح المعتمد كما قال ابن حجر -رحمه الله- في "شرح البخاري" وكما صحَّ عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أن القرآن الكريم أُنْزِل في ليلة القدر جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلي بيت العزة في السماء الدنيا".

وقيل:
هي الليلة التي بدأ نزول القرآن فيها على قلب سيدنا محمد ﷺ.

وقيل:
هي الليلة التي أمر الله سبحانه القلم فيها أن يكتب القرآن في اللوح المحفوظ.

فعلى أية حال:
فهي الليلة التي حظيت بساعة الفصل من عالم الغيب المكنون إلى عالم الشهادة الموجود.

فهي الليلة التي حظيت بنزول القرآن الكريم فيها، وهو حدث عظيم لم تشهد الأرض ولا السماء مثله في عظمته، وكأن هذه الليلة لها قدر عند الله منذ الأزل، وقد ازدادت قدرًا على قدر بنزول القرآن فيها، وحظيت بهذا الشرف فوق شرفها الأول، وأصبحت سيدة الليالي.

وهذا يجرُّنا إلى الفضيلة الثانية وهي:
2- أن الله -عز وجل- العظيم؛ عظَّم شأنها:
فقد ذكرها بقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} أي: أن دراية علوها ومنزلتها خارج عن دائرة دراية الخلق، فلا يعلم ذلك إلا علامُ الغيوبِ جلَّ جلاله.

يقول ابن عيينة -رحمه الله-:
"ما كان في القرآن: "وما أداراك" فقد أعلمه. وما قال "وما يدريك" فإنه لم يُعلم". (البخاري كتاب فضل ليلة القدر).

3- إن العبادة والعمل الصالح فيها: من الصيام والقيام والدعاء وقراءة القرآن خيرًا من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر:

قال تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} (القدر: 3).

قال ابن جرير الطبري -رحمه الله- في "تفسيره: 30/167":
"عمل في ليلة القدر خير من عمل ألف شهر ليس فيها ليلة القدر".

وهذا الذي صوَّبه ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره.

وقال الإمام القرطبي -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْر﴾:
وفضيلة الزمان إنما تكون بكثرة ما يقع فيه من الفضائل وفي تلك الليلة يقسم الخير الكثير الذي لا يوجد مثله في ألف شهر، وقال كثير من المفسرين: أي العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر.

وقال أبو العالية -رحمه الله-:
"ليلة القدر خير من ألف شهر لا تكون فيه ليلة القدر"، (الجامع لأحكام القرآن: 10/369).

4- ليلة القدر لا يخرج الشيطان معها:
ودليل ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي ﷺ قال: "إن الشمس تطلع كل يوم بين قرني الشيطان إلا صبيحة ليلة القدر".

وفي رواية عند الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت-رضي الله عنه- عن النبي ﷺ قال: "ولا يحل للشيطان أن يخرج معها يومئذ".

وفي رواية ابن حبان عن جابر -رضي الله عنه- عن النبي ﷺ قال: "لا يخرج شيطانها حتى يخرج فجرها".

ولذلك قال رب العالمين فيها: {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْر} (القدر: 5).

فهي ليله كلها خير وسلام، سالمة من الشيطان وأذاه.

قال الضحاك عن ابن عباس -رضي الله عنهما-:
"في تلك الليلة تُصفَّد مردة الجن، وتُغلُّ عفريت الجن"

وقال مجاهد:
"هي سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوء ولا يحدث فيها أذى".

وقال أيضًا:
"لا يُرسَل فيها شيطان ولا يحدث فيها داء".

ويروى عن أُبي بن كعب -رضي الله عنه- قال:
"لا يستطيع الشيطان أن يصيب فيها أحدًا، أو داء، أو ضرب فساد، ولا ينفذ فيها سحر ساحر".

5- أن الملائكة والروح تَنَزَّل في هذه الليلة:
قال تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ} (القدر: 4) والمقصود بالروح: هو جبريل- عليه السلام-.

وأخرج ابن خزيمة عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ﷺ: "ليلة القدر ليلة السابعة أو التاسعة وعشرين، وإن الملائكة تلك الليلة أكثر في الأرض من عدد الحصى، والملائكة تنزل بالرحمات والبركات والسكينة، وقيل: تتنزل بكل أمر قضاهُ اللهُ وقدَّرَهُ لهذه السَّنَة".

6- أن الأمن والسلام يحل في هذه الليلة على أهل الإيمان:
قال تعالى: {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْر} (القدر: 5) واختلفوا في تفسير هذه الآية على أقوال:

فقيل:
سلام من الشر كله، فلا يكون فيها إلا السلامة.

وقيل:
تنزل الملائكة في هذه الليلة تسلم على أهل الإيمان.

وقيل:
لا يستطيع الشيطان أن يمسَّ أحدًا فيها بسوء، وقيل غير ذلك.

7- أنهـا ليلـة مبــاركة:
قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} (الدخان: 3).

قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "يعني ليلة القدر".

8- مَن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه:
فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أبى هريرة -رضي الله عنه- أن النبي ﷺ قال: "مَن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه، ومَن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه".

9- يتم في ليلة القدر تقدير مقادير السَّنَة:
قال تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} (الدخان: 4).

قال ابن رجب –رحمه الله– كما في "لطائف المعارف: 1/231":
روي عن عكرمة وغيره من المفسرين في قوله تعالى: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ (الدخان: 4)، أنها ليلة النصف من شعبان، والجمهور: على أنها ليلة القدر، وهو الصحيح. اهـ

وأخيرًا نقول لكل مَن فرَّط وضيَّع:
اِسْتَدْرِك ما فاتك في ليلة القدر، فالعمل فيها خير من ألف شهر سواها، فمَنْ حُرِمَ خيرها فهو المحروم، هكذا أخبر المعصوم ﷺ.

فقد أخرج الإمام أحمد والنسائي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي ﷺ قال: "أَتَاكُمْ شهر رَمَضَانُ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ، فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الجنة، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، وفِيهِ لَيْلَةٌ هي خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ".  (صحيح الجامع: 55).

وأخرج ابن ماجه عن أنس -رضي الله عنه- قال: دخل رمضان فقال رسول الله ﷺ: "إن هذا الشهر قد حضركم، وفيه ليلة خير من ألف شهر، مَن حُرِمَها فقد حُرِمَ الخير كله، ولا يُحْرَم خيرها إلا محروم". (صحيح الجامع: 2247).

أحبتي في الله...
ليلة القدر يُفتح فيها الباب، ويُقَرَّبُ فيها الأحباب، ويُسْمَعُ الخطاب، ويرد الجواب، ويكتب للعاملين فيها عظيم الأجر، ليلة القدر خير من ألف شهر، فاجتهدوا -رحمكم الله- في طلبها، فهذا أوان الطلب، واحذروا من الغفلة، ففي الغفلة العطب.

وصدق القائل حيث قال:
تــــــــــولَّـى العمر  في سهـو       وفي لهـــــــــو وفــي خمـــــــــر
فيـــــــــــا  ضيعــــة مـا أنفقت       فـــــــي الأيام من عمــــــــري
وما لي في الذي ضيَّعت              مــــــــن عمري مـــــن عُــــــذر
فمــــا أغفلنا عن واجبــــات       الحمـــــــــــــد  والشـكـــــــــــــــــــــــر
أمــــــــــا قـــــــــــد خصَّنــــــــــا الله        بشهـــــــــــــر أيَّـــا شهـــــر
بشهــــــــــر أنــــــــزل  الرحمــن       فيـــــــــــــــــه أشــــــرف الذكــــر
وهــــــــــــــل  يشبهـــــــه  شـهـر       وفيــــــــــــــه ليـلـــــة القــــــدر
فكــــــــــــــــم مـــــن خـبر صـحَّ        بمـــــــــــا فيهـــــــــــا من  خير
رويـنــــــــــــا عـــــــــــــــن ثقــــــــات       أنهــــــــــا تُطْلـَب في الوتـــر
فطــــــــــــــــوبـى  لأمـــــــــــــــــــرئ       يطلبها في هذه العشـــــر
ففيهــــــــــــــــــــا تَنَزَّل الأمــــلاك       بــــــــــــــــالأنــوار  والــــــبـرِّ
وقد قــــــــــــــــــال: ســـــلام هي      حتــــــــــى  مطلــــــع  الفجر
ألا  فــــــــــــــــادَّخِرهـا  إنــــــــها       مــــــــــــن  أنــــــــفس  الذخر
فكــــــــــم مــــــــــن مُعتَقٍ  فيها      مـــــــــــن النــــــــــار ولا يدري

وقفة:
وهذه العطايا والمنح الربانية والهبات الإلهية تجعلنا نتحرَّى ونلتمس ليلة القدر امتثالًا لقول النبي ﷺ الثابت في "صحيحي البخاري ومسلم" من حديث عائشة-رضي الله عنها-: "تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان".

وكذلك عملًا بقوله تعالى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ} (البقرة: 187).

قيل في تفسير قوله تعالى: {وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ} يعني: الولد (روي هذا عن مجاهد وعكرمة والحسن البصري).

وقيل: {وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ} تعني: ليلة القدر (روي هذا عن ابن عباس -رضي الله عنهما-)، والتحقيق أن يُقال: لَمَّا خفَّف اللهُ عن الأمَّة بإباحة الجماع ليلة الصيام إلي طلوع الفجر، وكان المجامع يغلب عليه حكم الشهوة وقضاء الوطر حتى لا يخطر بقلبه غير ذلك، أرشدهم إلى أن يطلبوا رضاه في مثل هذه اللذة ولا يباشروها بحكم مجرد الشهوة، بل يبتغوا بها ما كتب الله لهم من الأجر، ويبتغوا بها الولد الذي يخرج من أصلابهم يعبد الله ولا يشرك به شيئًا، ويبتغوا بها ما أباح الله لهم من الرخصة بحكم محبته لقبول الرخصة، فإن الله يحب أن يُأْخَذَ بِرُخَصِهِ كما يكره أن تُؤْتَى معصيته.

ولكن يبقى سؤال:
ما علاقة ابتغاء هذه الليلة بإباحة مباشرة الزوجات؟

والإجابة على ذلك:
أن هذا فيه إرشاد إلى أنه لا ينبغي أن يشغلهم ما أبيح لهم من المباشرة عن طلب هذه الليلة التي هي خير من ألف شهر، فكأنه سبحانه يقول: اقضوا وطركم من نسائكم ليلة الصيام، ولا يشغلكم ذلك عن ابتغاء ما كتب لكم من هذه الليلة وما فيها من الفضل العظيم.

وبعد...
فهذا آخر ما تيسَّر جمعه في هذه الرسالة.

وأسأل الله -تعالى- أن يكتب لها القبول، وأن يتقبَّلها منّي بقبول حسن، كما أسأله سبحانه وتعالى أن ينفع بها مؤلفها وقارئها، ومَن أعان على إخراجها ونشرها.. إنه ولي ذلك والقادر عليه.

هذا وما كان فيها من صواب فمن الله وحده، وما كان من سهو أو خطأ أو نسيان فمنِّي ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وهذا شأن أي عمل بشري فإنه يعتريه الخطأ والصواب، فإن كان صوابًا فادعُ لي بالقبول والتوفيق.

وإن كان ثمَّ خطأ فاستغفر لي:
وإن وجدت العيب فسد الخللا      جلّ من لا عيب فيه وعلا

فاللهم اجعل عملي كله صالحًا ولوجهك خالصًا، ولا تجعل لأحدٍ فيه نصيبًا.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

وآخرُ دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلّى اللهُ على نبينا مُحَمَّدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

هذا والله –تعالى– أعلى وأعلم.

سبحانك اللهُمَّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.