قالوا..
نامت عيونك والمظلوم منتبه * يدعو عليك وعين الله لم تنم

74.    كف الأذى..
كان الناس يبغضونه..
ما يكاد أحد يسلم من أذاه..
إن سلمت من يده فلن تسلم من لسانه.. وإن فاته أن يجلدك بسوط لسانه في حضرتك فلن يفوته أن يجلدك في غيبتك..
فعلاً.. كان رجلاً مكروهاً.. أثقل على الناس من صم الجبال الراسيات..
وإذا تأملت في أحوال الناس فسوف تصل إلى يقين بأنه لا يؤذي غالباً إلا من كان عنده نعمة تفوق من يقابله..
فالقوي يتجرأ على إيذاء الضعيف.. يدفعه بيده.. أو يركله برجله.. يضرب ويحقّر.. فيصير أسداً عليه لكنه في الحروب نعامة!!
والغني يتعدى على الفقير.. فيهينه في المجالس.. يقاطعه في كلامه..
أما صاحب المنصب والجاه.. فله حظ كبير من ذلك..
وقل مثل ذلك فيمن جعل الله نسبه رفيعاً..
وهؤلاء في الحقيقة.. إضافة إلى بغض الناس لهم.. وتمنيهم زوال عزهم.. وفرحهم بمصائبهم..
هم أيضاً مفلسون..
وانظر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.. وقد جلس مع أصحابه يوماً فقال لهم:
أتدرون ما المفلس؟
قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع..
فقال: إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة.. وصيام.. وزكاة.. ويأتي قد شتم هذا.. وقذف هذا.. وأكل مال هذا.. وسفك دم هذا.. وضرب هذا..
فيعطى هذا من حسناته.. وهذا من حسناته.. فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه.. أخذ من خطاياهم فطرحت عليه.. ثم طرح في النار  ..
لذا كان يتجنب -صلى الله عليه وسلم- أذى الناس بشتى أشكاله..
قالت عائشة -رضي الله عنه-: ما ضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئاً قط بيده.. ولا امرأة.. ولا خادماً.. إلا أن يجاهد في سبيل الله.. وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه.. إلا أن ينتهك شيء من محارم الله.. فينتقم لله عز وجل ..
وعموماً.. من استعمل هذه النعم لأذى الناس أبغضوه.. وقد يبتليه الله في دنياه قبل أخراه.. فيشفي صدورهم..
أذكر أن أحد الأصدقاء من طلبة العلم وحفظة القرآن.. كان رجلاً صالحاً.. يأتيه بعض الناس أحياناً يقرأ عليهم شيئاً من القرآن كرقية شرعية.. وقد شفى الله تعالى على يده من شاء..
دخل عليه يوماً من الأيام رجل تبدو عليه علامات الثراء.. جلس بين يدي الشيخ وقال: يا شيخ.. أنا عندي آلام في يدي اليسرى تكاد تقتلني.. لا أنام في ليل.. ولا أرتاح في نهار..
ذهبت إلى عدد كبير من الأطباء.. أجروا لي الفحوصات.. عملوا تمارين.. ما فيه فائدة أبداً..
الألم يزيد ويشتد حتى انقلبت حياتي عذاباً..
يا شيخ.. أنا تاجر وعندي عدد من المؤسسات والشركات.. فأخشى أن أكون أصبت بعين حاسدة.. أو وضع لي أحد الأشرار سحراً..
قال الشيخ: قرأت عليه سورة الفاتحة.. وآية الكرسي.. وسورة الإخلاص والمعوذتين..
لم يظهر عليه تأثر.. خرج من عندي شاكراً..
رجع إليَّ بعد أيام يشكو الألم نفسه.. قرأت عليه.. ذهب ورجع.. وقرأت عليه.. لم يظهر عليه أي تحسن..
قلت له لما اشتد عليه اللم: قد يكون ما أصابك هو عقوبة على شيء فعلته.. من ظلم أحد الضعفاء.. أو أكل حقوقهم.. أو ظلمت أحداً في ماله فمنعته حقه.. أو غير ذلك.. فإن كان هناك شيء من ذلك فسارع إلى التوبة مما جنيت.. وأعد الحقوق إلى أهلها.. واستغفر الله مما مضى..
التاجر لم يرق له كلامي.. وقال - بكبر -: أبداً.. ما ظلمت أحداً.. ولم أعتدِ على شيء من حقوق الناس.. وأشكرك على نصيحتك.. وخرج..
مرت أيام وغاب الرجل عني.. خشيت أن يكون وجد علي في نفسه.. ولكن لا عليَّ فهي نصيحة أسديتها إليه.. تفاجأت به يوماً في مكان ما.. لقيني فأقبل إليَّ مسلماً مسروراً..
سألته: هاه.. ما الأخبار؟
قال: الحمد لله.. الآن يدي بخير.. بغير طب ولا علاج!!
قلت: كيف؟
قال: لما خرجت من عندك.. جعلت أفكر في نصيحتك.. وأستعيد شريط ذكرياتي في ذهني.. وأفكر!! ترى هل ظلمت أحداً؟! هل أكلت حق أحد؟! فتذكرت أني قبل سنوات لما كنت أبني قصري.. كان بجانبه أرض رغبت في ضمها إليه ليكون أجمل.. كانت الأرض ملكاً لامرأة أرملة توفي زوجها وخلّف أيتاماً..
أردتها أن تبيع الأرض فأبت.. وقالت: وماذا أفعل بقيمة الأرض.. بل تبقى لهؤلاء الأيتام حتى يكبروا.. أخشى أن أبيعها ويتشتت المال..
أرسلت إليها مراراً لشرائها.. وهي تأبى علي ذلك..
قلت: فماذا فعلت؟
قال: انتزعت الأرض منها بطرقي الخاصة..
قلت: طرقك الخاصة!!
قال: نعم.. علاقاتي الواسعة.. ومعارفي.. استخرجت ترخيصاً ببناء الأرض وضممتها إلى أرضي..
قلت: وأم الأيتام؟!!
قال: سمعت بما حصل لأرضها فكانت تأتي وتصرخ بالعمال الذين يعملون لتمنعهم من البناء.. وهم يضحكون منها يظنونها مجنونة.. وفي الواقع أنني أنا المجنون ليس هي..
كانت تبكي وترفع يديها إلى السماء.. هذا ما رأيته بعيني.. ولعل دعاءها في ظلمة الليل كان أعظم..
قلت: هاه.. أكمل..
قال: رحت أسأل وأبحث عنها.. حتى عثرت عليها.. فبكيت واعتذرت.. ولا زلت بها حتى قبلت مني تعويضاً عن تلك الأرض.. ودعت لي وسامحتني..
فوالله ما إن خفضت يديها.. حتى دبت العافية في بدني..
ثم أطرق التاجر برأسه قليلاً.. ثم رفعه وقال: ونفعني دعاؤها – بإذن الله – نفعاً عجز عنه طب الأطباء..