وجهة نظر..
كل ما زاد عن حده.. انقلب ضده.. وكم مزحة انتهت شجاراً!!

59.    الخطوط الحمر..
كان من طلابي في الجامعة..
كان واسع الثقافة.. حريصاً على تكوين علاقات مع الناس.. لكنه كان ثقيل الدم عليهم..
جاءني يوماً.. وقال:
يا دكتور.. زملائي يغضبون مني دائماً.. لا يتحملون مزحي..
قلت في نفسي: أنا لا أحتملك ساكتاً.. فكيف أحتملك متكلماً..؟! خاصة إذا كنت تستخف دمك وتمزح..!
سألته: لماذا لا يحتملون مزحك؟! أعطني مثالاً..
قال: عطس أحدهم فقلت: الله يلعنك.. (ثم سكتُّ).. فلما غضب.. أكملت قائلاً: يا إبليس.. ويرحمك يا فلان..!!
مسكين كان يظن نفسه بذلك.. خفيف الدم!!
الناس مهما قبلوا مزاحك ومداعباتك.. إلا أنه تبقى هناك خطوط حمراء لا يحبون أن تتعداها..
خاصة إذا كان ذلك أمام الآخرين..
بعض الناس لا يراعي ذلك..
فتجد أنه يعتدي على حاجاتهم..
فمثلاً من باب (الميانة) يأخذ هاتفك الجوال ويتصل به كما يريد.. أو ربما أرسل رسائل إلى أشخاص أنت لا ترغب أن يظهر رقم هاتفك عندهم..
أو يأخذ سيارتك بغير إذنك.. أو يحرجك بطلبها حتى تأذن على مضض..
أو تجد مجموعة طلاب في يسكنون في شقة واحدة.. يستيقظ أحدهم ليذهب إلى جامعته.. فيجد أن معطفه لبسه فلان.. وحذاءه في رجل فلان..
ومن تعدي الخطوط الحمراء أنك.. تجد بعض الناس يحرج صاحبه بمزحة ثقيلة أو سؤال محرج في مجلس عام..
والشخص مهما بلغ من المحبة لك.. إلا أنه يبقى بشراً يرضى ويغضب.. ويفرح ويسخط..
لما أقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة راجعاً من تبوك..
قدم عليه في ذلك الشهر عروة بن مسعود الثقفي.. وكان سيداً جليل القدر.. رفيع المكانة عند قومه ثقيف..
فأدرك النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يصل إلى المدينة.. فأسلم..
وسأله أن يرجع إلى قومه فيدعوهم إلى الإسلام..
فخاف عليه.. وقال له: إنهم قاتلوك..
وعرف -صلى الله عليه وسلم- أن قبيلة ثقيف فيهم نخوة الامتناع.. والصرامة في التعامل.. حتى لو كان مع رئيسهم..
فقال عروة: يا رسول الله.. أنا أحب إليهم من أبكارهم.. وأبصارهم..
وكان محبباً مطاعاً فيهم..
فخرج يدعو قومه إلى الإسلام رجاء أن لا يخالفوه.. لعظم منزلته فيهم..
فلما وصل إلى ديار قومه.. رقى على مرتفع وصاح بهم حتى اجتمعوا.. وهو سيدهم..
فدعاهم إلى الإسلام.. وأظهر لهم أنه أسلم.. وجعل يردد: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله..
فلما سمعوا منه ذلك.. صاحوا.. وثاروا أن يتركوا آلهتهم..
ورموه بالنبل من كل جهة..
حتى وقع صريعاً -رضي الله عنه-..
فأقبل إليه أبناء عمه.. وهو ينازع الموت..
وقال: يا عروة: ما ترى في دمك؟
فقال: كرامة أكرمني الله بها.. وشهادة ساقها الله إلي..
فليس فيَّ إلا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.. فلا تقتتلوا لأجلي.. ولا تأخذوا بثأري من أحد..
فقيل إن النبي -صلى الله عليه وسلم-.. لما بلغه خبر مقتله..
قال فيه: إن مثله في قومه.. كمثل صاحب ياسين في قومه.. ?..
فانتبه! الناس لهم أحاسيس مهما بلغت في القرب منهم.. وإن كانوا في منزلة الأخ والولد..
لذا نبه النبي -صلى الله عليه وسلم- على ذلك.. فنهى عن ترويع المؤمن..
كان -صلى الله عليه وسلم- يوماً يسير مع أصحابه..
وكان كل واحد منهم معه متاعه.. سلاحه.. فراشه.. طعامه..
نزلوا منزلاً.. فنام رجل منهم..
فأقبل صاحبه إلى حبل معه فأخذه.. مازحاً..
فاستيقظ الرجل.. فوجد متاعه ناقصاً.. ففزع.. وأخذ يبحث عن حبله..
فقال -صلى الله عليه وسلم-: لا يحل لمسلم أن يروع مسلماً  ..
وفي يوم آخر..
كانوا يسيرون مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في مسير..
فنعس رجل وهو على راحلته..
فغافله صاحبه وانتزع سهماً من كنانته..
فشعر الرجل بمن يعبث بسلاحه.. فانتبه فزعاً مذعوراً..
فقال -صلى الله عليه وسلم-: لا يحل لرجل أن يروع مسلماً..
ومثله الذي يمزح فيراك أوقفت سيارتك عند بقالة – مثلاً - وهي تشتغل فيأتي ويقودها.. ويوهمك أنها سرقت.. مازحاً..
قد يجاملك صاحبك ويضحك أحياناً على مزحة مروعة.. لكنه متألم..
ولربما صبر الحليم على الأذى
وفؤاده من حره يتأوه
ولربما شكل الحليم لسانه
حذر الكلام وإنه لمفوه