الباب الرابع والسبعون في تحريم الخمر وذمها والنهي عنها
وقد أنزل الله تعالى في الخمر ثلاث آيات.
الأولى قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ «1» الآية، فكان من المسلمين من شارب، ومن تارك إلى أن شرب رجل، فدخل في الصلاة فهجر، فنزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ «2»، فشربها من شربها من المسلمين وتركها من تركها حتى شربها عمر رضي الله تعالى عنه، فأخذ بلحي بعير وشج به رأس عبد الرحمن بن عوف، ثم قعد ينوح على قتلى بدر بشعر الأسود بن يعفر يقول:
وكائن بالقليب قليب بدر ... من الفتيان والعرب الكرام
أيوعدني ابن كبشة أن سنحيا ... وكيف حياة أصداء وهام
أيعجز أن يردّ الموت عنّي ... وينشرني إذا بليت عظامي «3»
ألا من مبلغ الرحمن عنّي ... بأني تارك شهر الصيام
فقل لله يمنعني شرابي ... وقل لله يمنعني طعامي
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج مغضبا يجر رداءه، فرفع شيئا كان في يده، فضربه به، فقال: أعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله، فأنزل الله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ 91 «4» فقال عمر رضي الله تعالى عنه: انتهينا انتهينا.
ومن الأخبار المتفق عليها في تحريمها قول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة مدمن خمر» «5».
وقوله صلى الله عليه وسلم: «أول ما نهاني ربي بعد عبادة الأوثان عن شرب الخمر وملاحاة الرجال».
وممن تركها في الجاهلية عبد الله بن جدعان، وكان جوادا من سادات قريش، وذلك أنه شرب مع أمية بن أبي الصلت الثقفي، فضربه على عينه، فأصبحت عين أمية مخضرّة يخاف عليها الذهاب، فقال له عبد الله: ما بال عينك؟ فسكت، فألح عليه، فقال: ألست ضاربها بالأمس، فقال: أو بلغ مني الشراب ما أبلغ معه إلى هذا، لا أشربها بعد اليوم.
ثم دفع له عشرة آلاف درهم، وقال: الخمر عليّ حرام لا أذوقها بعد اليوم أبدا.
وممن حرمها في الجاهلية أيضا: قيس بن عاصم، وذلك أنه سكر ذات ليلة، فقام لابنته أو لأخته، فهربت منه، فلما أصبح سأل عنها فقيل له: أو ما علمت ما صنعت البارحة؟ فأخبر بالقصة، فحرم الخمر على نفسه.
وممن حرمها في الجاهلية أيضا: العباس بن مرداس، وقيس بن عاصم، وذلك أن قيسا شرب ذات ليلة، فجعل يتناول القمر ويقول والله لا أبرح حتى أنزله، ثم يثب الوثبة بعد الوثبة ويقع على وجهه، فلما أصبح وأفاق قال: مالي هكذا؟
فأخبروه بالقصة، فقال: والله لا أشربها أبدا.
وقيل للعباس بن مرداس: لم تركت الشراب، وهو يزيد في سماحتك؟
فقال: أكره أن أصبح سيد قومي وأمسي سفيههم.
ودخل نصيب على عبد الملك بن مروان فأنشده، فأعجبه إنشاده وشعره ووصله، ثم دعا بالطعام، فطعم منه، فقال له عبد الملك: يا نصيب هل لك فيما ينادم عليه؟
قال يا أمير المؤمنين جلدي أسود وخلقي مشوه ووجهي قبيح، وتكفيني مجالستك ومؤاكلتك، ولم يوصلني إلى ذلك إلا عقلي وأنا أكره أن يدخل عليه ما ينقصه، فأعجبه كلامه ووصله.
وقال الوليد بن عبد الملك للحجاج في وفدة وفدها عليه: هل لك في الشراب؟
فقال يا أمير المؤمنين: لا خلاف لما أمرت ولكن أنا أمنع أهل عملي منه وأكره أن أمنعهم عن شيء ولا أمتنع منه.
وقال الله تعالى: وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ «1».
وقال تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ«2».
وقيل لأعرابي: لم لا تشرب النبيذ؟
فقال: لا أشرب ما يشرب عقلي.
وقال الضحاك بن مزاحم لرجل: ما تصنع بشرب النبيذ؟
قال: يهضم طعامي.
قال: أما إنه يهضم من دينك وعقلك أكثر!
قال ابن أبي أوفى لقومه حين نهوا عن الخمر:
ألا يا لقومي ليس في الخمر رفعة ... فلا تقربوا منها فلست بفاعل
فإنّي رأيت الخمر شيئا ولم يزل ... أخو الخمر دخّالا لشر المنازل
وقال الحسن: لو كان العقل يشترى لتغالي الناس في ثمنه، فالعجب ممن يشتري بماله ما يفسده.
وقال عليه السلام: حب الدنيا رأس كل خطيئة، والنساء حبائل الشيطان، والخمر داعية إلى كل شر.
وقال بعضهم:
بلوت نبيذ الخمر في كل بلدة ... فليس لأخوان النبيذ حفاظ
إذا دارت الأرطال أرضوك بالمنى ... وإن فقدوها فالوجوه غلاظ
وقال الحكيم: إياك وإخوان النبيذ فبينما أنت متوج عندهم مخدوم مكرم معظم إذ زلت بك القدم، فجروك على شوك السلم، فاحفظ قول القائل فيه:
وكلّ أناس يحفظون حريمهم ... وليس لأصحاب النبيذ حريم
فإن قلت هذا لم أقل عن جهالة ... ولكنني بالفاسقين عليم
وللأعرج الطائي:
تركت الشعر واستبدلت منه ... إذا داعي صلاة الصبح قاما
وقال الصفدي:
دع الخمر فالراحات في ترك راحها ... وفي كأسها للمرء كسوة عار
وكم ألبست نفس الفتى بعد نورها ... مدارع قار في مدار عقار
نكتة: اجتمع نصراني ومحدث في سفينة.
فصب النصراني خمرا من زق كان معه في شربة وشرب، ثم صب فيها وعرض على المحدث فتناولها من غير فكر ولا مبالاة.
فقال النصراني: جعلت فداءك إنما هي خمر.
قال: من أين علمت أنها خمر؟
قال: اشتراها غلامي من يهودي وحلف أنها خمر، فشربها المحدث على عجل، وقال للنصراني: يا أحمق نحن أصحاب الحديث نضعف مثل سفيان بن عيينة، ويزيد بن هارون أفنصدق نصرانيا عن غلامه عن يهودي، والله ما شربتها إلا لضعف الإسناد.
ومن المجون في ذلك ما حكي أن سكرانا استلقى على طريق، فجاء كلب فلحس شفتيه، فقال: خدمك بنوك ولا عدموك، فبال على وجهه، فقال: وماء حارا أيضا بارك الله فيك.
وقيل: حالة السكارى ثلاثة: قرد حرك رأسه فرقص، وكلب هارش فنبح، وحية زويت فنامت.
ومر عقال الناسك بمرداس بن خدام الأسدي، فاستسقاه لبنا، فصب له خمرا وعلاه بلبن فشربه، وسكر ولم يتحرك ثلاثة أيام فقال:
سقيت عقالا بالعشية شربة ... فمالت بعقل الكاهليّ عقالي
قرعت بأم الخلّ حبّة قلبه ... فلم ينتعش منها ثلاث ليالي
ويقال: الخمر مصباح السرور ولكنها مفتاح الشرور، اللهم تب علينا وعلى العصاة والمذنبين برحمتك يا أرحم الراحمين آمين.