المبعث: من السنة الأولى إلى السنة العاشرة
مبعثه -صلى الله عليه وسلم-:
* لمَّا كمَّل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أربعين سنة، كلَّفه الله -عزَّ وجلَّ- بالرسالة، فنزل عليه جبريل -عليه السلام- بغار حراء، يوم الاثنين لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان، وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا نزل عليه الوحي اشتد ذلك عليه، وتغيَّر وجهه وعرق جبينه.

* فلما نزل عليه المَلَكُ قال له: اقرأ. قال: "لست بقارئ" فغطّاه الملك حتى بلغ منه الجهد، ثم قال له: اقرأ. فقال: "لست بقارئ". ثلاثًا. ثم قال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ*اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) [العلق: 1- 5].

فرجع رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إلى خديجة -رضي الله عنها- يرتجف، فأخبرها بما حدث له، فثبتته وقالت: أبشر. كلا والله لا يُخزيك اللهُ أبدًا، إنك لتصل الرَّحم، وتصدق الحديث، وتَحْمِلُ الكَلَّ -أي: العاجز الفقير الذي يحتاج لِمَنْ يعوله- وتُعين على نوائب الدهر [متفق عليه].

فكانت خديجة -رضي الله عنها- أوَّل مَنْ آمن به من الناس.

لقاء ورقة بن نوفل:
ثم إن خديجة -رضي الله عنها- أخذت النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى ورقة بن نوفل -ابن عمها- وكان شيخًا كبيرًا قد عمي، وكان قد تنصَّر في الجاهلية، فأخبره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما رأى في الغار، فقال له ورقة: هذا الناموس -أي جبريل- الذي نزل على موسى، يا ليتني فيها جذعًا -أي شابًّا- ليتني أكون حيًّا إذ يُخرجك قومك.. قال -صلى الله عليه وسلم-: "أو مُخرجيَّ هم؟" قال: نعم. لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عُودِيَ، وإن يدركني يومك أنصرْك نصرًا مؤزرًا. فلم يلبث ورقة أن توفي. [متفق عليه].

فترة الوحي والأمر بالدعوة:
*ثم فتر الوحي، فمكث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما شاء الله أن يمكث لا يرى شيئًا، فاغتمَّ لذلك، واشتاق إلى نزول الوحي، حتى كان يذهب إلى رؤوس شواهق الجبال، يريد أن يلقي بنفسه منها، كلما أوفى بذروة جبل تبدّى له جبريل -عليه السلام-، فقال: "يا محمد، إنك رسول الله حقًّا" فيسكن لذلك جأشه، فعل ذلك مرارًا.

*ثم تبدّى له الملك بين السماء والأرض على كرسي، فرُعِب منه النبي -صلى الله عليه وسلم- ورجع إلى أهله وهو يقول: "دثروني دثروني".

فأنزل الله تعالى عليه: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ*قُمْ فَأَنْذِرْ*وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ*وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) [المدثر: 1- 4] فأمره الله -تعالى- في هذه الآيات أن ينذر قومه، ويدعوهم إلى الله، فشمَّر -صلى الله عليه وسلم- عن ساق التكليف، وقام في طاعة الله أتم قيام.

إعلان الدعوة:
*بقي النبي -صلى الله عليه وسلم- ثلاث سنين يتستَّر بالنبوة، ثم نزل عليه: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) [الحجر: 94]، فأعلن الدعوة إلى الله.

* ولَمَّا نزل قوله تعالى: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) [الشعراء: 214]، خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى صعد الصفا، فهتف: "يا صباحاه" فقالوا: من هذا الذي يهتف؟ قالوا: محمد! فقال: "يا بني فلان... يا بني فلان... يا بني فلان... يا بني عبد مناف... يا بني عبد المطلب... " فاجتمعوا إليه فقال: "أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلًا تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقّي؟" قالوا: ما جرَّبنا عليك كذبًا. قال: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد"، فقال أبو لهب: تبًّا لك! أما جمعتنا إلا لهذا؟ ثم قام، فنزل قوله تعالى: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) إلى آخر السورة. [متفق عليه].

* وقامت قريش بإيذاء كُل مَنْ آمن بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، وقاموا بتعذيب المستضعفين من المؤمنين، أمَّا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد صانه اللهُ وحماهُ بعمه أبي طالب، فقد كان شريفًا، مطاعًا فيهم، نبيلًا بينهم، لا يتجاسرون على مفاجأته بشيء في أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لما يعلمون من محبته له.

الهجرة إلى الحبشة:
* فلمَّا اشتد الأذى بأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أمرهم أن يخرجوا إلى أرض الحبشة، فخرجوا مهاجرين إلى الحبشة في السَّنَة الخامسة من المبعث، فأقاموا بالحبشة شهرين ثم رجعوا إلى مكة في شوال، فلمَّا اشتد العذاب بمَنْ آمن، أذن لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالهجرة إلى الحبشة مرة أخرى، وفي السَّنَة السادسة من المبعث أسلم حمزة عم النبي -صلى الله عليه وسلم- وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، فكان إسلامهما نصرًا للإسلام والمسلمين.

حصار وتجويع:
*ولَمَّا رأت قريش إصرار أبي طالب على مؤازرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وحمايته وعدم تسليمه لهم، قررت معاقبة بني هاشم على ذلك، فكتبوا بذلك صحيفة فيها عهود ومواثيق، أن لا يقبلوا من بني هاشم صُلحًا أبدًا حتى يُسَلِّموا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للقتل، وحاصر وهم في شعب أبي طالب، وقطعوا عنهم الأسواق، فاشتد على بني هاشم البلاء وعظم الخطب، حتى كان يسمع أصوات النساء والأطفال يبكون جوعًا.
واستمر الحصار ثلاث سنوات، وثبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعمه أبو طالب وبنو هاشم ثباتًا عجيبًا، ثم قام بعض أشراف قريش بنقض هذه الصحيفة.

* فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الحصار في السَّنَة التاسعة وله تسع وأربعون سنة بعد أن نقضت صحيفة الظلم والجور.

عام الحُزن:
* وتوفي أبو طالب عم النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد خروجه من الحصار بتسعة أشهر في السَّنَة العاشرة من المبعث، وله أربع وثمانون سنة، وتبعته خديجة -رضي الله عنها- في نفس العام، ولها خمس وستون سنة، ففقد النبي -صلى الله عليه وسلم- أعظم مُعِينَيْن له بعد الله تعالى.  
* * *