هدي النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان Untit711
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أمَّا بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

إخواني:
إن من الأمور الواجبة على المسلم أن يتعلم هدي النبي صلى الله عليه وسلم  في كل عمل من الأعمال الشرعية، وذلك كي يؤدي ذلك العمل على أكمل الوجوه، وكي لا يقع في ما يبطله أو يخل به.

وصلاح كل عمل متوقف على شرطين، هما:
1- إخلاص النية لله تعالى.
2- موافقة هدي النبي صلى الله عليه وسلم.

ومن ذلك أعمال شهر رمضان، من الصيام والقيام والقراءة والاعتكاف وغيرها من الأعمال الصالحات.

وقد جاءت عدة أحاديث تبين لنا هدي النبيﷺ  في هذا الشهر المبارك، وهذا هو موضوع حديثنا في هذه الكلمة.

هدي النبي صلى الله عليه وسلم  في رمضان
1- فكان صلى الله عليه وسلم  يتسحَّر
وكان يؤخر السحور إلى آخر الليل، وكان صلى الله عليه وسلم يحث أمته على تأخير السحور وعلى التسحر بالتمر.

ثبت في "الصحيحين" البخاري (1921)، ومسلم (2/771) من حديث زيد بن ثابت قال: تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قمنا إلى الصلاة، قلت: كم كان قدر ما بينهما؟ قال: خمسين آية.

(فائدة)
قال الحافظ في "الفتح" (4/164):
(قال المهلب وغيره:... كانت العرب تقدر الأوقات بالأعمال، كقولهم: قدر حلب شاة، وقدر نحر جزور، فعدل زيد بن ثابت عن ذلك إلى التقدير بالقراءة إشارة إلى أن ذلك الوقت كان وقت العبادة بالتلاوة.. وقال ابن أبي جمرة: فيه إشارة إلى أن أوقاتهم كانت مستغرقة بالعبادة) ا.هـ

وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تسحَّرُوا فإن في السُّحُور بركة" رواه البخاري (1923)، ومسلم (2/770).

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم سحور المؤمن التمر". رواه أبو داود (3/142)، وصححه ابن حبان (3475) والألباني في "الصحيحة" (562).

2- وكان صلى الله عليه وسلم: ربما أصبح جُنُباً، فيغتسل ويصوم.
روى البخاري (1930)، ومسلم (1109) من حديث عائشة وأم سلمة قالتا: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم  ليصبح جنبا من جماع غير احتلام في رمضان، ثم يصوم.

وفي الصحيحين: البخاري (1925)، ومسلم (1109) من حديثهما أيضا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله، ثم يغتسل ويصوم.

وفي "صحيح مسلم" (1110) من حديث عائشة: أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستفتيه -وهي تسمع من وراء الباب- فقال: يا رسول الله، تدركني الصلاة وأنا جُنُب فأصوم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم" فقال: إنك لست مثلنا يا رسول الله، قد غفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر. فقال: " والله، إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي".

3- وكان صلى الله عليه وسلم: ربما قَبَّل بعض نسائه وهو صائم.
 روى مسلم في "صحيحه" (2/777) من حديث عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يُقَبِّل وهو صائم، ويباشر وهو صائم،ولكنه أملككم لإربه.

وروى مسلم (2/779) أيضاً من حديث عمر بن أبي سلمة أنه: سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أيُقَبِّل الصائم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سل هذه" لأم سلمة، فأخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع ذلك، فقال: يا رسول الله، قد غفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما والله إني لأتقاكم لله وأخشاكم له".

(فائدة)
قال الشيخ ابن عثيمين ما ملخصه:
(القبلة تنقسم إلى ثلاث أقسام:
1- ألا يصحبها شهوة إطلاقاً، فهذه لا تؤثر ولا حكم لها، لأن الأصل الحل.
2- أن تحرك الشهوة، ولكنه يأمن من إفساد الصوم بالإنزال، فهذه الصحيح أنها جائزة ولا بأس بها.
3- أن يخشى من فساد الصوم، فهذه تحرم إذا ظن الإنزال) ا.هـ "الشرح الممتع" (6/432_433).

4- وكان صلى الله عليه وسلم ربما صَبَّ على رأسه الماء وهو صائم.
روى أبو داود في "سننه" (2357) عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: لقد رأيت رسول الله ﷺ بالعَرْج (وهي قريبة بين الحرمين) يصب على رأسه الماء وهو صائم من العطش - أو من الحر-.
وصححه الألباني في "صحيح أبي داود" (2072).

5- وكان صلى الله عليه وسلم إذا سافر تارة يصوم، وتارة يفطر، وتارة يبتدأ الصوم في أول النهار ثم يفطر بعد ذلك.
 ويبدو -والله أعلم- أن مرجع هذا الاختلاف في الحال اختلاف أنواع السفر ومشاقه.
عن أبي الدرداء قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، في شهر رمضان في حر شديد، حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبد الله بن رواحة. رواه مسلم، وهو عند البخاري (1945) دون قوله: (شهر رمضان).

وعن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرج عام الفتح في رمضان، فصام حتى بلغ الكَدِيد أفطر، فأفطر الناس. رواه البخاري (1944)، ومسلم (2/784).

وفي رواية قال: سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان، فصام حتى بلغ عسفان، ثم دعا بإناء فيه شراب فشربه نهاراً ليراه الناس، ثم أفطر حتى دخل مكة. قال ابن عباس: فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفطر، من شاء صام ومن شاء أفطر.

وعن جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم، فصام الناس، ثم دعا بقدح ماء، فرفعه حتى نظر الناس إليه، ثم شرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام. فقال: "أولئك العصاة، أولئك العصاة.

وفي رواية أخرى: فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام، وإنما ينظرون فيما فعلت، فدعا بقدح من ماء بعد العصر. رواه مسلم (2/785).

وعن أبي سعيد الخدري قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لست عشرة مضت من رمضان، فمنا من صام، ومنا من أفطر، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم رواه مسلم (2/786).

وفي رواية له: فمنا الصائم ومنا المفطر، فلا يجد الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم، يرون أن من وجد قوةً فصام فإن ذلك حسن، ويرون أن من وجد ضعفاً فأفطر فإن ذلك حسن.

وفي رواية عند أحمد (3/46)، قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على نهر من ماء السماء، والناس صيام في يوم صائف مشاة، ونبي الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له، فقال: "اشربوا أيها الناس" قال: فأبوا. فقال: "إني لست مثلكم، إني أيسركم، إني راكب" فأبوا، فثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخذه، فنزل، وشرب وشرب الناس، وما كان يريد أن يشرب.

وروى الإمام أحمد (6/398)، وأبو داود (2405) من حديث منصور الكلبي أن دحية بن خليفة خرج من قرية من دمشق مِزَّة إلى قدر قرية عقبة من الفسطاط، وذلك ثلاثة أميال في رمضان، ثم إنه أفطر وأفطر معه ناس، وكره آخرون أن يفطروا، فلما رجع إلى قريته قال: والله لقد رأيت اليوم أمرا ما كنت أظن أني أراه، إن قوما رغبوا عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، يقول ذلك للذين صاموا، ثم قال عند ذلك: اللهم اقبضني إليك.

6- وكان صلى الله عليه وسلم يُعَجِّل الفطر بعد غروب الشمس مباشرة
وكان يفطر قبل صلاة المغرب، وكان يفطر على رطب،  فإن لم يجد فعلى تمر، فإن لم يجد حسى حسوات من ماء، وكان صلى الله عليه وسلم يوجه أمته لذلك ويحثهم عليه.

قال ابن عبد البر:
(أحاديث تعجيل الإفطار وتأخير السحور صحاح متواترة) انتهى من "فتح الباري" لابن حجر (4/234).

ومن هذه الأحاديث:
عن ابن أبي أوفى قال: سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صائم، فلما غربت الشمس قال لرجل: "انزل فاجدح لنا". قال: يا رسول الله، لو أمسيت. قال: "انزل فاجدح لنا". قال: يا رسول الله، إن عليك نهاراً. قال: "انزل فاجدح لنا ". فنزل فجدح، ثم قال: "إذا رأيتم الليل أقبل من هاهنا فقد أفطر الصائم، وأشار بإصبعه إلى قبل المشرق. رواه البخاري (1956).
الجدح: تحريك السويق ونحوه بالماء بعود. "فتح" (4/232).

وفي "صحيح مسلم" (2/771-772) من حديث مالك بن عامر قال: دخلت أنا ومسروق على عائشة، فقال لها مسروق: رجلان من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كلاهما لا يألوا عن الخير، أحدهما يعجل المغرب والإفطار، والآخر يؤخر المغرب والإفطار، فقالت: مَنْ يُعَجِّلُ المغرب والإفطار؟ قال: عبد الله. قالت: هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع. وعبد الله هو ابن مسعود.

وروى البخاري (1957) من حديث سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:  "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر".

وروى أبو داود (2348) من حديث أنس بن مالك قال: كان صلى الله عليه وسلم يُفطر على رطبات قبل أن يُصَلِّي، فإن لم تكن رطبات فعلى تمرات، فإن لم تكن حسا حسوات من ماء. وحسَّنه الألباني في "الإرواء" (922).

وروى أيضاً (2347) من حديث سلمان بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان أحدكم صائماً فليُفطر على التمر، فإن لم يجد التمر فعلى الماء، فإنه طهور" وقال عنه الترمذي (795): حسن صحيح.

7-  وكان صلى الله عليه وسلم يقول إذا أفطر: "ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله تعالى".
أخرجه أبو داود (2349)، والدار قطني (2/185)، والحاكم (1/422) من حديث ابن عمر، وحسَّنه الدار قطني والألباني في "الإرواء" (920).

8- وكان صلى الله عليه وسلم إذا أفطر عند قوم دعا لهم.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان إذا أفطر عند أهل بيت قال لهم: "أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامكم الأبرار، وصلَّت عليكم الملائكة" رواه أحمد (3/118)، وصححه الألباني في "الكلم الطيب" (140).

9-  وكان صلى الله عليه وسلم ربما واصل في رمضان الصيام إلى اليوم التالي:
ولكن هذا كان من خصائصه صلى الله عليه وسلم، فلا يشرع للإنسان الوصال، ومَنْ أحَبَّ أن يواصل فقد رخَّصَ فيه النبي صلى الله عليه وسلم، إلى السَّحر، والأولى تَرْكُهُ.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال، فقال رجل من المسلمين: فإنك يا رسول الله تواصل؟! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأيكم مثلي، إني أبيت يُطعمني ربي ويسقيني".
فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوماً، ثم يوماً، ثم رأوا الهلال، فقال: "لو تأخَّر الهلال لزدتكم". كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا. رواه البخاري (1965)، ومسلم (2/774).

وعن أنس بن مالك قال:
أخذ يواصل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذاك في آخر الشهر، فأخذ رجال من أصحابه يواصلون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بال رجال يواصلون، إنكم لستم مثلي، أما والله لو تمادَّ لي الشهر لواصلت وصالاً يدع المتعمقون تعمقهم" رواه مسلم (2/776).

(فائدة)
قال العلامة ابن القيم:
"وقد اختلف الناس في هذا الطعام والشراب المذكورين على قولين:
أحدهما: أنه طعام وشراب حسي للفم.
الثاني: أن المراد به ما يغذيه الله به من معارفه، وما يفيض على قلبه من لذة مناجاته، وقرة عينه بقربه، وتنعمه بحبه، والشوق إليه، وتوابع ذلك من الأحوال التي هي غذاء القلوب، ونعيم الأرواح، وقرة العين، وبهجة النفوس والروح والقلب بما هو أعظم غذاء وأجود وأنفعه، وقد يقوى هذا الغذاء حتى يغني عن غذاء الأجسام مدة من الزمان)".
انتهى من "زاد المعاد" (2/32).

والصحيح هو المعنى الثاني كما نص على ذلك ابن رجب في "لطائف المعارف" (ص:345).

المصدر:
https://islamqa.info/ar/articles/29/