إدراك عظمة الله في زمن الكورونا
بقلم: فاتن صبري

ففروا إلى الله!
في زِيارة لنا لدولة جَنوب أفريقيا، رأيت ما لا يَخطُر على البال مِن جَمال يأخذ بالألباب، حتى وصلنا إلى منطقة رأس الرجاء الصالح في مدينة كيب تاون، وأدركت أنني في عالم آخر.

شواطئ من البطاريق وعوالم للطيور والفراشات بألوان لم أرها في حياتي مع كثرة تجوالي وترحالي.

وفي هذا المكان الذي يمتلئ بالخُضرة والبهجة، يعيش إنسان بسيط من دولة ماليزيا وقد وُلد في هذا المكان وترعرع.

رجلٌ مُسِنّ كان يعمل سائقاً وقد أخذنا في جولة لمدة عشرة أيام في هذه المدينة.

ما أدهشني أنني عندما سألته عمّا إذا كان قد زار مكانا آخر في العالم، قال: أنا لا أعرف إلا مكة، ولا أريد أن أعرف إلا مكة، وإنني كلما حصلت على مبلغ من المال ذهبت لأزور مكة.

وقال إنهم يذهبون بقوافل يقطعون فيها القارة السوداء وتأخذ هذه الرحلة منهم الكثير من الوقت والجهد والمال، لكنه يُصر على الذهاب كلما حصل على المال إلى مكة.

تأثرتُ كثيراً وقُلت في نفسي، رجلٌ يترك هذا الجمال ليذهب إلى أرض مُقفرة لا زرع فيها ولا شجر، وحينها تذكَّرتُ الآية الكريمة (ففرُّوا إلى الله)، وقلت في نفسي: صدق الله العظيم.

ما أعظم هذا الخالق الذي زرع في قُلوبنا بِذرة التعلّق به، والشوق للقائه والذي سهّل علينا الطريق إليه، وسُررت كثيراً.

وما قدروا الله حق قدره!
" وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ ۖ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ" (الأنعام: 91).

من القصص الجميلة التي أذكرها لحوار لي مع دُبلوماسي من الصين يتكلم الإنجليزية بطلاقة، وقد كان قد أضحكني عندما قال: إن الخالق خلق الكون وانشغل، ولم يعد يتدخل فيه.

بصراحة ظننت أنه يستهزأ، لكنني عَلمت فيما بعد أن هذه العقيدة من أساسيات دِيانة مُنتشرة في العالم.

قلتُ له: إن الله تعالى يعلم كل صغيرة وكبيرة في هذا الكون، وما تسقط من ورقةٍ إلا یعلمُها، وما تخرج من ثمراتٍ من أكمامها، وأحصى كُلَّ شيءٍ عددًا.

فقال: ألیس عجيبا أَن يتدخل الخالق في كل صغیرة وكبیرة؟

قُلت له: ببساطة إن الذبابة التي تبدو تافهة في نظر الناس، مُمكن أن تتسبَّب في نقل الأوبئة والأمراض، ويُمكن لها أن تُغير موازين القوى. ألم تكن البعوضة سببا في مصرع الإسكندر؟

كما يكفي أن نرى في وقتنا الحاضر من انتشار الميكروبات الصغيرة التي يخشاها الإنسان دون أن يراها وتُؤثر في مصيره.

إن عظمة الخالق أنه وحده یعلم قیمة كل شيء.

إنني دائماً ما أتذكَّر حِواري مع هذا الدبلوماسي، وأقول في نفسي، إنها فعلاً لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القُلوب التي في الصدور.

إن الدول العُظمى تتسابق لاستعراض ما لديها من قُوة وجُيوش بعمل العُروض العسكرية، والله تعالى يُرينا عظمته بما لا تراه العيون.

إن انتشار فيروس الكورونا في هذه الأيام، جعل العالم يَستشعر عظمة الخالق، وكيف تبدَّلت الموازين واختلفت المعايير والأولويات، وكيف انهارت أمام هذا الكائن المِجهري الأسلحة النووية والهيدروجينية، لينهار غُرور الإنسان أمام الله.

يقول ابن القيم:
"تأمّل خِطاب القرآن، تَجِدُ مَلِكاً له المُلك كُلّه، ولهُ الحَمدُ كُلّه، أَزِمّة الأمور كُلّها بِيده، وَمصدَرُها منه، وَمَردُّها إليه، لا تَخفى عليه خافية في أقطار مملكته، عالِماً بما في نُفوس عبيده، مُطّلعاً على أسرارهم وعلانِيتهم، مُنفرداً بتدبير المملكة، يَسمع ويَرى، يَمنع ويُعطي، ويُثيب ويُعاقب، ويُكرم ويُهين، يخلق ويرزق، ويُميت ويُحيي، ويَقدر ويَقضي ويُدبّر".

عظمة الله تتجلى في تواصله مع خلقه:
لقد شدَّني كثيراً حواري مع الصيني، وعكفتُ على قراءة المزيد عن هذا الدين الذي يُؤمن أتباعه أن الخالق خلق الكون وتركه، ولم يتواصل معنا عن طريق الرُّسُل، وعكفتُ على البحث على طريقة للرَّد عليه وعلى غيره ممن يتبنون هذا الاعتقاد، وهُو ما يُسمى لديهم بمفهوم الحِياد الإلهي.

خلال بحثي ودراستي لهذه النقطة، وَجدت أن القرآن الكريم أَقر بتواصل الله مع خَلقه عن طريق الرُسل وتجلّت عظمة الله بتقديم دلائل تواصله مع الإنسان في أكثر من موضع في القرآن الكريم.

"رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا" (النساء: 165).

بدايةً أكّد سُبحانه وتعالى بأن هناك حِكمة من خلق الإنسان.

"أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَیْنَا لَا تُرْجَعُونَ" (المؤمنون: 115).

وأكَّد بالنفي مِراراً أن يكون اللهو أو اللعب هو الغایة من الخلق.

" وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ" (الأنبياء: 16).

"لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِینَ" (الأنبياء: 17).

وأكَّد استسلام جميع ما في السماوات والأرض له سبحانه.

"أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ" (آل عمران: 83).

وبَّين أنه خَلق الجِن والإنس لعبادته.

"وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِیَعْبُدُونِ" (الذاريات: 56).

وبَيَّنَ أن تَميُّز الإنسان هو بالتوجُّه لرب العالمين مُباشرة وإخلاص العبودية له، ويكون بذلك حَقق حِكمة الخالق بجعل الإنسان على رأس المخلوقات.

" وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۗ وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا" ( النساء: 125).

والعِبادَة المقصودة هنا، هو بمعناها الشامِل، وهو مَعرِفة رِبّ العالمين والتَواصُل مَعه والتعَرّف على صِفاته. وتمجيده وتنزيهه عمّا لا يليق به وإفراده بالعبادة.

إضافة لما أشار إليه القرآن الكريم، هُناك عدد من الأدلة العقلية على تَواصل الخالق مع البشر، ومنها:
الحكمة:
فمثلاً إذا بنى الإنسان مَسكناً، ثم تركه بدون منفعة له أو لغيره أو حتى لأولاده، فإننا بطبيعة الحال نَحكم عليه بأنه إنسان غير حكيم أو غير سوي. لذلك - ولله المثل الأعلى- فإنه مِن البديهي أن يكون هناك حِكمة من خلق الكون، وتَسخير ما في السماوات والأرض للإنسان.

الفطرة:
يُوجد في داخل النفس البشرية دافعاً فِطرياً شديداً لمعرفة أصله وَمصدره والغاية من وُجوده، إن فطرة الإنسان تَدفعه دوما للبحث عن المُتسبب بوجوده.

فالشخص الذي يُولد ولا يَجد والده أو والدته، تبقى لديه رَغبة جامحة للبحث والتَعرّف على أُمه وأَبيه المُتسببين في وُجوده في هذه الحياة.

وكذلك الإنسان تَدفعه فِطرته دوما للبحث عن المُتسبب في وُجوده. والفطرة السليمة التي لم تتأثر بشيء يمكن لها أن تهتدي لخالقها ولكنها غير كافية ويبقى الإنسان بحاجة لهداية من رب العالمين من خلال إرسال الرسل، لإرشاده إلى الطريق السليم ومعرفة خالقه على النحو الذي يليق به.

فنجد أن كثيراً من الشعوب وَجدت طريقها في الرسالات السماوية، في حين أن غَيرها من الشعوب لا زالت في ضلالها تبحث عن الحقيقة، وتوقفت في تفكيرها عند الرموز المادية الأرضية.

إن وُجود الدافع الفطري لدى الإنسان للتواصل مع خالقه ومعرفه الغایة من وُجوده ومعرفة مآله بعد الموت، بزغت عند الإنسان مُنذ القدم، ووضع لها الأساطير، وأَسّس لها الفلسفات التي تقوم على هذه الأسئلة الوُجودية والمِحورية.

إن وُجود هذه الأفكار في وعي الانسان وتوجهه للبحث عن أجوبة في هذا المجال، تُعطينا دليلا ً قوياً على أن هناك إرادة غيبية تقف وراء ذلك، وتدفع بالإنسان للبحث والتواصل مع خالقه.

وإنه لمن المُستنكر أن يُترك المخلوق بهذه الفطرة بدون ارشاد أو هداية من المصدر الذي زَرع تلك الفطرة فيه.

الأخلاق:
إن ظمئنا للماء هو دلیل على وُجود الماء قبل أن نعرف بِوجوده.

كذلك شوقنا إلى العدل هو دلیل على وُجود العادل.

فالإنسان الذي یُشاهِد ما في هذه الحَیاة من نقائِص، ومِن ظُلم الناس بعضهم البَّعض، لا يقتنع بأن الحیاة يُمكن أن تنتهي بنجاة الظالم وضياع حق المظلوم.

بل إن الإنسان يَشعر بالراحة والطمأنينة عندما تُطرح عليه فكرة وُجود البعث والحياة الآخرة والقصاص. لا شك أن الإنسان الذي سوف يُحاسَب على أعماله، لا يُمكن أن يُترك دون توجیه وإرشاد، وبدون ترغیب أو ترهیب، وهذا هو دور الدين.

كما أن وُجود الديانات السماوية الحالية الذي يُؤمن أتباعها بألوهية مصدرها، يُعتبر دليل مُباشر على تواصل الخالق مع الَبشر.

وحتى وإن أنكر المُلحدون إرسال رب العالمين لرسل أو كُتُب سَماوية، فيَكفي وُجودها وبَقائها دليلاً قوياً على حقيقة واحدة وهي رغبة الإنسان الجامحة في التواصل مع الإله، واشباع الفراغ الفطري لديه.

نَجد في القرآن الكريم الحِرص الواضح على تقديم الأدلة على صِدق الأنبياء والمُرسلين، واختيار الأسلوب في الإقناع الذي يُناسب كل زمان ومكان.

فليس من المنطق أن نقبل أو نُؤمن بوجود خالق، ولا يكون هُناك تواصل (طريقة، شريعة أو منهاج تواصل) معه، وهذا هُو الدين.

إن من صِفات الخالق الحكمة، ومن الصِّفات المَفطورة في الإنسان هو تنازع الخير والشر وَوُجود الإرادة للاختيار.

فمن البَديهي أن يَتبين لنا حتمية حكمة الخالق، ويكفي وُجود الموت على حتمية الحساب.

فالموت ليس افناء إنما هو مرحلة الانتقال للحساب.

وهذا هو دور الديانات السماوية في تبيان هذه الحقيقة.

عظمة الخالق تتجلى في إجابة المُضطر:
في حِوار لي مع سَيًدة ألمانية -مُتزوِّجة من أرجنتيني-، وأُم زوجها الأرجنتينية عن عَظمة الخالق، وكان اللِّقاء بدون حُضور الزوج، وكُنت قد أدركت أن السيدة الألمانية لا تَعتقد بوُجود إله، لكن حَصَل أثناء الحِّوار ما أبكانا جميعاً.

والدة الزَّوج كانت تَسألني بإلحاح عن المَصاعِب التيً يَتعرَّض لها الإنسان، وكيف يَتَصرَّف للنجاة مِنها، وقد كان هذا الحِوار مُؤثر للغاية، لدرجة أنه أبكى والدة الزوج، عندما كُنت أشرح عن رحمة الله وحِكمته من وُجود المصاعب والآلام التي قد يَتعرَّض لها الإنسان في الحياة.

وكُنت مُستطردة في الحديث عن صِفات الجلال وَصِفات الجَمال للخالق، حتى قالتا لي: إذن ما الحَلّ؟ ماذا نَفعل عند تَعرُّضِنا للشدائد؟
قلت لهم: فقط قولوا يا رَبّ.

قالتا: كيف؟

وكان ُسؤالهما قد أثار فُضولي، وقد كُنت قد أرشدتهما لكيفية رَفع اليَد عِند الدُّعاء وكلمات الدُّعاء، وقُلنا بصوت واحد يا رَبّ.

وفجأة ونحن ما زلنا نُردد الكلمات، حتى جاءت مُكالمة هاتفية للألمانية بخبر جَعلها تبكي فرحاً، وتقفز من شِدة فرحها، وتأخذني تارة بالأحضان وتحتضن أُم زوجها تارة أخرى، تَزامنا مع سُؤال والدة زوجها لها بقولها: هل خَرَج، هل خَرَج؟ وقالت لها: نعم نعم.

وأخذوني بالأحضان سوياً وقالوا: شكرا يا رَبّ.

وقد فَهِمتُ لاحقاً أن الزوج كان مَحجوزاً  في السَجن من ثلاثة أسابيع لتَعارُض في بياناته الشخصية لدى الحكومة، وقد كان ذا مركز في المُجتمع، وحَجزُه بهذه الطريقة كان صدمةً لهم.

قالت لي الألمانية كلمات لن أنساها في حياتي، قالت: أشكركِ لأنكِ أخرجتِ من قلبي ما لم أعرف أنه مَوجود، لم أكن أتخيل في حياتي أنني مُؤمنة بالله.

فأدركت حينها عظمة الله الذي أجاب الدعاء في تلك اللحظة وهدى قلوباً تتوق لمعرفته.

كان قد أسعدني كثيراً ما اعترفت به لي هذه السيدة، حيث أثبَت ما أُردده دائما لطلابي في مُحاضراتي للمسلمين وحواراتي مع غير المسلمين، بقناعتي الكاملة أن الإلحاد أصلاً غير مَوجود، والجميع مُؤمن بوجود الله، شاء أم أبى، عَرَف أم لم يَعرِف.

ودورنا فقط مُساعدة مَنْ يَدّعي الإلحاد على إظهار ما يُخفيه من الإيمان، أو يُحاول إخفاءه.

وما أحوجنا جميعا الآن في هذه الظروف من انتشار مرض الكورونا لدعاء المُضطر، وكأننا جميعا في بطن الحوت، فما أن أحوجنا أن نُردد سويا الآية الكريمة (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين).

لماذا الدين؟
سألتني ذات يوم طبيبة بُرتغالية عن أهمية اعتناق الدين الإسلامي، ولماذا عليها اعتناق أي دين أصلاً؟ ولماذا لا تكتفي بإيمانها بالله فقط، وأن تَعبُده بطريقتها.

وقالت: إنها مُؤمنة بوُجود خالق للكون لكنه لا يتواصل مع البشر عن طريق الرسل.

وقالت: إنها تقوم بأعمال خيرية وتُساعد البشرية حتى الحيوانات، لكنها لا تنتظر أجراً من الله وتعمل هذا في سبيل الإنسانية، وأن سعادتها ومُكافئتها تنتظرها من البشرية.

قٌلت لها: وهل تعتقدي أن الإنسانية لا تَفنى؟ هل سعادة الإنسانية دائمة؟ عند فناء الإنسانية لن يبقى إلا الحي الذي لا يموت.

أنتِ كمن يَدْرُس اثني عشر سنة على مقاعد الدراسة ويقول: لا أريد الشِّهادة.

تخيَّلي نفسك مُشتركة في مؤسسة ضمان اجتماعي للحصول على راتب تقاعدي، وأعلنت الشَّرِكة أنه لن يكون بمقدورها دفع الرواتب التقاعدية وسيتم إغلاقها قريباً، وعلمتي أنتِ بذلك، هل ستستمِرّين بالتعامل معها.

المُؤمِن من يَعمَل ويَجتَهِد ويُساعد الإنسانية لكن في سبيل الله، وبالتالي سوف يَحصل على سَعادة الدُنيا والآخرة.

قُلت لها: بخصوص أهمية وُجود الدين، تخيلي أنك تسيرين في طريق ولا تعرفين نهايته، وأمامك خيارين، إما أن تتبعي التعليمات الموجودة في الطريق على اللافتات، أو تُحاولي التخمين، مما قد يُسبب لكِ الضياع والهلاك.

أو تَخيّلي أن تشتري جِهاز تلفاز وتحاولي تشغيله بدون الرُّجوع إلى تَعليمات التَشغيل، فسوف تُفسديه.

جِهاز التلفاز الصادِر من نفس المَصنع، يَصِلُني هنا مثلاً مع نَفس كُتيب التعليمات التي تَصِلُكِ إلى البُرتغال، فيَجب علينا استخدامه بنَفس الطَّريقة.

نَجِد بَعض الشُّعوب للتواصل مع رب العالمين تقوم بالرقص والغناء في دور العبادة، وغيرها ممن يُصفّق ليُوقِظ الإله حسب عقيدتهم.

إن من عظمة الله أن جَعل لنا نِظاماً نَسير عليه جميعا، ليُنظّم عِلاقتنا به، وعِلاقتنا بمن حولنا، وهو ما يُسمّى بالدِّين.

لا يُمكن للبَشر أن يَعبُدوا الله باتباع أهواءهم، لأنهم سَوف يَضُرّوا بأنفُسهم أولاً قبل أن يَضرّوا غيرهم.

فمنهم من يَعبد الله باتخاذ وسيط، ويتَصور أن الله يأتي بصورة بشر أو حجر، فالله يُريد أن يحمينا من أنفُسنا عندما نَعبُد ما لا يَنفعُنا ولا يَضُرنا، بل ويَتسبّب في هلاكنا في الآخرة.

فعِبادة غير الله مع الله تُعد أعظم الكبائر، وعِقابها الخُلود في النار.

سألتني: لماذا اتخاذ الوسطاء في عبادة الله يستحق الخلود في النار؟

كما هو معروف في القانون البشري أن المَساس بحق المَلِك أو صاحب الأمر لا يستوي مع غيرها من الجرائم الأخرى.

فما بالُكِ بِحقّ مَلِك المُلوك، إنّ حقّ الله تعالى على عِباده أن يُعبَد وُحدَه، وحَقّ العِباد هُو الحصول على عِلاقة مُباشرة معه بدون وسيط، وبالتالي الحُصول على الأمان في الدنيا والآخرة.

الدين الصحيح:
سألتني بعدها عن الدِّين الصحيح الذي يَجب أن تعتنقه بعد إيمانها بالله.

قُلت لها: إنه من عَظمة الله أن جعل الدين الصحيح سهل ومنطقي، ومُوافق للفطرة التي فطر الناس عليها، وهو عبادته وحده وعمل الصالحات وترك المنكرات، وهو الدِّين الذي دعا إليه جميع الأنبياء..

ويُمكن تمييز الدِّين الصَّحيح عن غيره من خلال ثلاثة نقاط أساسية:
*    صفات الخالق أو الإله في هذا الدين.
*    صفات الرسول أو النبي.
*    مُحتوى الرسالة.

فالرِّسالة السَّماوية أو الدِّين، لا بُد أن يَحتوي على وصف وشرح لصِفات الجَمال والجَلال للخالق، والتعريف بنفسه وذاته وعلى أدلة وُجوده.

"قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)" (الإخلاص 1-4).

وأمَّا فيما يَختص بمفهوم الرسول وصفاته، فان الدين أو الرسالة السماوية:
تشرح كیفیة اتصال الخالق بالرَّسول.
"وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحى" (طه: 13).
تُبین أنّ الأنبياء والرُّسل مَسئولون عن التبليغ عن الله.
"يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ...." (المائدة: 67).
وأنّ الرُسل لم يأتوا لدعوة الناس لعِبادتهم، بل لعِبادة الله وحده.
"مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللَّهِ ولكن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ" (آل عمران: 79).
وتُؤكد أن الأنبياء والمُرسلين هم الذُروة في الكمال الإنساني المَحدود.
"وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عظيم" (القلم: 4).
وأن الرُّسل يُمثلون القُدوة البشرية للإنسان.
"لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا" (الأحزاب: 21).

إنه من غَير الممكن، قَبول دِيانة تُخبرنا نُصوصها أنّ أنبيائها زُناة، أو قتلة أو سفاحون وخونة ولا دِيانة تَعج نُصوصُها بالخيانة في أسوء معانيها.

أمَّا فيما يَختص بمُحتوى الرِّسالة یَنبغي أن تتمیز بالآتي:
التعريف بالإله الخالق.
إنّ الدين الصحيح لا يَصِف الإله بِصفات لا تَليق بِجلاله أو تُقلل من قدره.
كأن يَأتي بِصورة حَجر أو حَيوان، أو أن يَلد أو يُولد، أو يكن له مثيل من أحد من مَخلوقاته.
".....لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ" (الشورى: 11).
"اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ۚ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ" (البقرة: 255).

توضيح الغایة والهَدِف من الوُجود.
"وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِیَعْبُدُونِ" (الذاريات: 56).
" قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا" (الكهف: 110).

أن تكون المَفاهيم الدینیة في حُدود الإمكانيّات البَشرية.
".....يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ....." (البقرة: 185).
"لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ..."(البقرة: 286).
" يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا" (النساء: 28).

تقديم البُرهان العَقلي على صِحّة ما يَقوم بِعرضِه مِن مَفاهيم ومُسلّمات.
فَيجب أن تُعطینا الرِّسالة البَراهين العَقلِيّة الواضِحة والكافية للحُكم على صِحّة ما جاء بها.
فلم یَكتف القرآن الكريم بسوق الأدلة والبراهين العقلية، بل تحدى المُشركين والمُلحدين على أن یُقدِّموا البراهين على صِحّة ما يقولون.
"وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ" (البقرة: 111).
"وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ"(المؤمنون: 117).
" قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ"(يونس: 101).

أن لا یُوجد تناقض بین المضامين الدینیة التي تَطرحُها الرِّسالة.
"أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا" (النساء: 82).
"هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ" (ال عمران: 7).

ألا یتناقض النَص الديني مَع قانون الفِطرة الأَخلاقي للإنسان.
" فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ" (الروم: 30).
" يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27)" (النساء: 26 - 27).

ألا تتناقض المَفاهيم الدینیة مَع مَفاهيم العِلم.
" أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ۖ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ" (الأنبياء: 30).

ألا یكون مُنعزلاً عن واقع حیاة الإنسان، ومُواكِب للتقدّم الحَضاري.
" قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ" (الأعراف: 32).

صالِح لِكُلّ زَمان وَمكان.
"الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا" (المائدة :3).

عالمية الرِّسالة:
"قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ" (الأعراف: 158).

نَخلُص مِمّا سبق أنّ مِن عَظِمة الخالق أنه تواصل مع خلقه، وأرسل الرُّسل بالدين السماوي الصحيح والسليم لكافة البشر، رحمةً بهم وللتخفيف من معاناتهم، ولكن كثيراً من الناس لا يُدركون هذه الحقيقة.

فنجد فِئة ًمن الناس تُنكر إرسال الله للرسل، في حين أن فِئةً أخرى من الناس جعلوا مع الخالق شُركاء ووسطاء واتبعوا ديانات مُختلفة للتواصل مع الخالق. وآخرين عانوا من مُعتقدات شُعوبهم وانتهى بهم المطاف إلى ترك الدين بالكلية.

إن الحقيقة التي نُريد أن نُثبتها هنا أنه لا بد من وُجود دين أولاً، وأنه لا بُد أن يكون دين واحد، لأن الخالق واحد (ولكن بشرائع ومناهج مختلفة تُناسب الأمم)، وأخيرًا، أنه لا بُد أن يكون الدين الصحيح هو دين الإسلام.

فكيف يقبل الله من عباده دينا بدون التسليم له بالوحدانية والعبادة.

فإذا نظرنا على وجه هذه البسيطة على مدار الزمان والمكان، فلن نجد غير الإسلام ديناً بمفهومه السمح والواضح الذي لا لبس فيه.