3ـ أهمية القوانين في حياة البشر*
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

وبعد...
فلنواصل الحديث حول قصة ابني آدم التي قصّها الله -تعالى- في القرآن، وتلاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أمة الإسلام بالحق الذي لا يشوبه تلبيسٌ ولا تخييلٌ.

وحديثنا اليوم يدور في فَلَك عبرةٍ أخرى من العبر التي تتمخّض عنها هذه القصة القرآنية العجيبة، وهي حاجة النفس الإنسانية واضطرارها الى قوانين تحكم حركتها، وتضبط تحركها في هذه الحياة، لأنها لو تُركت لذاتها لربما سقطت بفجورها، أو تزكت بتقواها.

وحين أمسكَت النفسُ بزمام الأمر حَسَدَت وحَقَدَت، واعتدَت وقتلَت، ولهذا كانت النفس البشرية مضطرةً إلى تشريعٍ وتقنينٍ يأتيها من خارجها، ويأتيها من أعلى منها، ليكون تشريعًا محايدًا لا يُفضِّل نفسًا على نفس، وليكون تشريعًا وافيًا يلبي حاجة كل نفس، وكل حاجات النفس.

من أجل ذلك فرض الله على الأمم السابقة فيما أنزل إليهم من شرع حرمة النفس، ووجوب حفظها، بعد انتهاء قصة ابني آدم (مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا).

أي: من أجل ما فعل ابن آدم الأول بأخيه فرَضنا على بني إسرائيل فيما شرعنا لهم حرمة النفس وخطورة قتلها بغير ذنبٍ، وفضلَ حفظها من الهلكة والموت، وكان من ذلك أن أعلمناهم أن من قتَلَ نفسًا في غير جريمةٍ فعَلَتها مِن قتلٍ أو إفسادٍ في الأرض؛ فكأنه قتل الناس جميعا، لأن من اجترأ على قتل نفسٍ بغير ذنبٍ هانت عليه كل النفوس، وكان الناس كلهم تحت سيفه وبطشة يده سواء، كما أنه بقتله لنفسٍ ما من الأنفس قد قطع نسل هذه النفس، وقتَلَ أولادها وأحفادها ومَن بعدهم لو قُدِّر لها أن تعيش (فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا).

وبالتالي، ومقابَلةً لما سبق (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) مَن حفظ حق النفس في الحياة، وحافظ على حياتها فقد عرف قيمة النفس الإنسانية وحرمتها، والنفوس كلها في تصوره كذلك ذاتُ حرمة، فإنه مأمونٌ على الناس جميعًا، ولذلك قال -تعالى-: (فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا)، وإنه حين استحيا نفسًا بحفظ حياتها فقد أحيا مِن ورائها أولادًا وأحفادًا، وأناسيّ كثيرًا.

وجاء التصريح بعد ذلك في سورة المائدة، بما فرضه الله على بني إسرائيل في مجال حفظ النفس، فيقول -سبحانه وتعالى-: (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ...)  إلى أن قال: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ)  ومعنى ذلك أن من قَتلَ ظلمًا يُقتل عدلًا، ومن قَطع اعتداءً يُقطع انتقامًا، ومن جَرحَ يُجرح كذلك أو يَدفع قيمة ذلك وديته.

ومِثل هذا فرضه الله علينا كذلك في شريعته المنزلة إلينا، وما ذَكَرَ الله قصة ابني آدم في قرآننا، ولا ذَكَرَ ما فرضه على بني إسرائيل في هذا الشأن؛ إلا ليمهد لأمة القرآن لما سيأمرهم به في هذا المجال أو يؤكده، ومصداق ذلك أنه -سبحانه- قال في أعقاب هذه القصة في سورة المائدة: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ).

والمعنى أن بعضًا من الناس كانوا يقفون على الطرق يعترضون المارة فيخوفونهم، ويسلبون أموالهم غصبًا، ثم يقتلونهم، يفعلون ذلك كله أو بعضه، فحمَى الله النفس الإنسانية من هذا الشر الذي يعترض طريقها في الحياة، فشرع أنه ما من جزاءٍ يصلُح أن يكون مكافِئًا ورادعًا لمن يحاربون الله ورسوله، ويسعون في الأرض فسادًا؛ ما من جزاءٍ لهؤلاء إلا أن يُقَتَّلوا جزاءَ ما قتلوا، أو يُصَلّبوا جزاء ما خوّفوا وروّعوا الآمنين، أو تُقَطّع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ  جزاء ما سَلَبوا الأموال من أحرازها  الأمينة، أو يُنفوا من الأرض جزاء ما أفسدوا في الأرض، ولم يرعوا حق المجتمعات عليهم.

ومن ذلك أيضًا قول الله -تعالى- في سورة البقرة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَىٰ بِالْأُنثَىٰ  فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

وهكذا، أقر الله بحفظ النفس الإنسانية في كل شريعة مُنزَّلة، ليعلم الناسُ قيمة هذه النفس وحرمتها، وما أجمل هذا الموقف لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين أخبره أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- أنه في يوم حربٍ رأى رجلًا يُجهز  على المسلمين ويقطع رقابهم، فكَرّ عليه أسامة حتى علاه بسيفه، فقال الرجل: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، فقتله أسامة، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أقتلته بعد أن قالها؟" قال: لقد قالها خوفًا من القتل يا رسول الله، قال -صلى الله عليه وسلم-: "أفشققت عن قلبه؟".
هذا، وبالله التوفيق.