منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers

(إسلامي.. ثقافي.. اجتماعي.. إعلامي.. علمي.. تاريخي.. دعوي.. تربوي.. طبي.. رياضي.. أدبي..)
 
الرئيسيةالأحداثأحدث الصورالتسجيل
(وما من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه) (فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه)

soon after IZHAR UL-HAQ (Truth Revealed) By: Rahmatullah Kairanvi
قال الفيلسوف توماس كارليل في كتابه الأبطال عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد مُتمدين من أبناء هذا العصر؛ أن يُصْغِي إلى ما يظن من أنَّ دِينَ الإسلام كَذِبٌ، وأنَّ مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- خَدَّاعٌ مُزُوِّرٌ، وآنَ لنا أنْ نُحارب ما يُشَاعُ من مثل هذه الأقوال السَّخيفة المُخْجِلَةِ؛ فإنَّ الرِّسَالة التي أدَّاهَا ذلك الرَّسُولُ ما زالت السِّراج المُنير مُدَّةَ اثني عشر قرناً، لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا، خلقهم اللهُ الذي خلقنا، (وقت كتابة الفيلسوف توماس كارليل لهذا الكتاب)، إقرأ بقية كتاب الفيلسوف توماس كارليل عن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، على هذا الرابط: محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-.

يقول المستشرق الإسباني جان ليك في كتاب (العرب): "لا يمكن أن توصف حياة محمد بأحسن مما وصفها الله بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين) فكان محمدٌ رحمة حقيقية، وإني أصلي عليه بلهفة وشوق".
فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ على سائر البُلدان، كما فَضَّلَ بعض الناس على بعض والأيام والليالي بعضها على بعض، والفضلُ على ضربين: في دِينٍ أو دُنْيَا، أو فيهما جميعاً، وقد فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ وشَهِدَ لها في كتابهِ بالكَرَمِ وعِظَم المَنزلة وذَكَرَهَا باسمها وخَصَّهَا دُونَ غيرها، وكَرَّرَ ذِكْرَهَا، وأبَانَ فضلها في آياتٍ تُتْلَى من القرآن العظيم.
(وما من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه) (فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه)

المهندس حسن فتحي فيلسوف العمارة ومهندس الفقراء: هو معماري مصري بارز، من مواليد مدينة الأسكندرية، وتخرَّجَ من المُهندس خانة بجامعة فؤاد الأول، اشْتُهِرَ بطرازهِ المعماري الفريد الذي استمَدَّ مَصَادِرَهُ مِنَ العِمَارَةِ الريفية النوبية المَبنية بالطوب اللبن، ومن البيوت والقصور بالقاهرة القديمة في العصرين المملوكي والعُثماني.
رُبَّ ضَارَّةٍ نَافِعَةٍ.. فوائدُ فيروس كورونا غير المتوقعة للبشرية أنَّه لم يكن يَخطرُ على بال أحَدِنَا منذ أن ظهر وباء فيروس كورونا المُستجد، أنْ يكونَ لهذه الجائحة فوائدُ وإيجابيات ملموسة أفادَت كوكب الأرض.. فكيف حدث ذلك؟!...
تخليص الإبريز في تلخيص باريز: هو الكتاب الذي ألّفَهُ الشيخ "رفاعة رافع الطهطاوي" رائد التنوير في العصر الحديث كما يُلَقَّب، ويُمَثِّلُ هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث.
الشيخ علي الجرجاوي (رحمه الله) قَامَ برحلةٍ إلى اليابان العام 1906م لحُضُورِ مؤتمر الأديان بطوكيو، الذي دعا إليه الإمبراطور الياباني عُلَمَاءَ الأديان لعرض عقائد دينهم على الشعب الياباني، وقد أنفق على رحلته الشَّاقَّةِ من مَالِهِ الخاص، وكان رُكُوبُ البحر وسيلته؛ مِمَّا أتَاحَ لَهُ مُشَاهَدَةَ العَدِيدِ مِنَ المُدُنِ السَّاحِلِيَّةِ في أنحاء العالم، ويُعَدُّ أوَّلَ دَاعِيَةٍ للإسلام في بلاد اليابان في العصر الحديث.


 

 سورة لقمان الآيات من 11-15

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 49664
العمر : 72

سورة لقمان الآيات من 11-15 Empty
مُساهمةموضوع: سورة لقمان الآيات من 11-15   سورة لقمان الآيات من 11-15 Emptyالخميس 15 أكتوبر 2020, 9:06 pm

هَٰذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (١١)
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)

والكلام هنا مُوجَّه للمكابرين وللمعاندين الجاحدين لآيات الله: (هَـٰذَا..) (لقمان: 11) أي: ما سبق ذِكْره لكم من خَلْق السماوات بغير عمد، ومن خَلَق الجبال الرواسي والدواب وإنزال المطر وإحياء النبات.. إلخ.

هذا كله (خَلْقُ ٱللَّهِ..) (لقمان: 11) فلم يدَّعهِ أحد لنفسه، وليس لله فيه شريك (فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذيِنَ مِن دُونه..) (لقمان: 11) أي: الذين اتخذتموهم شركاء مع الله، ماذا خلقوا؟

وليس لهذا السؤال إجابة عندهم، حيث لا واقع له يستدلون به، ولا حتى بالمكابرة؛ لأن الحق أبلج والباطل لجلج، لذلك لم نسمع لهم صوتاً ولم يجرؤ واحد منهم مثلاً على أن يقول آلهتنا خلقت الجبال مثلاً أو الشمس أو القمر، فلم يستطيعوا الردّ رغم كفرهم وعنادهم.

والحق سبحانه في الرد عليهم يبين لهم أن المسألة لا تقف عند عدم قدرتهم على الخَلْق، إنما لا يعرفون كيف خُلُقوا هم أنفسهم: (مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ عَضُداً) (الكهف: 11).

وفي قول الله: (وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ عَضُداً) (الكهف: 51) دليل على صِدْق القرآن ومظهر من مظاهر إعجازه، فقد أخبرنا الحق سبحانه أنه سيُوجد مُضِلون يضلون الناس في مسألة الخَلْق، ويصرفونهم عن الحق بكلام باطل.

وفعلاً صدق الله وسمعنا من هؤلاء المضلين مَنْ يقول: إن الأرض قطعة من الشمس انفصلتْ عنها، وسمعنا مَنْ يقول إن الإنسان في أصله قرد.. إلخ، ولولا هذه الأقاويل وغيرها ما صدقت هذه الآية، ولجاء أعداء الإسلام يقولون لنا: أين المضلون الذين أخبر عنهم القرآن؟

فكأن كل كلام يناقض (هَـٰذَا خَلْقُ ٱللَّهِ..) (لقمان: 11) هو كلام مُضِل، وكأن هؤلاء المضلين -في غفلة منهم ودون قصد- يؤيدون كلام الله: (وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ عَضُداً) (الكهف: 51).

ونجد هذه المسألة أيضاً في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حيث يطلع علينا من حين لآخر مَنْ ينكر سنة رسول الله ويقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما كان فيه من حلال حللناه، وما كان فيه من حرام حرمناه.

وعندها نقول: سبحان الله، كأن الله تعالى أقامكم دليلاً على صِدْق رسوله، فقد أخبر الرسول عنكم، وعما تقولونه في حَقِّ سنته، حيث قال: "يوشك رجل يتكئ على أريكته، يُحدَّث بالحديث عني فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال حللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه".

ومعنى: (هَـٰذَا خَلْقُ ٱللَّهِ..) (لقمان: 11) أي: مخلوقاته (فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ ٱلَّذِينَ مِن دُونِهِ..) (لقمان: 11) ولن نطلب منك خَلْقاً كخَلْق السماء والأرض والجبال، ولا إنزال المطر وإحياء الأرض بالنبات، بل اخلقوا أقلّ شيء في الموجودات التي تروْنها، وليس هناك أقل من الذباب: (إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ ٱجْتَمَعُواْ لَهُ..) (الحج: 73) بل وأبلغ من ذلك: (وَإِن يَسْلُبْهُمُ ٱلذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ ٱلطَّالِبُ وَٱلْمَطْلُوبُ) (الحج: 73).

ثم يختم الحق سبحانه الآية بقوله: (بَلِ ٱلظَّالِمُونَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ) (لقمان: 11) أي: ضلال محيط بهم من كل اتجاه، والضلال المبين المحيط لا تُرْجى معه هداية، فلن يهتدي هؤلاء، وما عليك إلا أنْ تصبر على دعوتك يا محمد حتى يُبدلك الله خيراً من هؤلاء، ويكونون لك جنوداً يؤمنون بك، وينصرون دعوتك.

وقد كان.

ثم يقول الحق سبحانه: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ ٱلْحِكْمَةَ أَنِ ٱشْكُرْ...).



سورة لقمان الآيات من 11-15 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 49664
العمر : 72

سورة لقمان الآيات من 11-15 Empty
مُساهمةموضوع: رد: سورة لقمان الآيات من 11-15   سورة لقمان الآيات من 11-15 Emptyالخميس 15 أكتوبر 2020, 9:09 pm

وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (١٢)
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)

الحق سبحانه آتانا قبل أنْ يخلقنا، وآتانا بعد أن خلقنا بالمنهج ثم وَالَى إلينا بمواكب الرسالات التي تحمل إلى كل بيئة المنهج الذي يناسبها، وقبل أن يخرج آدم عليه السلام لتحمُّل عِبء هذه الخلافة أعطى الله له تجربة، هذه التجربة مفادها أن يحافظ على منهج ربه في (افعل) و (لا تفعل) وأن يحذر كيد الشيطان.

وقد مرَّ آدم بهذه التجربة البيانية قبل أن يجتبيه الله للنبوة وكثيرون يظنون أن عصيان آدم جاء بعد أن كُلِّف بالنبوة فيقولون: كيف يعصي آدم ربه، وهو نبي والنبي معصوم؟

ونقول: نعم، عصى آدم ربه، لكن قبل النبوة، وهو ما يزال بشراً عادياً؛ لذلك قال سبحانه في حقه: (وَعَصَىٰ ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ * ثُمَّ ٱجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ) (طه: 121-122).

إذن: جاء الاجتباء بعد المعصية، فإنْ قلتَ: فما الداعي للعصيان يصدر من آدم، وهو يُعد للنبوة؟

قالوا: لأنه أبو البشر، والبشر قسمان: بشر معصومون، وهم الأنبياء، وبشر ليست لهم عصمة وهم عامة الناس غير الأنبياء، ولابُدَّ لآدم أنْ يمثل النوعين لأنه أبو الجميع، فمثَّل البشر عامة حين وقع في المعصية، ومثّل الأنبياء حين اجتباه ربه وتاب عليه، فجمع بذلك بين الملحظين.

هنا يقول سبحانه: (وَلَقَدْ آتَيْنَا..) (لقمان: 12) والإيتاء يُطلَق على الوحي مع الفارق بينهما، فإنْ أطلق الوحي فإنه ينصرف إلى الوحي للرسول بمنهج من الله، ويُعرَف الوحي عامة بأنه إعلام بخفاء.

ومن ذلك قوله تعالى في الوحي للملائكة: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلْمَلاۤئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ..) (الأنفال: 12).

ويُوحِي للبشر، قال تعالى: (وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ..) (القصص: 7).

ويوحي للحيوان: (وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ أَنِ ٱتَّخِذِي مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً..) (النحل: 68).

ومن ذلك أيضاً يوحي الشياطين بعضهم إلى بعض من شياطين الإنس أو الجن: (وَإِنَّ ٱلشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىۤ أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ..) (الأنعام: 121).

كذلك يوحي الله إلى أهل الخير من أتباع الرسل: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى ٱلْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي..) (المائدة: 111).

هذا في المعنى اللغوي للوحي وهو: إعلام بخفاء، فإنْ قصدت الوحي الشرعي الاصطلاحي: فهو إعلام من الله لرسوله بمنهجه.

وهذا التعريف يُخرِج كل الأنواع السابقة.

والحق سبحانه عبَّر عن الإيتاء العام بقوله: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ..) (الشورى: 51).

والإيتاء يُقصد به الإلهام، ويكون حين تتوفر للإنسان آلة استقبال سليمة صالحة لاستقبال الإلهام والخاطر من الحق سبحانه وتعالى، وآلة الاستقبال لا تصلح للاستقبال عن الله تعالى إلا إذا كانت على مواصفات الخالق سبحانه صانعها ومبدعها، كما يلتقط (الراديو أو التليفزيون) الإرسال، فإنِ انقطع عنك الإرسال فاعلم أن جهاز استقبالك به عطب، أما الإرسال فموجود لا ينقطع، ولله تعالى المثل الأعلى.

وله سبحانه إرسال دائم إلى عباده، لا يلتقطه إلا مَنْ صفَتْ آلة استقباله، وصلحت للتلقي عن الله، وهذه الآلة لا تصلح إلا إذا كانت على المنهج في افعل ولا تفعل، لا تصلح إذا تكونت من الحرام وتغذَّتْ به؛ لأن الحرام يفسد كيماوية الفطرة التي خلقها الله في عباده يوم أن أخذ عليهم العهد: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ..) (الأعراف: 172).

فهذه الذرية لو ظلتْ على حالها من الصفاء يوم كانت في ظهر آدم ويوم أخذ الله عليها العهد، ولو التزمتْ منهج ربها في (افعل) و (لا تفعل) لكانت أهلاً لإلهام الله؛ لأن آلة استقبالها عن الله سليمة.

وتأمل في وحي الله إلى أم موسى: (أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي ٱليَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِيۤ..) (القصص: 7).

فأيُّ آلة استقبال هذه التي استقبلتْ هذا الأمر ونفذته دون أنْ تناقشه، واطمأنتْ إليه قبل أنْ تفكر فيه؟

وكيف تقتنع الأم أن الموت المحقق يُنجي وليدها من موت مظنون؟

لذلك نقول: إذا صادف الإلهام آلة استقبال سليمة فإنه لا يوجد في النفس ما يصادره، ولا ما يبحث عن دليل، فقامت أم موسى ونفذت الأمر كما أُلقي إليها، هذا هو الإيتاء.

ومنه أيضاً قوله تعالى: (فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً) (الكهف: 65) والعبد الصالح لم يكن نبياً، ومع ذلك آتاه الله بدون واسطة، فكان هو مُعلِّماً للنبي، وما ذلك إلا لأنه عبد لله على منهج موسى، وأخلص لله تعالى فآتاه الله من عنده.

واقرأ قول الله تعالى: (يِا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً..) (الأنفال: 29) وقال سبحانه: (وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ) (محمد: 17) إذن: كلُّ ما علينا لنأخذ إلهامات الحق سبحانه أنْ نحتفظ بصفاء البنية التي خلقها الله لتظل بمواصفات خالقها، ثم نسير بها على منهجه تعالى في افعل ولا تفعل، وكان سيدنا لقمان من هذا النوع الصافي الطاهر النقي، الذي لم يخالط جسمه حرام، والذي لا يغفل عن منهج ربه؛ لذلك آتاه الله الحكمة، وقال فيه: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ ٱلْحِكْمَةَ..) (لقمان: 12).

وقد اختلف العلماء فيه: أهو نبي أم غير نبي، والغالب أنه غير نبي؛ لأن القائلين بنبوته ليس لهم سند صحيح، والجمهور اجتمعوا على أنه رجل صالح مرهف الحس، دقيق الإدراك، والحسّ كما قلنا هو الأصل الأول في المعلومات، وكان لقمان لا يمر على الأشياء إلا بهذا الحسِّ المرهف والإدراك الدقيق العميق، فتتكون لديه مُدْركات ومواجيد دقيقة تختمر في نفسه، فتتجمع لديه مجموعة من الفضائل والقيم التي تسوس حركة حياته، فيسعد بها في نفسه، بل ويسعد غيره من حوله بما يملك من المنطق المناسب والتعبير الحسن، كذلك كان لقمان.

وللعلماء أبحاث حول شخصية لقمان وجنسيته، فمنهم مَنْ ذهب إلى أنه كان أسود اللون غليظ الشفتين كأهل جنوب إفريقيا، لكنه مع ذلك كان أبيض القلب نقي السريرة، تخرج من بين شفتيه الغليظتين الحِكَم الرقيقة والمعاني الدقيقة.

وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قالوا: "إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم".

لذلك حين ترى مَنْ هو أقل منك في مال، أو صحة، أو جاه، أو منظر فلا تغتر بذلك، وانظر وتأمل ما تميّز به عليك؛ لأن الخالق سبحانه - كما قلنا - وزَّع فضله بين عباده بالتساوي، بحيث يكون مجموع كل إنسان يساوي مجموع الآخر، ولا تفاضلَ بين المجموعات إلا بالتقوى: "لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى والعمل الصالح".

فالذين يحلو لهم أنْ يقسموا المهن مثلاً إلى مهن شريفة وأخرى حقيرة نقول: ليست هناك مهنة حقيرة ما دام المجتمع في حاجة إليها ولا تستقيم حركة الحياة إلا بها، فكيف تحقرها؟

وكيف تحقر أهلها؟

والله لو قعد الوزراء في بيوتهم أسبوعاً ما حدث شيء، لكن لو تعطل عمال النظافة مثلاً أو الصرف الصحي ليوم واحد لحدثتْ مشكلة، ولأصبحت الدنيا (خرارة).

وكيف نحقر هذه المهن ونحقر أصحابها، وهم يرضوْنَ باليسير، ويتحملون ما لا يطيقه غيرهم، كيف نحقرهم، والله تعالى يقول: (يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ..) (الحجرات: 11).

فإن قلت: ما دام ليس نبياً، فكيف يؤتيه الله؟

نقول: بالمدد والإلهام الذي قال الله فيه: (إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً) (الأنفال: 29) فمَنْ يحافظ على مواصفات التكوين بمنطق الله يأخذ من الله مباشرة.

كما لو طلب منك ولدك مبلغاً من المال يتاجر به في السوق، فتعطيه مبلغاً يسيراً تُجرِّبه به، فإنْ أفلح وربحت تجارته يطمئن قلبك فتزيده أضعاف ما أخذ في المرة الأولى، كذلك الإنسان إن أحسن صحبته لربه داوم الله عليه فضله ووالى إليه فيضه.

لذلك يقول سيدنا عمر بن عبد العزيز: ما قصر بنا في علم ما نجهل إلا عدم عملنا بما علمنا - يعني: لو كنا أهلاً للزيادة لزادنا، لو كنا مأمونين على ما علمنا فوظّفناه في حركة حياتنا لجاءتنا فيوضات إشراقية وعطاءات من ربنا ممتدة لا تنتهي، أما إنْ أخذنا العلم فألقيناه جانباً ولم نعمل به، فما الداعي للزيادة، وأنت لم تستفِدْ بما عندك؟

وكما تكلم العلماء في شخصية لقمان وجنسيته تكلموا في حكمته، فسأله أحدهم وقد تبسَّط معه في الحديث: ألم تكُنْ عبداً تخدم فلاناً؟

قال: بلى، قال: فَبِمَ أوتيتَ الحكمة؟

قال: باحترامي قدر ربي، وأدائي الأمانة فيما وليت من عَمل، وصدق الحديث، وعدم تعرُّضي لما لا يعنيني.

وهذه الصفات كافية لأنْ تكون منهجاً لكل مؤمن، ولأنْ ينطق صاحبها بالحكمة، والله لو كانت فيه صفة الصدق في الحديث لكانت كافية.

لذلك وصل لقمان إلى هذه المرتبة وهو العبد الأسود، فآتاه الله الحكمة مباشرة، وهو ليس نبياً ولا رسولاً، وسُمِّيت إحدى سور القرآن باسمه، وهذا يدلك على أن الإنسان إذا اعتدل مع الله وأخلص في طاعته فإن الله يعطيه من فيضه الواسع، فيكون له ذِكْر في مصافِّ الرسل والأنبياء.

ويُرْوَى من حكمة لقمان أن سيده أمره أن يذبح له شاة ثم يأتيه بأطيب مُضْغتين فيها، فذبح الشاة وجاءه بالقلب واللسان، وفي اليوم التالي قال له: اذبح لي شاة وأتني بأخبث مُضغتين فيها، فجاءه أيضاً بالقلب واللسان فسأله: ألم تَأْتِ بهما بالأمس على أنهما أطيب مضغتين في الشاة؟

قال: بلى فليس شيء أطيب منهما إذا طَابَا، ولا شيء أخبث منهما إذا خَبُثَا.

وبعد لقمان جاء سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُعلِّمنا هذا الدرس فيقول: "... ألا أن في الجسد مضغة إذا صَلُحت صلح الجسد كله، وإذا فسدتْ فسد الجسد كله، ألا وهي القلب".

ويقول -صلى الله عليه وسلم- في حديث آخر: "من حفظ ما بين لحييه وما بين رِجْليه دخل الجنة".

ويُروى أن لقمان كان يفتي الناس، وكانوا يثقون بكلامه، وكان ذلك قبل داود عليه السلام، فلما جاء داود كفَّ لقمان عن الفُتْيا، فلما سألوه: لماذا امتنعتَ عن الفُتْيا؟

فقال - وهذه أيضاً من حكمته: ألاَ أكتفي إذا كُفيت؟

يعني: لماذا أتمسَّك بها وقد بعث الله لي مَنْ حملها عني، وهو يعلم تماماً أنه مجرد عبد صالح (أي: أنه أخذ الحكمة من منازلهم كما يُقال)، أما داود فرسول من عند الله، ومن الحكمة أنْ يُفسِح له هذا المجال، ويترك له ساحة الفُتْيا في القوم لعله يأتي بأفضلَ مما عند لقمان؛ لذلك تركها له عن رضاً وطيب خاطر.

والبعض يقول: إن الله خيَّره بين أن يكون نبياً أو حكيماً، فقال: أما وقد خيَّرتني يا رب، فأنا أختار الرَّاحة، وأترك الابتلاء، أما إنْ أردْتها يا رب عزمة فأنا سأقبلها سمعاً وطاعة؛ لأني أعلم أنك لن تخذلني.

والحق سبحانه يُنطِق لقمان بأشياء من الحكمة يسبق بها النبوة؛ ليبين لنا أن الإنسان من الممكن أن يكون ربانياً، كما جاء في الحديث القدسي: "عبدي، أطعني تكُنْ ربانياً، تقول للشيء كُنْ فيكون".

ذلك لأن فضل الله ليس له حدود، وليس عليه حرج، وبابه تعالى مفتوح، المهم أن تكون أهلاً لأنْ تلِجَ هذا الباب، وأنْ تكون في معية ربك دائماً.

ومما يُرْوَى من حكمة لقمان أنه غاب في سَفْرة، ثم عاد فلقيه تابعه، فقال له: مَا حال أبي؟

فقال: مات، فقال لقمان: الآن ملكْتُ أمري، ثم سأل: فما حال زوجتي؟

فقال: ماتت، فقال: جدّدتُ فراشي، ثم سأل عن أخته، فقال: ماتت، فقال: ستَر الله عِرْضي، ثم سأل عن أخيه، فقال: مات، فقال: انقصم ظهري.

وهذا الكلام لا يصدر إلا عن حكمة، فكثيراً ما يفرح الابن -خاصة العاق- بموت أبيه؛ لأنه سيترك له المال يتمتع به، أما لقمان فيقول عندما علم بموت أبيه: الآن ملكْتُ أمري؛ لأنه في حياة أبيه كان له أمر، لكن أمره ليس في يده إنما في يد أبيه، فلما مات أبوه صار أمره بيده.

وهذه الحكمة توضح لنا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أنت وما ملكت يداك لأبيك".

كأنه من العيب أن تقول في حياة أبيك: أنا أملك كذا وكذا.

أما الآن فقد تجاوز الأبناء كل هذه القيم، ونسمع الابن يقول لأبيه: اكتب لي كذا وكذا.

أما قوله: "جددت فراشي" فهي كلمة لها معنى كبير: أنا لا أُدخِل الجديدة على فراش القديمة حتى لا أجرح مشاعرها، أو أنني لا أتزوج إلا بعد وفاة زوجتي الأولى؛ ذلك لأن الغيرة طبع في النساء.

وكانت أم المؤمنين عائشة تغار حتى من ذكر السيدة خديجة، فقد دخلت فاطمة بنت محمد -صلى الله عليه وسلم- على أبيها مُغْضبة فقال -صلى الله عليه وسلم-: "ما أغضبكِ يا أمَّ أبيها" فقالت: والله إن عائشة قالت لي: إن رسول الله تزوَّج أمُّكِ ثيِّباً، ولم يتزوَّج بِكْراً غيري، فقال لها رسول الله: "إذا أعادت عليكِ هذا القول -وانظر هنا إلى أدب النبوة في الرَّدَّ وفي سرعة الخاطر- فقولي لها: ولَكِنَّ أمِّي تَزَوَّجَتْ رسولَ اللهِ وهو بِكْرٌ، وتزوَّجتيه أنْتِ وهو ثيَّبٌ".

هذا كلام النبوة، ومن بعدها لم تُعِدْها عائشة مرة أخرى.

وقد يقول قائل: وكيف تغار عائشة، وهي أم المؤمنين وزوج رسول الله؟

قالوا: هذه الغيرة لها معنى، فقد عقد رسول الله عليها وهي بنت السادسة، ودخل بها وهي بنت التاسعة، وقد جاوز -صلى الله عليه وسلم- الخمسين من عمره، ومع فارق السن بينهما رضيتْ عائشة برسول الله؛ لأنها رأتْ فيه من مزايا نوره ما جعلها تَغَار عليه رغم كِبَر سنّه وصِغَر سنها، فلم تنظر إليه على أنه رجل عجوز يكبرها، بل رأَتْ فيه ما يفوق ويعلو على مجرد الشباب.

إذن: فمعنى: "جددت فراشي" أنني أراعي مشاعر الزوجة الجديدة، فلا أُدِخلها على فراش القديمة فأصدمها به، وأُلِهب مشاعر الغيرة عندها، حتى من التي ماتت، وأنا أريد أن تكون صافية التكوين لذاتي، راضية عن كل تصرفاتي، أريد أن أمنع كل شبهة تقلق كونها سكناً لي، وأنا سَكن لها.

نعود إلى قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ ٱلْحِكْمَةَ..) (لقمان: 12) فالذي آتى هو الله عز وجل، والحكمة: مادة حكَم تدل على وَضْع الشيء في موضعه، ومنها الحاكم؛ لأنه يضع الحق في نصابه، حتى في الدواب نسمي الحديدة التي توضع في فم الفرس لأتحكم في حركته (حَكَمه) ؛ لأن الهدف من ركوب الخيل مختلف، فمرة أركبه للنزهة، ومرة أركبه لأدرك به صَيْداً، ومرة للكِّر وللفرِّ في المعركة، فكُلُّ هدف من هذه له حركة، وينبغي أنْ أتحكم في حصاني ليؤدي لي ما أريده منه.

إذن: فالحكمة تعني في معناها العام وَضَع الشيء في موضعه، وهي مجموعة من مَلَكات الفضائل تصدر عنها الأشياء التي تضع كل أمر في محله لكن بيُسْر وبلا مشقة ولا تعب، كالشيخ الذي ظل يدرس في الأزهر مثلاً عشرين أو ثلاثين سنة تذهب إليه، وتستفتيه في أمر من الأمور، فيجيبك بيُسْر وسهولة، وبدون تفكير أو إعداد..

لماذا؟

لأن الفُتْيا أصبحت ملَكَه عنده لا تحتاج منه إلى مجهود ولا مشقة.

ومن الحكمة أنْ يخلق الله لك أشياءً، ويهديك لأنْ تستنبط منها أشياءً أخرى.

وساعة تسمع من الله تعالى: (وَلَقَدْ..) (لقمان: 12) فاعلم أن هنا قَسَماً فالواو واو القسم، والمقسَم عليه مُؤكَّد باللام ومُؤكَّد بقد التي تفيد التحقيق.

قوله سبحانه: (آتَيْنَا..) (لقمان: 12) الحق -سبحانه و تعالى- في إتيانه للأشياء يعني تعدَّي ما قدره لمن قدره من خير ظاهر ومن خير مستور.

وقبل أنْ يخلق الله الإنسان خلق له، فجاء الإنسان الأول (آدم عليه السلام) وطرأ على كون فيه كل مُقوِّمات حياته من هواء وماء وأرض وسماء وطعام وشراب.. إلخ.

وكل ذلك مُسخَّر له تسخيراً لا دَخْلَ للمنتفع به فيه، وهذا أول الإيتاء، بل قبل ذلك، وفي الأزل قبل أن يخلق الإنسان خلق له مُقوِّمات مادته ومُقوِّمات قيمه وروحه - أي: أوجدها.

لأننا نعلم أن كل صانع قبل أن يُقدِم على صَنْعة لابُدَّ أن يُحدِّد الغاية، ويضع الهدف منها أولاً، لا أنْ يصنع الشيء ثم ينظر فيه: لأيِّ شيء يصلح هذا الشيء، كذلك لابُدَّ أنْ يسبق الصنعةَ منهجُ صيانتها.

فالحق سبحانه قبل أنْ يخلق الإنسان وضع له مُقوِّماته المادية والمعنوية، والمنهج الذي يُصلِحه وحدّد الهدف من وجوده؛ لذلك يُنبِّهنا الحق سبحانه إلى هذه المسألة في قوله تعالى: (ٱلرَّحْمَـٰنُ * عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ * خَلَقَ ٱلإِنسَانَ) (الرحمن: 1-3) فقبل أنْ يخلق الله الإنسانَ وضع المنهج الذي به صيانته، وهو القرآن الكريم.

إذن: فمعنى الإيتاء أنْ يعدي الله ما قدره من خير ظاهر أو خير مستور لمن قدره، والخير يكون على نوعين: خير يقيم المادة، وخير يقيم القيم الروحية، المادة تقوم بالهواء وبالطعام وبالشراب.. إلخ، والقيم تقوم بالوحي وبالمنهج الذي حمله الرسل بافعل ولا تفعل.

والله تعالى آتى كثيراً من خلقه، فلماذا خَصَّ لقمان بالذات، فقال (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ ٱلْحِكْمَةَ..) (لقمان: 12) ؟

قالوا: لأن الله تعالى حين يأمر الرسل بأمر ليُبلِّغوه يُعِد الرسل لهذا الأمر، وكأن الحق سبحانه يريد أنْ يقول لنا، إن الفَطرة السليمة تهتدي إلى الله، وإلى المطلوب من الله بدون وحي، وبدون إعداد.

ومن ذلك ما رُوِي عن سيدنا عمر -رضي الله عنه- من أنه كان يُحدِّث سيدنا رسول الله بالأمر، ويقترح عليه فيأتي الوحي موافقاً لرأيه، فكيف يتسنى لعمر أن يقترح على رسول الله وفي وجوده، وهو المشرع الثاني بعد القرآن؟

نقول: لأن الله تعالى يريد أنْ يثبت لنا أن الفطرة السليمة إذا صَفتْ لله تستطيع أنْ تهتدي إلى الأشياء، وتصل إلى الحق قبل أنْ ينزل الوحي به.

إذن: فالإيتاء من الله لا يأتي عبثاً، فالإيتاء الأول كان لآدم عليه السلام، وآدم شاء الله أنْ يجعله خليفة له في الأرض، ولا يعني هذا أنه أول المخلوقات في الأرض، والحق سبحانه لم يَقُلْ إنني أول ما خلقتُ خلقتُ آدم، وبدليل قوله تعالى: (وَٱلْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ ٱلسَّمُومِ) (الحجر: 27).

ومسألة الخلْق هذه هيِّنة على الله، بدليل قوله تعالى: (إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ بِعَزِيزٍ) (إبراهيم: 19-20) فالمسألة ليست نادرة حدثت مرة واحدة، ولن تحدث بعد ذلك.

وللعلماء كلام طويل في عوالم أخرى غير عالمنا كعالم الحن، وعالم البنِّ، وعالم الجن وغيرها مما لا يعلمه إلا الله، لكن إنْ حدَّثك المضللون الذين يريدون أنْ يستدركوا على الدين ويقولون: إن الحفريات أثبتت وجود مخلوقات قبل آدم، فكيف تقولون: إن آدم أول مخلوق؟

ونقول لهؤلاء: لم يقُلْ أحد: إن آدم أول مخلوق على الأرض، إنما هو أول هذا الجنس البشري الذي نسميه "إنسان" لكن سبقته أجناس أخرى، وشاء الله أنْ يجعل آدم خليفة في الأرض، ثم أخبر الملائكة: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً..) (البقرة: 30).

والله حين يخبر الملائكة هذا الخبر لا يستشيرهم، إنما ليبين لهم أمراً واقعاً، وخصَّ الملائكة بهذا الإخبار؛ لأنه سيكون لهم دور مع هذا الخليفة الجديد.

إذن: فالذين قال الله لهم: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً..) (البقرة: 30) ليسوا كل الملائكة، إنما الذين لهم دور ومهمة مع هذا المخلوق، أما باقي الملائكة فلا يدرون بآدم، ولا يعرفون عنه شيئاً، وليس في بالهم إلا الله.

والقرآن الكريم يشير لنا إلى هذه المسألة إشارةً دقيقة في قوله تعالى مخاطباً إبليس لما رفض السجود لآدم: (أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ ٱلْعَالِينَ) (ص: 75) والعالون هم الملائكة الذين لم يشملهم الأمر بالسجود.

وقلنا: إن الله تعالى كرَّم آدم حين خلقه تعالى، وباشر خَلْقه بيده سبحانه، ولم يخلقه كباقي المخلوقات (بكُنْ) ؛ لذلك جاء في حيثية النقد على إبليس: (قَالَ يٰإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ..) (ص: 75).

إذن: مباشرة الخَلْق باليد دليل على العناية بالمخلوق؛ لأن اليد هي الآلة الفاعلة لأكثر الأشياء، وحتى الآن نفخر بعمل اليد فنقول (هذا الشيء يدويّ) يعني: لم تصنعه آلة صماء، إنما يد مفكر يتقن الصنعة.

وفي مسألة خَلْق آدم -عليه السلام- يحلو للبعض أن يقول: هو الذي أخرجنا من الجنة، فهل قال الله تعالى قبل أن يصدر أول بيان عن آدم أنني خلقُته للجنة، ثم عصى آدم ربه وتسبب في أنْ نخرج منها؟

لم يقُلْ ذلك، إنما قال: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً..) (البقرة: 30) فهو -إذن- مخلوق للأرض، وما الجنة التي دخلها إلا جنة التجربة لا جنة الخلد، والبعض يظن أن كلمة الجنة إذا أُطلقَتْ تعني جنة الآخرة، وهذا خطأ بدليل قول الله تعالى: (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ) (القلم: 17).

وقوله تعالى: (وَٱضْرِبْ لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ..) (الكهف: 32).

فالجنة في اللغة هي المكان المليء بالأشجار الكثيفة التي تستر مَنْ يسير فيها، كما تستره أيضاً عن البيئة الخارجية؛ لأنها تكفيه بما فيها عن الاحتياج إلى غيرها، فبها كل مُقوِّمات الحياة، ومن ذلك الجنة التي دخلها آدم؛ لأن الله تعالى أراد أنْ يصنع لآدم تدريباً على مهمة الخلافة، ولم لا ونحن نُدرِّب كل صاحب مهمة على مهمته قبل أنْ يقوم بها، حتى لاعب الكرة.

وحين نأخذ المتدرب لندربه على أداء مهمته لابُدَّ أن نوفر له كل مُقوِّمات حياته، ونتكفل له بكل ما يعينه على أداء مهمته، فنقدم له إقامة كاملة من طعام وشراب ومسكن.. إلخ وكذلك فعل الله تعالى لآدم فقال له: (يَآءَادَمُ ٱسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلْظَّالِمِينَ) (البقرة: 35).

وحين نقارن بين ما أباحه الله لآدم وما حظره عليه نجد أنه تعالى أباح له كُلَّ ما في الجنة ولم يحرم عليه إلا هذه الشجرة التي أوضحها وبيَّنها له.

كما نلحظ قوله تعالى: (لاَ تَقْرَبَا..) (البقرة: 35) ولم يقُلْ: لا تأكلا؛ لأن القرب من الشيء قد يُغرِي بمزاولته، فاحتطْ أنت لنفسك بعدم القرب منه.

وهذا التدريب لآدم فيه إشارة رمزية لكل تكليف من الله لخَلْقه في (افعل) و (لا تفعل).

ثم يذكِّر الحق سبحانه آدم بالمقدمة العدائية التي حدثتْ بينه وبين إبليس، وينصحه بأنْ يحذر هذا العدو؛ لأنه أبى أنْ يسجد له لما أمره الله بالسجود استكباراً وعُتواً.

والله حين يأمر بالسجود لآدم إنما يريد السجود للأمر والانصياع له، لا السجود لآدم في ذاته؛ لذلك نجد الأمر من الله تعالى يختلف باختلاف المأمورين، فمرة ينهى عن شيء ويأمر بمثله ليرى مدى انضباطك للأمر وللنهي.

ففي الحج مثلاً، يأمرك أنْ تُقبِّل حجراً، وأنْ ترمي حجراً آخر وترجمه، وهذا حجر وذاك حجر، إذن: فالحجرية غير منظورة، لكن المنظور فيه إلى الأمر أو النهي.

وبصرف النظر عن المصلحة أو الحكمة من الأمر أو النهي، فمثلاً حينما يتعذر الماء يشرع التيمم بدلاً من الوضوء، فيأتي مَنْ يقول: الوضوء للنظافة، فما النظافة في التيمم، وهو يُلوِّث الجسم؟

ونقول: فَرْق بين النظافة والتطهير، والمراد من التيمم التطهير بشيء هو أصل في مادتك وتكوينك، فالمسألة انضباط في طاعة الأمر بأن تفعل شيئاً تجعله مقدمة لصلاتك، كأنك لا تُقبل على الصلاة إلا بتهيئة، وأيضاً لأن الصلاة بها قِوامَ روحك وحياتك، وحياتك في الأصل ومادتك من الماء الذي تستخدمه في الوضوء والتراب الذي تستخدمه في التيمم.

إذن: لهاتين المادتين رمزية يجب أن تُلحظ في الدخول على الله في الصلاة، ولا يليق بالمؤمن أنْ يُفلسف أمور العبادات ويبحث عن عِلّتها والحكمة أو المصلحة من أدائها، إنما يكفي أن يقول: عِلَّة هذا الأمر أن الله أمر به أنْ يفعل، وعلة هذا الحكم أن الله أمر به ألاَّ يُفعل.

لذلك ورد عن الإمام علي -رضي الله عنه- أنه قال: لو كانت المسألة بالعقل لكان أسفل الخُفِّ أوْلَى بالمسح من أعلاه، إذن: المسألة طاعة والتزام للأمر وللنهي؛ لذلك من غير المناسب أن نقول: إن من حكمة الصوم: أنْ يَشعر الغني بألم الجوع، فيعطف على الفقير؛ لأنني سأقول لك إذن: لماذا يصوم الفقير؟

ولتوضيح هذه المسألة ضربنا مثلاً وما زْلنا نكرره.

قلنا: إن أعز شيء على المرء صحته، فإنْ أصابته علة، فأول ما يُعمِل عقله يبحث عن الطبيب المتخصص في مرضه فيذهب إليه، ثم يسلم له نفسه ليفحصه، ثم يكتب له الدواء فيأخذه ويتناوله دون أنْ يسأل عن عِلَّته، أو لماذا وصفه الطبيب..

لماذا؟

لأن الطبيب مؤتمن بعد أنْ تعلَّم ودرس وتخصَّص، فأنت لا تسأله ولا تناقشه: لماذا كتب لك هذا الدواء، وهو مع ذلك إنسان وعُرْضة للخطأ وللسهو وللنسيان، ومع ذلك لا يناقش.

إذن: علة تناول الدواء أن الطبيب وصفه لي، وعلة كل أمر عند الآمر به.

والآمر في العبادات هو الحق -سبحانه و تعالى- فلا يليق بالمؤمن بعد أن آمن بالله وبحكمته وقدرته أنْ يبحث ليعلم الحكمة من كل أمر يأتيه من ربه عز وجل.

نعود إلى آدم -عليه السلام- وأن الجنة التي دخلها كانت للتدريب والتجربة ولم تكُنْ جنة الخلد، تدرَّب فيها آدم على: كل (افعل) وعلى: لا تقرب (لا تفعل) واحذر الشيطان فإنه عدو لك، وسوف يوسوس لك، ويغويك؛ لأنه لا يريد أنْ يكونَ عاصياً وحده، يريد أنْ يجرَّك معه إلى حمأة المعصية.

وظل آدم وزوجته يأكلان كما قال تعالى من الجنة رغداً حيث شاءا، دون أنْ يقربا هذه الشجرة التي بيَّنها الله لهما إلى أنْ وسوس لهما الشيطان وأغراهما بالأكل منها، مع أن الله تعالى حذَّرهما، وأعطاهما حقنة مناعة ضد الشيطان ووسوسته، ومع ذلك حدثتْ من آدم الغفلة.

وهذه الغفلة الله يُنبِّه بها ذرية آدم من بعده: أن الشيطان لن يدعكم، وسوف يدخل عليكم بألاعيبه وحيله، كما دخل على أبيكم آدم، فكونوا منه على حذر، وابحثوا بعقولكم ما يلقيه إليكم من وساوس.

بالله ماذا قال إبليس لآدم حين أغواه بالأكل من الشجرة؟

قال: (مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ ٱلْخَالِدِينَ) (الأعراف: 20).

أليس من المنطق أن نقول: ولماذا لم تأكل أنت منها يا إبليس فتصير مَلَكاً، وتصير من الخالدين، ولا تتمحك فتقول: (فَأَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (الحجر: 36) إذن: كان على آدم أنْ يتنبه إلى مكايد الشيطان وألاعيبه.

ثم يُنبِّهنا -سبحانه و تعالى- من خلال هذه القصة إلى أن الشيطان سيأتينا في مقام الطاعة، فلو أن آدم وزوجه ذهبا إلى هذه الشجرة وأكلا منها ما وسوس لهما، فهذا دليل على أنهما احتاطا للأمر، فلم يقربا من الشجرة تنفيذاً لأمر الله؛ لذلك تدخَّل الشيطان.

إذن: نقول إن الشيطان لا يتدخل إلاّ في مجال الطاعة، أما المعصية فصاحبها كفاه مؤنة الوسوسة، الشيطان يذهب إلى المسجد لا يذهب إلى الخمارة؛ لأن الذي يذهب إلى الخمارة صار شيطاناً في ذاته، فما حاجته لإبليس؟

لذلك يقول تعالى حكاية عن إبليس: (لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ) (الأعراف: 16) أي: في مواضع الخير وطرق الصلاح والهداية لأبطل أعمالهم، وأفسد عليهم أمرهم، ونحن نلحظ ذلك في صلاتنا مثلاً، فقد تنسى شيئاً، وتحاول أن تتذكره فلا تستطيع، وفجأة وأنت تصلي تتذكره.

فلو أننا أخذنا (الروشتة) من خالقنا عز وجل وبمجرد أنْ ينزغنا الشيطان نقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لتنبّه الشيطان، وعلم أننا لسنا في غفلة، وأننا نكشف ألاعيبه، ونعرف حيله وصدق الله العظيم حين قال: (وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ..) (الأعراف: 200).

وقد وصف الله الشيطان بأنه خنّاس، يعني: إذا ذُكِر الله خنس وتضاءل، فإنْ جاءك هذا الخاطر الشيطاني -حتى وإنْ كنتَ تقرأ القرآن- قُلْ بجرأة وقوة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ ليعلم أن ألاعيبه لا تخفى عليك فينصرف عنك، أما أن تخضع له فإنه يعطيك فقط طرف الخيط، ويفتح لك باباً يشغلك به، ثم يتركك أنت (تكُرُّ) هذا الخيط من نفسك، ويذهب هو (يستغفل) واحداً غيرك.

والشيطان رغم عِلْمه، إلا أن فيه تغفيلاً بدليل أنه أعلن عن خطته، وأظهر لنا مكايده قبل أنْ يكيدنا بها، فقال: (لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ) (الأعراف: 16) وقال: (لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ..) (الأعراف: 17)، فالذي يدبر المكايد ويتآمر على غيره لا يعلن عن مكايده مُقدماً، ونحن أيضاً كان علينا أنْ نحذر هذه المكايد خاصة، وقد أعلن عدونا عنها.

ولك أنْ تلحظ في خطة إبليس أنه يأتيك من جهاتك الأربع، ومعلوم أن الجهات ست، فلماذا لم يذكر فوقنا وتحتنا؟

قالوا: لأن هاتين الجهتين محلُّ نظر إلى الله عز وجل، فالعبد ينظر إلى عِزِّ الربوبية في عليائه وذُلِّ العبودية إذا اتجه في سجوده إلى أسفل.

إذن: فأنت في معية ربك في هاتين الجهتين، والشيطان لا ينال منك إلا وأنت بعيد عن معية ربك.

ومثَّلْنا لذلك -ولله المثل الأعلى- قلنا: إن الغلام إذا كان يسير في يد أبيه وفي صحبته، لا يجرؤ أحد من أمثاله على الاعتداء عليه، إنما إنْ سار وحده فهو عُرْضة للإيذاء.

وهذا دليل على علم إبليس وعلى ذكائه، ونلحظ هذا أيضاً في قوله: (لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ) (ص: 82-83) كأنه يقول لربه: أنا لا أقترب من عبادك الذين هم في حضانتك، وفي معيتك.

والتغفيل الأكبر في إبليس أنه مع علمه بمقام ربه يتمرد على أمره، حين يأمره بالسجود فلا يسجد.

إذن: نبَّه الله تعالى آدم وحذره من كيْد إبليس، وكان عليه أنْ يحذر وألاَّ تدخل عليه حيلة الأكل من الشجرة إلا أنه في غفلة منه عن أمر ربه أكل من الشجرة، فلما خالف الأمر اختلفتْ طبيعته، وبدَتْ له ولزوجه السَّوْءة، وكانت المرة الأولى التي يشعر فيها آدم بعورته عند خروج الغائط.

لكن، ما الفرق بين فتحة دخول الطعام (الفم) وفتحة خروجه؟

ولماذا أصبحت هذه عورة، وهذه غير عورة؟

قالوا: لأن آدم حال طاعته لأمر ربه في الأكل من ثمار الجنة كان يأكل بطهي ربه، وهو طهي بحكمة وبقدر معلوم، يكفي مقومات الحياة ولا يزيد عنها، لذلك لم يَبْق في بطن آدم فضلات، ولم توجد عنده غازات أو أرياح، فلم يشعر في هذه الحالة بحاجة إلى التغوط، فكانت الفتحتان متساويتين، هذه فتحة، وهذه فتحة.

فلما خالف آدم ربه وذاق الشجرة اختلفتْ الأغذية في بطنه، وحدث لها تفاعلات، ونتج عنها فضلات وأرياح، ولما أحسَّ بها آدم نفر منها وأصابه الخجل، وشعر أنها عورة ينبغي أنْ تُستر، فالطبع السليم لابُدَّ أنْ ينفر منها؛ لذلك أخذ يزيل هذا الأذى عن نفسه، ويستره بأوراق الشجر، ومنذ ذلك الحين لم يستطع آدم أن يسدَّ هذه الفتحة، ولن تُسدَّ.

إذن: الحق سبحانه جعل الدُّرْبة لآدم في الجنة هذه، وهيَّأ له فيها طعامه، ونهاه عن نوع بعينه، فأمره ونهاه وعلَّمه وحذَّره، فلما وقع في المخالفة وأغواه الشيطان، ولم يعمل بنصيحة ربه أخرجه إلى الأرض بهذه التجربة، لتكون رمزاً له ولذريته من بعده: إنْ سِرْتَ على منهجي ووِفْق أوامري في (افعل) و (لا تفعل) فلن تجد عورة في الكون كله، ونحن نرى ذلك فعلاً في حركة حياتنا في الكون، فلا نرى عورة في المجتمع ولا خللاً إلا إذا خُولِفَتْ أوامر الله.

هذا هو الإتيان الأول، بعد ذلك قدَّر الله غفلة البشر، فأرسل إليهم الرسل بالمنهج، فكان إتيان آخر، كما قال تعالى: (وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً) (النساء: 163) وقال في عيسى عليه السلام: (وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنجِيلَ) (الحديد: 27).

وهذا الإيتاء من الله يتم في خفاء؛ لذلك يُسمونه وحياً، وهو من الغيبيات، فالله تعالى لا يمدُّ يده فيعطي النبي أو الرسول شيئاً حسِّياً، ومن هنا ارتبط الإيمان بالغيبيات دون المحسَّات، فأنا لا أقول مثلاً: آمنتُ بأنني قاعد في مسجد الشيخ سليمان وأمامي جَمْع من الإخوة.. إلخ.

إذن: لابُدَّ أنْ يكون الإيمان بأمر غيبي.

الحق -سبحانه و تعالى- يُؤتِى على توالي العصور أنبياءه معجزات، ويؤتيهم منهجاً يسوس حركة الحياة، ولا يقتصر إيتاء الله على الرسل، إنما يؤتى غير الرسل، ويؤتى الحيوان.. إلخ.

ثم يعطينا الحق سبحانه نموذجاً للحكمة التي آتاها لقمان: (أَنِ ٱشْكُرْ للَّهِ..) (لقمان: 12) هذه هي الحكمة الأولى في الوجود؛ لأنك إنْ شكرتَ الله على ما قدَّم لك قبل أنْ توجد، وعلى ما أعطاك قبل أن تسأل، وعلى ما هدى جوارحك لتؤدي مهمتها حتى وأنت نائم، كأنه تعالى يقول لعباده: ناموا أنتم فربكم لا تأخذه سنة ولا نوم.

فإن شكرك لله يهدم أول لبنة من لبنات الاغترار، فالذي يفسد خلافة الإنسان في الأرض أنْ يغترَّ بما أعطاه الله وبما وهبه، وينسى أنه خليفة، ويعتبر نفسه أصيلاً في الكون، والشكر لله تعالى يكون على ما قدَّم لك من نعم.

ومن ذلك قوله تعالى: (وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (النحل: 78) أي: تشكر الله على ما سبق، فقد وُلدتَ لا تعلم شيئاً، ثم تكونت عندك آلات الإدراك والعلم، فعلمتَ وملأت قلبك بالمعاني الجميلة؛ لذلك تشكر الله عليها، فجَعْل هذه الآلات لك، عِلَّته أنْ تشكر أي: على ما مضى.

ثم هناك شكر آخر، لا على ما فات، لكن شكر هو في ذاته نعمة جديدة، وتأمل في ذلك قول الله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ ٱلرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ ٱلْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ..) (الروم: 46) هذه كلها نِعَم يعطف عليها بقوله: (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (الروم: 46).

فعطف الشكر على النعم السابقة يعني أنه في ذاته نعمة، وإلا لقال كما في الآية السابقة: (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (النحل: 78).

والشكر بهذا المعنى هو المراد في قوله تعالى: (لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ..) (إبراهيم: 7) فهذا شكر لما سبق، وهذا شكر لما هو آتٍ.

والشكر في قوله تعالى: (أَنِ ٱشْكُرْ للَّهِ..) (لقمان: 12) مُوجه إلى الله تعالى، فكيف إذا توجه الشكر في أسباب تناوله إلى غير الله، كأنْ تشكر صاحبك الذي قدم لك معروفاً مثلاً؟

قالوا: لو تأملتَ شكر غير الله ممن قدَّم لك معروفاً يستوجب الشكر لوجدته يؤول إلى شكر الله في النهاية.

لذلك قالوا: لا تشكر الله إلا حين تشكر مَنْ ساق لك الجميل على يديه، يعني: جعله سبباً في قضاء حاجتك، ثم إن الذي قدَّم لك جميلاً، ما قدّمه لك وما آثرك على نفسه إلا لأن الله أمره بذلك، ودعاه إليه.

وأثابه على فعله، فإذا سلسلتَ الشكر لانتهى إلى شكر الله تعالى ثم يقول سبحانه: (وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) (لقمان: 12) علمنا أن الشكر لله هو أول الحكمة، ف          

لماذا؟

لأن مَنْ يشكر تعود إليه ثمرة شكره.

وإياك أن تظن أن من مقومات قيومية ربك أنْ تشكره، فشكْرك وعدمه سواء بالنسبة لله تعالى، كيف وقد وسِع سبحانه الكافر الذي كفر به، ولم يقطع عنه نعمه؛ ذلك لأنه سبحانه غني عن خَلْقه (وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) (لقمان: 12) لأنه سبحانه يعرف أنه رب، حتى للكافر الجاحد.

ونلحظ في الأسلوب هنا عظمة وروعة، ففي الشكر قال سبحانه (وَمَن يَشْكُرْ..) (لقمان: 12) أما في الكفر فقال: (وَمَن كَفَرَ..) (لقمان: 12) ولم يقل: ومَنْ يكفر، وفَرْق بين الأسلوبين، والكلام هنا كلام ربٍّ، ففي الشكر جاء بالفعل المضارع (يَشْكُرْ..) (لقمان: 12) الدال على الحال والاستقبال، فالشكر متجدد ودائم على خلاف الكفر.

وكأنه -سبحانه و تعالى- لا يريد من عبده الدوام على كفره، فلعله يتوب ويرجع إلى ساحة الإيمان، فجاء بالفعل الماضي (كَفَر..) (لقمان: 12) أي: في الماضي فحسب، وقد لا يعود في المستقبل، وهذا مظهر من مظاهر الإعجاز البياني في القرآن الكريم.

ومعنى (حَمِيدٌ) (لقمان: 12) من صيغ المبالغة على وزن "فعيل" وتأتي مرة بمعنى "فاعل" مثل رحيم، ومرة بمعنى "مفعول" مثل قتيل أي: مقتول، والمعنى هنا (حَمِيدٌ) (لقمان: 12) أي: محمود وجاءت هذه الصفة بعد (غَنِيٌّ..) (لقمان: 12) لأن الكافر لو كان يعلم أن الله لم يقطع عنه نعمه رغم كفره به لحمد هذا الإله الذي حلم عليه، ولم يعامله بالمثل.

ثم يقول الحق سبحانه: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ...).



سورة لقمان الآيات من 11-15 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 49664
العمر : 72

سورة لقمان الآيات من 11-15 Empty
مُساهمةموضوع: رد: سورة لقمان الآيات من 11-15   سورة لقمان الآيات من 11-15 Emptyالخميس 15 أكتوبر 2020, 9:12 pm

وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣)
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)

يعطينا الحق سبحانه طرفاً من حِكَم لقمان التي رواها القرآن الكريم: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ..) (لقمان: 13) قوله: (وَإِذْ..) (لقمان: 13) أي: اذكر يا محمد حين قال لقمان لابنه، وتوجيه حكمة لقمان ونصيحته لابنه يدلُّنا على صدق ما رُويَ عنه أنه كان يُفتي الناس ويعظهم قبل سيدنا داود عليه السلام، فلما جاء داود أمسك لقمان وقال: ألا أكتفي وقد كُفِيت، ثم وجه نصائحه لِمَنْ يُحِبُ! وهو ولده.

ولذلك، فالإمام أبو حنيفة -رضوان الله عليه- عندما شكاه القاضي ابن أبي ليلى إلى الخليفة أنه يفند شكاواه وأحكامه، فأرسل إليه الخليفة بأنْ يترك الفتوى، وبينما هو في بيته إذ جاءته ابنته وقالت له: يا أبي حدث لي كذا وكذا -تريد أن تستفتيه- فماذا قال لها وهي ابنته؟

قال: سَلِي أخاكِ حمَّاداً، فإن أمير المؤمنين نهاني عن الفُتْيا.

وفَرْق بين أنْ يتكلم الإنسان مع عامَّة الخَلْق، وبين أنْ يتكلم مع ولده، فالابن هو الإنسان الوحيد في الوجود الذي يودُّ أبوه أن يكون الابن أفضلَ وأحسن حالاً منه، ويتمنَّى أن يُعوِّض ما فاته في نفسه في ولده ويتدارك فيه ما فاته من خير.

ومعنى (وَهُوَ يَعِظُهُ..) (لقمان: 13) الوعظ: هو التذكير بمعلومة عُلِمت من قبل مخافة أنْ تُنْسى، فالوعظ لا يكون بمعلومة جديدة، إنما يُنبه غفلتك إلى شيء موجود عندك، لكن غفلت عنه، فهناك فَرْق بين عالم يُعلم، وواعظ يعظ، والوعظ للابن يعني أنه كان على علم أيضاً بالمسائل، وكان دور الوالد أنْ يعظه ويُذكِّره.

ونلحظ في أسلوب الآية أن الله تعالى لما أخبر عنه قال (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ..) (لقمان: 13) ولما تكلم لقمان عن ابنه قال (يٰبُنَيَّ..) (لقمان: 13) ولم يقل يا ابني، فصغّره تصغير التلطف والترقيق، وليوحي له: إنك لا تزال في حاجة إلى نصائحي، وإياك أنْ تظن أنك كَبِرت وتزوجت فاستغنيتَ عني.

وأول عِظَة من الوالد للولد (لاَ تُشْرِكْ بِٱللَّهِ..) (لقمان: 13) وهذه قمة العقائد؛ لذلك بدأ بها؛ لأنه يريد أنْ يُصحِّح له مفهومه في الوجود، ويلفت نظره إلى أن الأشياء التي نعم بها آباؤك وأجدادك لا تزال تعطي في الكون، ومن العجيب أنها باقية، وهي تعطِي في حين يموت المعطَى المستفيد بها.

وتأمل منذ خلق الله الكون كم جيل من البشر انتفع بالشمس؟

ومع ذلك اندثروا جميعاً، وما زالت الشمس باقية، كذلك القمر والهواء والجبال.. إلخ.

فكيف وأنت سيد هذا الكون يكون خادمك أطول عمراً منك؟

إذن: على العاقل أن يتأمل، وعلى الإنسان الذي كرَّمه الله على سائر المخلوقات أن يقول: لابُدَّ أن لي عمراً أطول من عمر هذه المخلوقات التي تخدمني، وهذا لا يتأتى إلا حين تصل عمرك في الدنيا بعمرك في الآخرة، وهذا يستدعي أن تؤمن بالله وألاّ تشرك به شيئاً، فهو وحده سبحانه الذي خلق لك هذا كله، وأعدّه لخدمتك قبل أن توجد: واقرأ: (هَـٰذَا خَلْقُ ٱللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ ٱلَّذِينَ مِن دُونِهِ..) (لقمان: 11).

فكيف تدعي أن لله شركاء في الخَلْق، وهم أنفسهم لم يدَّعوا أنهم آلهة، أو أنهم خلقوا شيئاً في كون الله؟

كيف وأنت تسير في الصحراء، فترى الحجر يعجبك فتأخذه وتُسوِّيه وتجعله إلهاً ولو هبَّتْ الريح لأطاحتْ به؟

ثم ما المنهج الذي جاءتكم به هذه الآلهة بِمَ أمرتكم وعَمَّ نهتكم؟

ماذا أعدت من نعيم لمن عبدها، وماذا أعدَّت من عذاب لمن كفر بها؟

إذن: فهذه آلهة بلا تكليف، والعبادة في حقيقتها أنْ يطيع العابد أمر معبوده، إذن: هي آلهة باطلة لا يخفى بطلانها على العاقل.

لذلك يقول لقمان: (إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (لقمان: 13) نعم الشرك ظلم؛ لأن الظلم يعني: نَقْل حق الغير إلى الغير، وقمة الظلم ومنتهاه أن تأخذ حق الله، وتعطيه لغير الله، ألا ترى أن الصحابة ضجُّوا لما نزل قوله تعالى: (ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوۤاْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمُ ٱلأَمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ) (الأنعام: 82).

وقالوا: يا رسول الله، ومَنْ منا لم يخالط إيمانه ظلم؟

فهدَّأ رسول الله من رَوْعهم وطمأنهم أن المراد بالظلم هنا ظلم القمة أي: الشرك بالله (إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (لقمان: 13).

ثم يقول الحق سبحانه: (وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ...).



سورة لقمان الآيات من 11-15 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 49664
العمر : 72

سورة لقمان الآيات من 11-15 Empty
مُساهمةموضوع: رد: سورة لقمان الآيات من 11-15   سورة لقمان الآيات من 11-15 Emptyالخميس 15 أكتوبر 2020, 9:13 pm

وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤)
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)

أهذه وصية من وصايا لقمان لابنه، أم هي كلام جديد من الله تعالى جاء في سياق كلام لقمان؟

قالوا: هو من كلام الحق -تبارك و تعالى-، بدليل قوله تعالى بعد ذلك: (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا..) (لقمان: 15).

ومن التكريم للقمان أن الله تعالى ساق هذه الوصية بعد وصيته لابنه، فجاءت وكأنها حكاية عنه.

ومعنى (وَوَصَّيْنَا..) (لقمان: 14) يعني: علّمنا ووعظنا، وهما يدلان على معلومات تبتدئ بعلمنا ويذكر بها في وعظنا، ويُوفى بها حين جمعنا كل الخير في كلمة واحدة؛ لذلك فالنبي -صلى الله عليه وسلم- عندما خطب الناس في حجة الوداع ذكر أمهات الفضائل..

لماذا؟

لأنه آخر كلامه إليهم، والموقف لا يناسب أنْ يذكر فيه تفاصيل الدين كله، فاكتفى بذكر أسسه وقواعده، كالرجل منَّا حين تحضره الوفاة يجمع أولاده، ويوصيهم، فيختار الأمور الهامة والخلاصة في أضيق نطاق.

الله تعالى يقول: (وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ..) (لقمان: 14) والوصية بالوالدين بالذات أخذتْ رقعة واسعة في كتاب الله، في هذه الآية ذكر علة الوصية، فقال: (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ..) (لقمان: 14).

وفي خمس آيات أخرى وردتْ كلمة (إحساناً)، في قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً..) (البقرة: 83).

وفي سورة النساء: (وَٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً..) (النساء: 36).

وفي الأنعام: (قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً..) (الأنعام: 151).

وفي الإسراء: (وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً..) (الإسراء: 23).

وفي الأحقاف: (وَوَصَّيْنَا ٱلإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً..) (الأحقاف: 15).

وفي آية واحدة وردت كلمة (حسناً) في سورة العنكبوت: (وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً..) (العنكبوت: 8).

وفي آية واحدة أيضاً جاءت الوصية بالوالدين دون ذكر لهاتين الكلمتين: (حُسْناً وإحساناً) هي الآية التي نحن بصدد الحديث عنها.

لكن، ما الفرق بين (إحساناً) و (حُسناً) ؟

الفرق أن الإحسان مصدر أحسن، وأحسن حدث، تقول: أحسن فلان إحساناً.

أما حُسناً فمن الحسن وهو المصدر الأصيل لهذه المادة كما تقول: فلان عادل، فوصفته بالعدل، فإنْ أردتَ أنْ تبالغ في هذا الوصف تقول: فلان عَدْل أي: في ذاته، لا مجرد وَصْف له.

إذن: فحُسْناً آكد في الوصف من إحساناً، فلماذا جاءت في هذه الآية بالذات: (وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً..) (العنكبوت: قالوا: لأن هذه الآية تتعرض لمسألة صعبة تمسُّ قمة العقيدة، فسوف يطلب الوالدان من الابن أنْ يشرك بالله.

لذلك احتاج الأمر أنْ نوصي الابن بالحُسْن في ذاته، وفي أسمى توكيداته فلم يقُلْ هنا (إحْسَاناً) إنما قال (حُسْناً) حتى لا يظن أن دعوتهما إياه إلى الشرك مبرر لإهانتهما، أو التخلي عنهما؛ لذلك يُعلِّمنا ربنا: (فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفاً) (لقمان: 15).

وإنْ كانت الوصية هنا بالوالدين ألا أن حيثيات الوصية خاصة بالأم (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ) (لقمان: 14) فلم يذكر شيئاً عن دور الأب..

لماذا؟

قالوا: لأن الكلام هنا كلام رب، وما عليك إلا أنْ تُعمِل فيه فكرك وقلبك لتصل إلى دقائقه.

الله تعالى يُذكِّرنا هنا بدور الأم خاصة، لأنها تصنع لك وأنت صغير لا تدرك صُنْعها، فهو مستور عنك لا تعرفه، أما الأفعال الأب وصنعه لك فجاء حال كِبَرك وإدراكك للأمور من حولك، فالابن يعرف ما قدَّم أبوه من أجله.

فكأن أفعال الأب وُجِدت حين تم تكوين العمر العقلي الواعي، ففهم الابن ما فعل أبوه، وكثيراً ما سمع الابن: أبوك ذهب إلى كذا، أبوك أحضر لك كذا، وهذا الأمر عندما يأتي أبوك.. إلخ، فدوْر الأب ظاهر على خلاف دور الأم؛ لذلك ذكره الحق -تبارك و تعالى- هنا (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَىٰ وَهْنٍ) (لقمان: 14).

ويأتي مَنْ يقول: أليس الابن نتيجة التقاء الأب والأم، فهما فيه سواء؟

ونقول: بلى، لكن مشقة الأم فيه أوضح أثناء الحمل وعند الولادة، ولولا أن الله تعالى ربط النسل بالشهوة لَزهدَ الناس فيه لما تتحمله الأم من مشاق، ولما يتحمله الأب من تبعات الأولاد.

ونعرف قصة المرأة التي ذهبت تقاضي زوجها لأنه يريد أنْ يأخذ ولدها منها، فقالت للقاضي وقد قال لها: أليس الولد ولدكما معاً؟قالت: بلى، ولكنه حمله خِفّاً ووضعه شهوة، وحملتُه وهناً على وهن، فحكم لها.

ومعنى: (وَهْناً عَلَىٰ وَهْنٍ..) (لقمان: 14) أي: ضعفاً على ضعف، والمرأة بذاتها ضعيفة، فاجتمع لها ضعفها الذاتي مع ضعف بسبب الجنين الذي يتغذى منها، ويكبر في أحشائها يوماً بعد يوم؛ لذلك قلنا: إن من حكمة الله تعالى في خَلْق الرحم أنْ جعله قابلاً للتمدد والاتساع ليحتوي الجنين في مراحل الحمل المختلفة إلى أنْ يزيد الجنين زيادةً لا يتحملها اتساع الرحم فينفجر إيذاناً بولادة إنسان جديد وخَلْقِ آخر كما قال تعالى: (ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ) (المؤمنون: 14).

فالجنين كان خَلْقاً تابعاً لأمه في غذائه وفي تنفسه وحركته، لكن حينما جاء أمر الله وأذن بميلاده أنشأه خَلْقاً آخر له مُقوِّمات حياة مستقلة غير متصل بأمه.

ويقولون في هذه العملية (القرن طش) كما تنفجر البالونة إذا نُفخت لدرجة أكثر مما تتحمل، ومن العجيب أن الرحم يتسع بقدرة الله لعدة توائم كما نرى ونسمع.

ومن عظمة الخالق سبحانه في مسألة الرزق أن رزق الجنين يأتيه منفصلا عن رزق أمه، فلكل منهما رزق لا يأخذه الآخر، ومعلوم أن المرأة حين يُقدَّر لها حَمْل ينقطع عنها الدم الذي كان ينزل بصفة دورية حال فراغ الرحم من الحمل، هذا الدم هو الذي جعله الله غذاءً للجنين الجديد.

أما إذا لم يُقدَّر لها حمل فإنَّ جسمها يطرد هذا الدم ويتخلص منه ولا يستفيد به..

لماذا؟

لأنه ليس غذاءها، وكأن الخالق -عز وجل- يُنبِّهنا أن لكل منا رزقه الذي لا يتعدَّاه إلى غيره.

وأيضاً من حكمته تعالى في وَضْع الجنين في بطن أمه عند الولادة أنْ ينزل برأسه، وهذا هو الوضع الطبيعي لولادة طفل سليم؛ لأن أول ضروريات الحياة للطفل ساعةَ ينفصل عن أمه أنْ يتنفس، فإذا نزل برأسه -وهذا الوضع يحاول أطباء الولادة التأكد منه- استطاع التنفس حتى وإنْ تعسر نزول باقي جسمه، أمّا إنْ نزل الطفل بعكس هذا الوضع فإنه يختنق ويموت قبل أنْ يتم نزوله.

ثم يقول سبحانه: (وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ..) (لقمان: 14) الفصال: أي الانفصال عن الأم في مسألة الرضاعة، ومنه: يسمون ولد الناقة الذي استغنى عن لبنها: الفصيل أي الذي فُصِل عن أمه، وأصبح قادراً على أنْ يأكل، وأن يعيش دون مساعدتها، وحتى عملية فصال الولد عن أمه فيها مشقة وألم للأم.

أما العملية الجنسية التي أثمرتْ الولد فكانت شركة بينهما، وبذلك لابُدَّ أن نعترف أن للأم الدور الأكبر وعليها العبء الأكبر في مسألة الأولاد؛ لذلك كان لها الحظ الأوفر في وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- للصحابي الذي سأله: مَنْ أحق الناس بحُسْن صحابتي يا رسول الله؟

فقال -صلى الله عليه وسلم-: أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أبوك، فأعطى كلاً منهما على قدر ما قدَّم.

ومسألة الفصال هذه شُرحت في آيات أخرى، ففي سورة البقرة: (وَٱلْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَ..) (البقرة: 233) وهذه تؤكد (وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ..) (لقمان: 14) وفي آية أخرى تجمع الحمل والرضاعة معاً: (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً..) (الأحقاف: 15) وبخصم العامين من الثلاثين شهراً يكون الباقي ستة أشهر، وهي أقلّ مدة للحمل.

وهذه المسألة اعتمد عليها الإمام علي -رضي الله عنه- حينما رأى عُمَر -رضي الله عنه- يريد أن يُقيم الحد على امرأة ولدتْ لستة أشهر؛ لأنه يعتقد أن مدة الحمل تسعة أشهر، فقال لعمر: يا أمير المؤمنين، الله يقول غير ذلك، فقال: وماذا يقول الله؟

فذكر عليٌّ الآيتين السابقتين: (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً..) (الأحقاف: 15).

والأخرى: (وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ ٱشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ ٱلْمَصِيرُ) (لقمان: 14).

ثم بيَّن له عليٌّ أن أقلَّ مدة للحمل بناءً على هاتين الآيتين ستة أشهر، فقال عمر: بئس المقام بأرض ليس فيها أبو الحسن.

وقوله تعالى: (أَنِ ٱشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ ٱلْمَصِيرُ) (لقمان: 14) فالله تعالى هو المستحق للشكر أولاً؛ لأنه سبحانه هو الذي أنشأ من عدم، وأمدَّ من عُدْم، ثم الوالدان لأنهما السبب في الإيجاد وإنشاء الولد.

فكأن الحق سبحانه مسبِّب أعلى؛ لأنه خلق من لا شيء، والوالدان سبب من أسباب الله في الوجود، إذن: لا تُحسِن شكر الله الخالق الأول والمسبِّب الأعلى حتى تُحسِن شكر الوالدين، وهما السبب الثاني في وجودك.

فقوله سبحانه: (أَنِ ٱشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ ٱلْمَصِيرُ) (لقمان: 14) أي: على الإيجاد، لكن في موضع آخر: (وَقُل رَّبِّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً) (الإسراء: 24) وهذه للإيجاد وللتربية وللرعاية، فكما أن هناك أبوةً للإيجاد هناك أبوة للتربية، فكثيراً ما نجد الطفل يريبه غير أبيه وغير أمه، ولابُدَّ أنْ يكون لهؤلاء نصيب من الشكر ومن الولاء والبرِّ ما دام أن الله تعالى ذكرهم في العلة: (وَقُل رَّبِّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً) (الإسراء: 24).

والعلة تدور مع المعلول وجوداً وعدماً، فإذا لم يكُنْ للأب الحقيقي وجود، فالأبوة لمن ربَّى، وله نفس حقوق الأب من حيث الشكْر والبر والمودة، بل ينبغي أن يكون حقُّه مضاعفاً؛ لأن في الأب الحقيقي عطف البُضع على البُضع، وفي الأب المربِّي عطف الدين على الدين، وهذه مسألة أخرى غير مجرد الأبوة.

لكن، هل شكر الله أولاً دُرْبة على أنْ تشكر الوالدين، وهما السبب المباشر في وجودك؟

أم أن شكرَ الوالدين دربةٌ على أن تشكر الله الذي خلقك وأوجدك؟

نقول: هما معاً، فشُكْر الله يستلزم شكْر الوالدين، وشكر الوالدين ينتهي إلى شُكْر الله.

وقوله: (إِلَيَّ ٱلْمَصِيرُ) (لقمان: 14) أي: المرجع، والمعنى: أنني أوصيك بأهم شيء فاحذر أنْ تخالف وصيتي؛ لأنني أقدر على أنْ أعاقب مَنْ خالف.

ثم يقول الحق سبحانه: (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن...).



سورة لقمان الآيات من 11-15 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 49664
العمر : 72

سورة لقمان الآيات من 11-15 Empty
مُساهمةموضوع: رد: سورة لقمان الآيات من 11-15   سورة لقمان الآيات من 11-15 Emptyالخميس 15 أكتوبر 2020, 9:14 pm

وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٥)
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)

يؤكد الحق سبحانه على أمر الوالدين، وكأنه سبحانه استدرك غير مُستدرَك، فليس لأحد أنْ يستدرك على الله، وكأن واحداً كان يناقش رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أمر الوالدين وما نزل في شأنهما، فسأل: كيف لو أمراني بالكفر، أأكفر طاعةً لهما؟لذلك جاء الحكم من الله في هذه المسألة.

وفي آية العنكبوت: (وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (العنكبوت: 8).

فذكر فيها (حُسنْاً) ولم يقل فيها (وَصَاحِبْهُمَا فِي ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفاً..) (لقمان: 15) فكأن كلمة الحُسْن، وهي الوصف الجامع لكلِّ مدلولات الحُسْن أغنتْ عن المصاحبة بالمعروف.

ومعنى (جَاهَدَاكَ..) (لقمان: 15) نقول: جاهد وجهد، جهد أي في نفسه، أما جاهد ففيها مفاعلة مع الغير، نقول: جاهد فلان فلاناً مثل قاتل، فهي تدل على المشاركة في الفعل، كما لو قلت: شارك عمرو زيداً، فكل منهما فاعل، وكل منهما مفعول، لكن تغلب الفاعلية في واحد، والمفعولية في الآخر.

فمعنى (وَإِن جَاهَدَاكَ..) (لقمان: 15) لا تعني مجرد كلمة عَرَضَا فيها عليك أن تشرك بالله، إنما حدث منهما مجهود ومحاولات لجذبك إلى مجاراتهما في الشرك بالله، فإن حدث منهما ذلك فنصيحتي لك (فَلاَ تُطِعْهُمَا..) (لقمان: 15).

ثم إياك أنْ تتخذ من كفرهما ودعوتهما لك إلى الكفر سبباً في اللدد معهما، أو قطع الرحم، فحتى مع الكفر يكون لهما حق عليك (وَصَاحِبْهُمَا فِي ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفاً..) (لقمان: 15) ثم إنهما كفرا بي أنا، وأنا الذي أوصيك بهما معروفاً.

وقوله تعالى: (وَٱتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ..) (لقمان: 15) أي: لن تكون وحدك، إنما سبقك أُنَاسٌ قبلك تابوا وأنابوا فكُنْ معهم (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ..) (لقمان: 15) أي: مأواكم جميعاً.

قالوا: إن هذه الآية نزلت في سعد بن أبي وقاص، الذي قال فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "خالي سعد، فليُرني امرؤ خاله" ولما أسلم سعد غضبت أمه - وكانت شديدة الحب له فكادت تُجَنُّ وحلفتْ لا تأكل ولا تشرب ولا تغتسل، وأنْ تتعرَّى في حَرِّ الشمس حتى يرجع دينه، فلما علم سعد بذلك قال: دعوها والله لو عضَّها الجوع لأكلتْ، ولو عضَّها العطش لشربتْ، ولو أذاها القمل لاغتسلتْ، أما أنا فلن أحيد عن الدين الذي أنا عليه، فنزلت: (وَإِن جَاهَدَاكَ..) (لقمان: 15).

ولو أن الذي يكفر بالله ويريد لغيره من المؤمنين أنْ يكفر معه كابن أو غيره، ثم يرى وصية الله به رغم كفره لعلم إن الله تعالى رب رحيم لا يستحق منه هذا الجحود.

وسبق أن ذكرنا الحديث القدسي الذي قالت فيه الأرض: " رب ائذن لي أن أخسف بابن آدم، فقد طعم خيرك ومنع شكرك وقالت السماء: رب ائذن لي أن أسقط كسَفاً على ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك، وقالت البحار: يا رب ائذن لي أن أُغرق ابن آدم فقد طعم خيرك، ومنع شكرك.. إلخ، فقال الحق -تبارك و تعالى-: لو خلقتموهم لرحمتموهم".

ذلك لأنهم عباد الله وصَنْعته، وهل رأيتم صاحب صنعة يُحطِّم صنعته، وجاء في الحديث النبوي: "الله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره، وقد أضله في أرض فلاة".

إذن: فنِعْمَ الرب هو.

ويُروى أن سيدنا إبراهيم -عليه السلام- جاءه ضيف، فرأى أن سَمْته غير سَمْت المؤمنين، فسأله عن دينه فقال: إنه من عُبَّاد النار، فردَّ إبراهيم الباب في وجهه، فانصرف الرجل، فعاتب الله نبيه إبراهيم في شأن هذا الرجل فقال: يا إبراهيم، تريد أن تصرفه عن دينه لضيافة ليلة، وقد وَسِعْتُه طوال عمره، وهو كافر بي؟

فأسرع إبراهيم خلف الرجل حتى لحق به، وأخبره بما كان من عتاب الله له، فقال الرجل: نِعْم الرب ربٌّ يعاتب أحبابه في أعدائه، ثم شهد ألاَّ إله إلا الله.

فلو أن الكافر الذي يريد الكفر لغيره يعرف أن الله يوصي به وهو كافر، ويُرقِّق له القلوب لَعاد إلى ساحة الإيمان بالله؛ لذلك كثيراً ما نقابل أصحاب ديانات أخرى يعشقون الإسلام فيختارونه، فيغضب عليهم أهلهم فنقول للواحد منهم: كُنْ في دينك الجديد أبرَّ بهم من دينك القديم، ليعلموا محاسن دينك، فضاعف لهم البر، وضاعف لهم المعروف، لعل ذلك يُرقِّق قلوبهم ويعطفهم نحو دينك.وتأمل عظمة الأسلوب في (وَصَاحِبْهُمَا فِي ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفاً..) (لقمان: 15) فلم يقل مثلاً أعطهم معروفاً، إنما جعل المعروف مصاحبة تقتضي متابعتهما وتفقُّد شأنهما، بحيث يعرف الابن حاجة أبويْه، ويعطيهما قبل أنْ يسألا، فلا يلجئهما إلى ذُلِّ السؤال، وهذا في ذاته إحسان آخر.

كالرجل الذي طرق بابه صديق له، فلما فتح له الباب أسرَّ له الصديق بشيء فدخل الرجل وأعطى صديقه ما طلب، ثم دخل بيته يبكي فسألته زوجته: لم تبكي وقد وصلْته؟

فقال: أبكي لأنني لم أتفقد حاله فأعطيه قبل أن يذَّل نفسه بالسؤال.

والحق -تبارك و تعالى- حين يقول بعد الوصية بالوالدين: (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (لقمان: 15) إنما لينبهنا أن البرَّ بالوالدين ومصاحبتهما بالمعروف لم يُنسى لك ذلك، إنما سيُكتب لك، وسيكون في ميزانك؛ لأنك أطعتَ تكليفي وأمري، وأدَّيْتَ، فلك الجزاء لأنك عملتَ عملاً إيمانياً لابُدَّ أن تُثاب عليه.



سورة لقمان الآيات من 11-15 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
 
سورة لقمان الآيات من 11-15
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» سورة لقمان الآيات من 26-30
» سورة لقمان الآيات من 31-34
» سورة لقمان الآيات من 01-05
» سورة لقمان الآيات من 06-10
» سورة لقمان الآيات من 16-20

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers :: (العربي) :: الـقــــــــــــــرآن الـكـــــــــــــــريـم :: مجمـــوعــة تفاســـــير :: خواطر الشعراوي :: لقمان-
انتقل الى: