عاشوراء والهجرة النَّبويَّة من أيَّام الله تعالى
طارق حميدة

قال تعالى: (وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا مُوسَىٰ بِـَٔايَـٰتِنَآ أَنۡ أَخۡرِجۡ قَوۡمَكَ مِنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَذَڪِّرۡهُم بِأَيَّٮٰمِ ٱللَّهِ‌ۚ إِنَّ فِى ذَٲلِكَ لَأَيَـٰتٍ۬ لِّكُلِّ صَبَّارٍ۬ شَكُورٍ۬ (٥) وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِ ٱذۡڪُرُواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَيۡڪُمۡ إِذۡ أَنجَٮٰكُم مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ يَسُومُونَكُمۡ سُوٓءَ ٱلۡعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبۡنَآءَكُمۡ وَيَسۡتَحۡيُونَ نِسَآءَڪُمۡ‌ۚ وَفِى ذَٲلِڪُم بَلَآءٌ۬ مِّن رَّبِّڪُمۡ عَظِيمٌ) (سورة إبراهيم: 5، 6).

ربنا سبحانه يُكَلِّفُ موسى عليه السلام، أن يُخْرِجَ قومه من الظلمات إلى النُّور؛ من ظلمات الذُّلِّ والاستضعاف، إلى نُور العِزَّةِ والكرامة والرِّيادة بحمل راية التَّوحيد وإقامَة الدِّين.

وخلال ذلك، ولأجل تحقيق ذلك، يطلب منه أن يُذَكِّرْهُمْ بأيَّام الله.

والأيَّامُ كلها أيَّامُ اللهِ لكن هذه الأيَّام لها خُصوصية إذ تجلَّت فيها قُدرة الله تعالى، فنَصَرَ القِلَّة المُستضعفة، وقَصَمَ الكثرة المُتجبِّرة، أو خَذَلَهَا وَرَدَّهَا بغيظها.

إنها أيَّام ربما سبقها يأس وإحباط واستسلام لظنِّ المُستضعفين أنه لا قِبَلَ لهم بالفراعنة والطغاة.

وسرعان ما يقوم موسى عليه السلام، خطيباً في قومه يُذكرهم بيوم من أيَّام الله عظيم، يوم أنجاهم سبحانه من فرعون وجنوده، وقد كان آل فرعون يسومونهم سُوء العذاب ويُذَبِّحُون أبناءهم ويستحيون نساءهم، كي يستنهض هممهم ويُقَوِّي عزائمهم للمهمَّة العظيمة التي ستُناط بهم من بعد خروجهم من مصر.

ولا يكتفي موسى عليه السلام بهذا التذكير، بل يجعل من ذلك اليوم العظيم مناسبة سنوية يحتفي بها والمؤمنون معه ليترسخ المعنى ويتعمق في القلوب، فيصومه عليه السلام ويصومه قومه، ويستمر الاحتفاء بهذا اليوم وصيامه حتى زمان المصطفى عليه الصلاة والسلام، فيسألهم عن صومهم يوم عاشوراء فيقولون: "هذا يوم صالح؛ هذا يوم نجَّى الله بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى"، فيقول النبي عليه السلام: "فأنا أحَقُّ بموسى منكُم"، فصامه وأمَرَ بصيامه، والحديث في الصحيحين.

إن محمداً، -صلى الله عليه وسلم-، قد أمره رَبَّهُ تعالى، بما أمر موسى عليه السلام، كما جاء في السورة نفسها: (الٓر‌ۚ ڪِتَـٰبٌ أَنزَلۡنَـٰهُ إِلَيۡكَ لِتُخۡرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِ رَبِّهِمۡ إِلَىٰ صِرَٲطِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَمِيدِ) (سورة إبراهيم: 1).

وإذا كان الهدف واحداً،والبشر هم البشر على اختلاف الزمان والمكان، فلا بد أن يكون المنهج هو المنهج، والوسيلة هي الوسيلة -التذكير بأيام الله- وأهمها عاشوراء.

يصومه المصطفى عليه السلام، ويأمر بصيامه، بل يتحرَّاه وينتظره ويستعد له كما يفعل لشهر رمضان، احتفاءً بهذه المناسبة العظيمة واستحضاراً لجليل معانيها.

والصيام خير مُعين للتفكُّر والتَدَبُّرِ والاستحضار فيما تعجز عن ذلك البطون المُتخمة، وانظر كيف قَرَنَ ربنا سبحانه بين صوم رمضان ونزول القرآن، تأكيداً للتلازم بين النُّفُوس الزَّكيَّة والقُلُوب التَّقيَّة والعُقُول المُتفتِّحة لاستقبال النُّور الإلهي.

فالقرآن الكريم مع أنه (هُدَى لِّلنَّاسِ) مؤمنهم وكافرهم إلا أنه لا يُفيدُ منه إلا المُتَّقون: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمُتقين).

وحين يُقَرِّرُ النَّبِيَّ -عليه الصلاة والسلام- أن يصوم التاسع مع العاشر، فليس ذلك مخالفة لأهل الكتاب وتميُّزاً عنهم فحسب، بل -وأيضاً فيما نُرَجِّحُ- لمزيد الاعتناء بهذا اليوم والاستعداد له رُوحِياً وذِهْنِياً.

إنَّ النُّفُوسَ المُستبشرة بنصر الله تعالى وفَرَجِهِ، المُوقِنَة بقُدرته المُنتظرة لرحمته، هي التي يُرجَى تَحَقُّقِ الإنجازات على أيديها، أمَّا النُّفُوس اليائسة المُنقبضة الكئيبة، التي تبحث عن الحُزن ومُناسباته، فليست بالتي يُتَوَقَّعُ منها نَصْرٌ ولا تَقَدُّمٍ ولا إنجاز.

ولقد أمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ أنْ يدعو المؤمنين فيتجاوزوا عن الذين لا يرجون أيَّام الله: (قُل لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ يَغۡفِرُواْ لِلَّذِينَ لَا يَرۡجُونَ أَيَّامَ ٱللَّهِ لِيَجۡزِىَ قَوۡمَۢا بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ) (الجاثية: 14)؛ فهم مساكين لا يزال يقعد بهم اليأس فيخشون التحرك للتغيير، ويخافون الفراعنة بل وربما عاونوهم ضد مَنْ يعملون لإنقاذهم، وأساءوا إليهم.

ولعل ذلك المعنى الكبير -التَّذكير بأيَّام الله- هو الذي حدا بالفاروق -رضي الله عنه-، وكِرَامِ الصَّحابَة في خلافته، إلى اختيار حَدَثِ الهجرة مُنطلقاً للتأريخ الإسلامي، رافضين اتباع الرُّوم أو الفُرس، ومُؤْثِرِينَ الهجرة على سائر المُناسبات النَّبويَّة الأخرى كالمَوْلِدِ، والبعثة والوفاة.

فلقد كانت الهجرة مِفْصَلاً هامّاً في تاريخ الدَّعوة الإسلامية، حيث تحوَّل المسلمون من جماعة مُضطهدة مُستضعفة، إلى مُجتمع ودولة ذات عِزَّةٍ ومنعة واستقلال.

كان الرَّسُولُ عليه السلام، حتى الأمس القريب يرى أصحابه يُعَذَّبُونَ فلا يملك إلا أن يدعُوهم إلى الصَّبر واعداً إيَّاهم بالجنَّة، ثم هو بعد الهجرة يُسَيِّرُ جيشاً إلى عُقْرِ دار الرُّوم في مُؤتة رَدّاً على قتل عُملاءِ الرُّومِ لأحَدِ رُسِلِهِ.

لقد خَلَّدَ القرآنُ الكريمُ الهجرة النبوية واصفاً إيَّاها بالنَّصر لرسُوله: (إلَّا تنصروه فقد نصرهُ اللهُ إذ أخرجهُ الذين كفروا ثانيَ اثنين إذ هُمَا في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إنَّ اللهَ معنا)، وهذا شبيه ما جرى لموسى عليه السلام، إذ كان البحر من أمامهم والفرعون بجنوده من ورائهم، فأسقط في أيدي قومه وأيقنوا أنهم مُدركون، فَرَدَّ عليهم موسى بِكُلِّ ثِقَةٍ وإيمانٍ: (كَلَا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)، وقد كان.

إن كاتب هذه المقالة لا يقصد إلى الدخول في جدل حول شرعية الاحتفال بالهجرة النبوية، وليس مع جعلها عيداً أو عطلة رسمية، ولكنه يدعو حمَلة اللواء لإخراج الأمَّةِ مِنَ الظلمات إلى النُّورِ، ليُكثروا من التَّذكير بأيَّام الله.

المصدر:
http: http://www.alsunnah.org