القاعدة الثانية والعشرون: التدرجُ في العقوبةِ منهجُ الإصلاح 22_10310
القاعدة الثانية والعشرون: التدرجُ في العقوبةِ منهجُ الإصلاح
أ.د. ناصـــر بن سليمان العمر
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين
قال الله تعالى: (فَعِظُوهُنَّ وَاهجُرُوهُنَّ فِي المَضَاجِعِ وَاضرِبُوهُنَّ) (النساء: 34).
تضمنتِ الآيةُ الكريمةُ قاعدةً جليلةً لعلاجِ الخَطَأ والخَللِ الذي قَدْ يَظْهرُ مِنَ الزوجةِ، فبيّنتْ أنَّ العلاجَ يكون مرحليًا: (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا * وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا)؛ يعني إذا زاد الخلاف، (فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا).
 

لقدْ جاءت التشريعات المتعلقةُ بالحياةِ الزوجيةِ لتحقيق الاستقرار والعدلِ والطمأنينةِ في البيوتِ، وهيَ مقدماتٌ مهمةٌ لتحقيقِ الاستقرار في المجتمع، فلْننتبهْ لتصرفاتِنا بِناءً على ضوء هذه الآيةِ العظيمة.
 

والآية تُرشِدُ إلى البدءِ أولًا بالوعظِ عند ظهور بوادر النشوز وقبل أن يستفحل الأمر؛ أن يَعِظَها زوجُها ويُخوّفَها باللهِ، فإن انتهتْ فالحمدُ لله، فإنْ لمْ تنتهِ ولم يَنفَعِ الوعظُ فلهُ أنْ يَنْتَقِلَ إِلَى التي بعدها (وَاهجُرُوهُنَّ فِي المَضَاجِعِ).
 

والهجرُ علَى نوعين:
الأولُّ: أنْ يَمتنعَ عنِ الكلامِ مَعَهَا إلَى ثلاثةِ أيام، وإنْ زادَ علَى ثلاثةِ أيامٍ فلا يَقْطَعُها بالكُليَّةِ، بل يُسلِّمُ عليها ويَردُّ عليها السلامَ، ولكنْ تَجِدُ مِنْ معاملتِه خلافَ ما تَعْهَدُهُ منهُ، من التبسط في الحديث والمعاملة.
 

والثاني: هَجْرٌ في المضجعِ، أي يكونُ معَها في فرِاشٍ واحدِ لكنَّه لا يُكَلِّمُها ولا يُداعِبُها ولا يقربها، وهذا مِنْ أشدِّ ما يقعُ علَى المرأةِ.
 

وينبغي التَّنبهُ إلى قولِهِ تعالى: (فِي المَضَاجِعِ)، لَمْ يَقُلْ يهجِّرها من البيت بأن تذهَبَ لأهلِها، ولم يَقُلْ (واهجروهن في البيوتِ)، بَلْ يَبْقَى مَعهَا في بيتِها، يأكلُ ويشربُ، ولكنْ يهجرُها في الفِراش، وفي الفراش فقط!

فلا ينامُ في غرفةٍ مستقلةٍ، وإنْ كانَ هذا جائزًا من حيث الأصل، سائغًا أحيانًا، وبخاصة إذا وجد سببه.
 

فإذا لم يُجْدِ ما سبقَ مِنْ أنواعِ التأديبِ، تأتي المرحلةُ الأخيرةُ، (وَاضرِبُوهُنَّ)، فآخِرُ الدواءِ الكي.

ولابدَّ هنا مِنْ تنبيهاتٍ:
الأول:
أنَّ الضربَ المُرادَ هو الضربُ غيرُ المُبَرِّح.

الثاني:
أنَّ الأمرَ هنا مصروفٌ عنِ الوجوبِ إلى الِإباحةِ.

الثالث:
أنَّهُ لا يُنتقلُ لهذا العلاجِ إلا بعدَ فشلِ ما سواه، بل لا يجوز الضرب إلاّ لهذا السبب أو سبب معتبر شرعًا.

إنَّ مِنَ الأمورِ المؤْسِفَةِ، أنَّ فهمَ بعضِ الرجالِ الخاطئَ لمسألةِ القِوامةِ يجعلُهُ يَتعدَّى علَى زوجتِه بضربٍ مُبَرِّحٍ، وقد يضربُها لأقلِّ خطأٍ لا يستدعِي مثله الضربَ، وقدْ يبدأُ بالضربِ مباشرةً دونَ أنْ يكونَ هناكَ تدرجٌ في التأديبِ، وهذا كلُّه خطأٌ.

فالآيةُ تُرشِدُ إلى التدرجِ، فالوعظُ أولًا، والوعظُ نفسُه درجاتٌ، فقد يكون رقيقًا وقد يكون شديدًا، بحسب الخطأ، ثم يأتي الهجر وهو درجاتٌ كذلك، وأخيرًا يأتي الضربُ إن ظن فيه صلاحًا.

إنَّ اختيارَ درجةِ التأديبِ المناسبةِ لكلِّ خطأٍ نوعٌ منْ أنواعِ الحكمةِ (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) (البقرة: 269).

يقولُ ابنُ القيمِ رحمه الله:
”الحكمةُ فعلُ ما يَنبغي كمَا يَنبغي، في الوقتِ الذي يَنبغي“ .

فلا ينبغي أن يُجعلَ مَحلَّ الوعظِ الرقيقِ وعظٌ شديدٌ وعنيفٌ، ولا محلَّ الهجْرِ اليسيرِ هجْرٌ دائمٌ، ولا محلَ الهجرِ الضربُ، ولا أن تُضربَ المرأةُ ضربًا شديدًا مبرِّحًا، كلُّ هذا لا يجوز.

بلِ الذي ينبغي هو انتهاجُ سبيلِ الحكمةِ، إذ المقصودُ هو العلاجُ لا الانتقامُ أو إيقاعُ العقوبةِ، وهذا معنىً عظيمٌ جدًا.

وأَذْكرُ في هذا المقامِ حالَ بعضِ منْ أعرِفُهُ من الأزواجِ، يقولُ: إذا وقعتْ مشكلةٌ منْ زوجتي فلا يمكنُ أن أُعاتِبَها وهي غضبانةٌ بلْ أَنتظرُ حتى تهدأَ، فإذا كانتْ في خير حالاتِها لَمَّحتُ للموضوع تلميحًا، فإن لم يُجدِ التلميحُ اضْطُرِرتُ إلى التصريحِ.

وقدْ لا أُحدِّثُها مباشرةً، إنما أَنتظرُ يومًا أو يومين أو أسبوعًا، بلْ قدْ أنتظرُ -واللهِ- الشهرَ والشهرين والسنةَ، حتى يحينَ الوقتُ المناسِبُ لوعظِها في الموضوعِ، رَغْمَ أنَّه قدْ يكونُ أمرًا كبيرًا، بشرطِ ألا يُفَوِّتَ تأجيلُ الكلامِ مصلحةً ولا يُسبِّبُ ضررًا، يقولُ: والذي يُصبِّرني هذه المدةَ أنني أريدُ علاجَ الموضوعِ كي لا يتكررَ، فليسَ همِّي أنْ أُقيمَ الحجةَ عَليها، وبحمدِ اللهِ فإنَّه بهذه الطريقةِ قلّ أنْ يتكررَ الخطأُ.

وبهذا استقامتْ حياتُهمْ واستقرَّتْ، واستقرَّتْ حياةُ أولادِهم أيضًا، لما يرون من والديهم، بل سمعت بعض أبناء طلاب العلم، وقد تجاوز العشرين سنة يقول: لم نسمع والدينا يعاتب أحدهما الآخر أمامنا أبدًا.

ومِنَ الحكمةِ أيضًا مَا أَعرِفُهُ عنْ بعضِ الأزواجِ، يقولُ: واللهِ لا أَذكُرُ أنني عاتبتُ زوجتي أمامَ الأولادِ أبدًا، ولا أنها عاتَبَتْني أمامَهم أبدًا.

وهذا لا يَعني أنهما لا يَقَعانِ في الخطأِ أمامَ الأولادِ، لكنَّه اتفاقٌ بينهما غيرُ مكتوبٍ، ألَّا يُعاتِبَ أحدُهما الآخَرَ أمامَ الأولادِ؛ لأنَّ العِتابَ أمامَ الأولادِ، والخلافَ والشّجارَ أمامَهم يُحْدِثُ لديهم رَدَّةَ فعلٍ نفسيةً غيرَ مناسبةٍ، وهما في النهايةِ يُريدانِ علاجَ المشكلةِ لا إحداثَ مشكلةٍ جديدةٍ، فَيَبْحثانِ عنِ الوقتِ المناسبِ للكلامِ والعتابِ في حالةِ صفاءٍ، وفي خَلوةٍ بَعيدًا عنِ الأولادِ.

فالمقصودُ أنَّ التَّدرجَ في علاجِ خَطأِ الزوجةِ مِنَ الحِكمةِ، وَهُوَ مَطْلوبٌ مِثلُ التدرجِ في علاجِ المريضِ، فلوْ أُعطِيَ الرجلُ علاجًا أقوَى مما يحتاجه المريض ضرَّه، ولهذا نجدُ بعضَ الناسِ قدْ يذهبُ إلَى الطبيبِ ويطلبُ مضادًا حيويًا فلا يُجيبُه الطبيبُ؛ لأنهُ لا يحتاجُ المضادَ ويَكفيه مسكِّنٌ، ومنَ الخطأِ أن يَصفَ لَه مضادًا حيويًا.

وبعضُ الأطباءِ قدْ يَصِفُ للمريضِ مباشرةً مضادًا حيويًا قويًا، فإذَا ذهبَ لطبيبٍ غيرِه قالَ: لا يَحْتاجُ الأمرُ لمضادٍ فضررُه أكبرُ من نفعِه، ويَكفيكَ مُسكِّنٌ أوْ علاجٌ آخرُ دونَ مضادٍ، وبالفعلِ يَذهبُ مَا بهِ بإذنِ اللهِ، وهناكَ مِنَ الأطباءِ مَنْ يَتعجَّلُ فيقرِّرُ للمريضِ عمليةً جراحيةً، فإِذَا ذهبَ لطبيبٍ غيرِهِ قالَ: لا يَحتاجُ الأمرُ لعمليةٍ بلْ لعلاجٍ متدرجٍ، وبالفعلِ يَأْذَنُ اللهُ بالشفاءِ.

فكمَا أنَّه يَنبغِي التدرجُ في علاجِ الأمراضِ الحِسِّيَّةِ، فكذلكَ نَتدرجُ في علاجِ الأدواءِ المعنويةِ، فلنبدأْ بالوعظِ بدرجاتِه، ثمَّ يكونُ الهجرُ بدرجاتِه، ثمَّ مَنِ اضطُرَّ إلَى الضربِ فهوَ مباحٌ، ومعَ هذا، فإنني لا أَنصَحُ بهِ في واقعنا، بلْ إني أَنصَحُ بعدمِ الضربِ مطلقًا إلَّا للضرورةِ.
 
إنَّ قدوتَنا صلى الله عليه وسلم الذي أُوحِيَ إليهِ بهذهِ الآيةِ وَعَظَ وهَجَرَ، لكنّه لمْ يَضربْ صغيرًا وَلا كبيرًا وَلا رجلًا وَلا امرأةً قطّ، إلّا ما كانَ في المعاركِ منْ قتالِ الكفارِ والجهادِ في سبيلِ اللهِ.

وقدْ وقعتْ في بيته -بأبي هو وأمي- مشكلاتٌ، فوعظَ فيها وذكَّرَ، ووقعَ فيه ما جَعلَه يَهْجرُ أزواجَه شهرًا، لكنّه صلى الله عليه وسلم لمْ يَضْربْ أبدًا، بلْ حتَّى في قضيةِ المُتظاهِرَتينِ -وهِيَ قضيةٌ عظيمةٌ جدًا- لمْ يضربِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، بلْ إنَّه لمْ يَضرِبْ خادِمَه كمَا ذَكَرَت عائشة رضي الله عنها، فهذا خُلُقُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم الذي أَثنىَ اللهُ عليهِ بقولِهِ: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم) (القلم: 4)، فينبغِي لنا التأسِّي به.

ثمَّ إنَّه عِنْدَمَا رَخّصَ بِضَرْبِ النساءِ عَلِمَ بِشكْوَى بعضِهنَّ منْ ضَرْبِ أزواجِهنَّ فقالَ: (لَقَدْ طَافَ بِآلِ مُحَمَّدٍ نِسَاءٌ كَثِيرٌ يَشْكُونَ أَزْوَاجَهُنَّ، لَيْسَ أُولَئِكَ بِخِيَارِكُمْ).
 

فَمَنِ اضْطُّرَّ إلى الضَّربِ فهُوَ مُباحٌ وحَقٌّ للرَّجلِ لكنَّه ليسَ أمرًا واجبًا، وفرقٌ بينَ أنْ يستخدمَ الرجلُ حقَّه وأنْ يعفوَ، والله تعالى يقول: (وَلَا تَنسَوُا الفَضلَ بَينَكُم) (البقرة)، ويقول: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (النور: 22)، فلْنأخذْ بمعالي الأمورِ منْ أجلِ أنْ (ستقِرَّ حياتُنا، ولا نبحثْ عنْ أيّ دليلٍ ونستخدمُه خطأً ونقولْ وَاضرِبُوهُنَّ)، بلْ نستخدمُ الدليلَ في موضعِهِ لأنَّنا نُريدُ العِلاجَ.

المصدر:
http://almoslim.net/tarbawi/290428