(47) جلسة من ضمن جلسات جمعيتنا:
لَمَّا أثبتنا للقوم بالبراهين العقلية صِحَّة الدِّين الإسلامي وأنه دِينُ الفطرة والمدنية، شرعنا نبيِّن لهم الأسرار والفوائد الجَمَّة المتعلقة بحياة المَرْءِ الدنيوية والأخروية المُودَعَةِ في أحكام العبادات والمعاملات التي جاء بها الدِّين مِمَّا لا يوجد في تعاليم أي مذهب ودِينٍ من الأديان سوى الدِّين الإسلامي، وكُنَّا نكتبُ ذلك لهم ببيانٍ وافٍ وسهولةٍ تُقَرِّبُ فهْمَ كُلِّ ما نذكره على العقول، وكل شيء نقرره كان يُترجَمُ باللغة الإنكليزية والفرنسوية كما تقدَّمَ، وكانت الصورة الإنكليزية تُعطَى للمسيو “جازنيف” لأجل ترجمتها إلى اللغة اليابانية ويلقيها على القوم فكانوا يكتبون في مذكراتهم لديهم، وأول ما بدأنا ببيانه في هذا الباب هو الصلاة، ونذكر هنا مُجمَل ما بيناه من فوائدها تخفيفًا على القارئ، واحترازًا من الإسهاب في غير موضعه.

وأوَّلُ ما قرَّرناهُ هو الفائدة في جعلها خمسًا في اليوم والليلة، وذلك أنَّ أدَاءَ الصلاة في أوقاتها الخمس يدعو النفس إلى نبْذ الكسل والخُمُولِ، وحَثِّهَا على القيام بعمل الواجب في أوقاته، وإعلامها أنَّ التسويف في أداءه أو تأخيره عن أوانه فيه خُسرانٌ عظيمٌ، وضررٌ بمصلحته، ويدعوها أيضًا إلى مراقبةِ جانبِ اللهِ تعالى؛ إذ يقفُ المَرْءُ بين يديه جلَّ شأنه خَمْسَ مَرَّاتٍ في اليوم والليلة خاضعًا خاشعًا مُتطلبًا عَفْوًا وغُفرَانًا لذنوبه مُستمدًّا مَعُونَتَهُ، وفي ذلك من تهذيب نفسه ونُفُورهَا من المعاصي ما لا يخفى.

أمَّا السِّرُّ في تفضيل صلاة الجماعة على صلاة المُنفرد، فلِمَا في الثانية من معنى الانفراد وهو ضِدُ الاتحاد، ولِمَا في الأولى من معنى الاتحاد الذي هو أسَاسُ النَّجَاح في كُلِّ الأعمال، وفيها أيضًا معنى المساواة والعدل؛ إذ يقفُ الغنيُّ الحَسَنُ البِزَّةُ بجانب الفقير الرَّثِّ النَّتِنِ كَتِفًا لِكَتِفٍ، وهذا منه إشارة ناطقة بأن المُسْلِم لا يَفْضُلُ أخاه المُسْلِم بالغِنَى والجَاه، وإنَّمَا يفضله بالتقوى وهذا نهاية العَدْلِ، ومنه أيضًا إشَارَةٌ إلى أنَّ إطاعة الرُّؤَسَاءِ والاقتداءِ بهم من الصِّفَاتِ الجميلةِ التي يِتِحِلَّى بها العُقلاء.

ولَمَّا كانت صلاةُ الجماعة في هذه الأوقات تكونُ في الغالبِ قاصرةً على أهل البيت الواحد أو الحارة الواحدة، جعل الشارع الحكيم يوم الجُمُعَةِ عَامًّا لأهل البلد؛ إذ يجتمعون في مسجدٍ واحدٍ، فهذا يكون أبلغ في الاتحاد، وقد ارتقى الشارع في هذا الصدد فجعل صلاة العيدين وهي أعَمُّ من صلاة الجُمُعَةِ؛ إذ يجتمع فيه أهل البلد والبلدين في ساعة واحدة في وقتٍ واحد، واشتراط الخضوع، والخشوع، والسكينة، والتؤدة في الحركات البدنية والقولية فيه إشارة إلى أن التأنِّي في العمل وعدم التسرع من أقوى أسباب الفلاح والنجاح، وإشارةً أيضًا إلى التأدُّب أمام من هو فوقك منزلةً، وصرف النظر عن الكبر المُهلك لها بالانحناء، ووضع الجبهة على الأرض وفوق التراب الذي هو أخس الأشياء تذليلًا لجماحها، وكسرًا من شوكتها، والتنزه عن النجاسة فيها إشارة إلى تدريب النفس على النظافة؛ ليكون المرء بعيدًا عما تشمئزُّ منه النفس من الأوساخ والأدران، ولأن نظافة الظاهر إذا اجتمعت مع نظافة الباطن كان ذلك أدعى إلى مَيْل القلوب إليه، وفي هذا فائدة لا يعرف مقدارها إلَّا ذو اللُّب السليم.

وفي تحديد الأوقات وترتيب الصفوف إشارة إلى أن الواجب على العاقل أن يجعل لكُلِّ عمل وقتًا محدودًا، وأن يسير على نظام مخصوص يضمن له النجاح والفلاح، بخلاف ما إذا لم يرتِّب لأعماله أوقاتًا ونظامات، بل يجعلها فوضى، فإن ذلك تعطيل لها وضياع للأوقات بلا جدوى.