(45) إعجاز القرآن:
لَمَّا أرْسَلَ اللهُ سبحانه وتعالى سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وكان من العنصر العربي، والعرب خُصُّوا بفصاحة اللسان، وحُسْنِ البيان، مِمَّا لا يوجد في أمَّةٍ سِوَاهُمْ، كان القرآنُ من أعظم المُعجزات التي بَهَرَتْ عقولهم، ففي أول الأمر نظروا إلى بلاغته فقالوا هذا قولُ شاعر لعلمهم أنَّ الشعراء منهم هم المالكون لِأَزِمَّةِ البلاغة، فحَاجَّهُمُ اللهُ بقوله تعالى: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ)، وليست بلاغةُ القرآن في جمال تركيبه ومعانيه، وإتيانه بالإيجاز في موضعه والإطناب في مواطنه، وإحكامُ مواضعَ الفصل، والوصل مِمَّا لا يُمكنُ لأفصح الناس الإتيان بمثله، بل إعجازهُ أيضًا من جهة أنه يقرؤه ويتلوه الإنسانُ ألْفَ مَرَّةٍ، وهو لا يزدادُ إلَّا حلاوةً في السَّمْعِ بخلاف كُلِّ كلامٍ غيره مهما كانت درجته في البلاغة، فإنَّهُ إذا أُعِيدَ مَلَّتْهُ الأسماعُ، ونَفَرَتْ منه الطّبَاعُ.

وقد أقَامَ اللهُ الحُجَّةَ على الذين لم يُصَدِّقُوا أنَّهُ كلامُ اللهِ القديم وقالوا إنه من كلام البشر بقوله تعالى: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)، وهذا أكبَرُ دليل على عجزهم.

ومِنْ إعجازه أيضًا، أنه أخْبَرَ عن الأمَمِ السابقة وحوادثهم بأوجز عبارة مما لم يكن معروفًا لدى علماء ذلك العصر مع اجتهادهم في الوقوف على حقيقته، ومن إعجازه إتيانه بالأحكام التي لو اجتمع كُلُّ أهل الشَّرائِعِ لَمَا قَدَرُوا على وضع مثلها مِمَّا يُلائِمُ ويوافقُ حالة كُلِّ أمَّة من الأمم جمعًا، هذا فضلًا عن الحُجَجِ الدَّامغة في تقرير الوحدانية له تعالى في كثير من المواضع، وكُلُّ الفُصَحَاءِ والكُتَّابِ والشُّعراءِ من أهل الأديان الأخرى يقتبسون منه في إنشائهم ما به يحسنونها، ويفضلونه على كلام العرب الذين هم أفصح الأمم مَنْطِقًا.