(21) السيد البشير صفر رئيس ديوان الأوقاف بتونس:
هو وارث أرستطاليس، والأستاذ الرئيس، أدَبٌ وفضلٌ، ومعرفة ونُبْلٌ، درس العلوم فأحياها بعد الدروس، وتعهَّد غرس طلابها بسقيا حسْن الإفهام في أوقات الدروس، وخلص كُلَّ التخليص ومحص التمحيص معنى كُلِّ عويص، أدب نادر، وفضل باهر، وألمعية تكشف الالتباس، وقريحة كأنها من الذكاء مقياس، اليراع في يمينه أصدق أنباء من الحسام، يأتي بالمعجز من الكلام، فهو رسول الوحي والإلهام، هو في الأدب عبد الحميد، وفي النحو محمد بن يزيد، وفي الفلسفة الفارابي وابن رشد.

أقْسِمُ لَوْ رَأَيتَهُ وهو يُحادِثُ السُّمَّارَ، بنوادر الأخبار، ورقيق الأشعار، لَقُلْتَ الأصمعي بل أظرفُ حكاية، وأغربُ رواية، ولو رأيتهُ وهو يُلقي على الطلاب قواعدَ الإعرابِ، لَقُلْتَ سيبويه أو الخليل، أو علوم الدِّينِ، وتفسير الكتابِ المُبينِ، لَقُلْتَ هذا ابنُ سيرينَ أو أحَدُ المُجتهدينَ، ولو شاهدتهُ وهو يُقَرِّرُ في الفلسفة والمنطق لَمَا قُلْتَ: “إنَّ البَلَاءَ مُوَكَّلٌ بِالْمَنْطِقِ”، هو في كُلِّ عِلمٍ عَلَمٌ على رأسهِ نارٌ أو شمسٌ يَعُمُّ ضوءها كُلَّ الأقطار.

أمَّا أخلاقهُ فهي في رِقَّةِ النَّسيم، أو الخمر مِزَاجُهَا من تَسْنِيم، أو عُرْفِ اليَاسَمِينِ بل عِطْرُ دارين، طهارةُ أعراقٍ ودَمَاثةُ أخلاق، تَعَاظُمٌ في خُشُوعٍ وأنَاةٌ في نُزُوع، يُكْرِمٌ النَّاسَ من كُلِّ الأجناس، خُصُوصًا أهْلَ وطنهِ، وعلى الأخَصِّ عُلَمَاءُ زمنه لا سيما مَنْ تجمعهُ بهم جامعة الدِّينِ مِنَ المُسْلِمينَ على عِفَةٍ وصَلَاحٍ، وأرْيَحِيَّةً وسماح، وكياسة وسياسة، وبُعْدِ نظر يُصِيبُ شاكلة الرَّمِيِّ وناهيك بالذَّكِيِّ الألمعي:
من مخبر الأعراب أني بعدهم
شاهدت رسطاليس والإسكندرا
ورأيت كل الفاضلين كأنما
جمع الإله نفوسهم والأعصرا


هو في تونس أسْتَاذٌ وإمَامٌ في الفضل، وكرم النفس؛ حيث كان حكيماً في العلم والفلسفة، وكمال الدراية والمعرفة، وهذا هو الوجه الأول، ولم ير المجد في مُجَرَّدِ الاتصاف بالعلم ومزية الفضل، بل يرى الفخر في خدمة الأوطان بآثار ما أحرزه من العلوم والمعارف، والغنى في حُسْنِ الأحدُوثَةِ أفضل من الغني التالد والطارف وأسَّسَ المدرسة الخلدونية وأيَّدَ العُلُومَ العصريَّة، وحثَّ على الأعمال الخيرية، وأحيا ذِكْرَ الوطنية وهذا هو الوجه الثاني الأفضل الذي عليه المعول:
إذا مات منا سيد قام سيد
قئول لما قال الكرام فعول


وبما أن هذا السيد الأورع والفاضل الأبرع والهمام السَّمَيْدع، يجدر بنا أن نفخر بمثله نذكر ملخص تاريخ حياته الذي نقلناه من أوثق المصادر.
•••
هو محمد البشير بن المنعم أمير اللواء مصطفى صفر أصله من الترك الذين استوطنوا تونس على عهد حسين بن علي مؤسس العائلة الحسينية.
•••
وُلِد هذا الشهم عام 1280ه فربَّاه والده وأحسن تربيته، ولما ترعرع أُدْخِل المدرسة الصادقية في بدْء تأسيسها فظهرت عليه دلائل النجابة، وتوقُّد القريحة فعُيِّن في طالعة الإرسالية التي ذهبت إلى باريس عاصمة فرنسا؛ لتكميل نصاب التحصيل على نفقة المدرسة الصادقية، ثُمَّ عاد إلى تونس في أواخر سنة 1300هـ، فأخذ يتقلَّب في الوظائف السامية فعُيِّن مترجمًا في الوزارة الخارجية، ثُمَّ أُلْغِيت الوزارة المذكورة وتعيَّن محتسبًا بالإدارة العأمَّة، فأخذ يتدرج إلى أن صار رئيس قلم المحاسبة مع انضمام إدارة المدرسة الفرعية التي كانت قرب بطحاء رمضان بأي، ثُمَّ كُلِّف بالمراقبة على جمعية الأوقاف.

وأدخل فيها من الإصلاحات ما شاء الله أن يدخل، ثُمَّ صدر له الأمر العالي برئاسة الإدارة المذكورة وهي اليوم سائرة بحسن أفكاره وثبات عزيمته حتى أشبهت أعظم الإدارات الأوروبية، أما خدمته الوطنية التي هي بيت القصيد من كتابة هذه العجالة فقد بلغ فيها مبلغًا عظيمًا، حتى لقد يُدعَى بين مواطنيه بالناصح الغيور، وكادت النهضة الموجودة الآن في تونس تنحصر فيه، فهو الذي سعى في تأسيس المدرسة الخلدونية وجاهد في سبيل حياتها جهاد الأبطال.

وهو الذي قام بمشروع المستعمرة الفلاحية بإعانة نخبة من أبناء الوطن الساعين في سعادته، وهو ذو المآثر التي لا يحيط بوصفها القلم، ولا يقدر على تعدادها اللسان، وبالجملة فالرجل بقيمة الدهر، ونادرة العصر، وقد أجمع التونسيون على حبِّه واحترامه نظرًا لشهامته وغيرته، حتى إنك ترى الناس يفسحون له الطريق أثناء مروره ويقفون إجلالًا وتعظيمًا له، ومع هذا فهو متواضع كريم الأخلاق طاهر القلب صادق العزيمة ذو حزم ونشاط بالغًا حدَّ النهاية في كُلِّ الأخلاق التي تسمو بالرجال إلى أوْجِ الكمال.

هذه نبذة صغيرة في ترجمة حياته أوردناها هنا كي تكون مثالًا للذي تركناه، أكثر الله من أمثاله في الأمَّة الإسلامية بِمَنِّهِ وكَرَمِهِ.