(3) وقفة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط:
بَكَّرْتُ ذاتَ يوم وأنا في الإسكندرية وكان الجو صافي الأديم، بليل النَّسيم، ومناظر الطبيعة قد مَلَكَتْ على العين لفتاتها، فذهبتُ إلى شاطئ البحر فإذا هو أصفى من ساعات السُّرُور، والشَّمْسُ قد ألقَتْ عليه أشعتها، فكأنَّه في زرقته بساط مُذهَّبٌ أو لَوْحٌ من البلّور فيه نُقُوش ذهبيَّة أجادت الطبيعة صُنْعَهَا.

وكأنَّ أشرعة السُّفُنِ قنا غُرِسَ على الشَّاطئ، وكأن الزَّوَارِقَ في ذهابها وإيابها طيورٌ ناشرةٌ أجنحتها البيضاء في الفضاء، وكأنَّ ذهاب السُّفُن التجاريَّة قِطَعُ السَّحَابِ الأدْكَنِ.

ألقيتُ نظري على أديم البحر فكأنَّ السَّماء عند مُنتهى رمية الطرف قد التصقت بالبحر، فذكرتُ في الحال ما استدلَّ به الجُغرافيُونَ على كُرَويَّةِ الأرض بأن المَرْءَ إذا ألقى نظرهُ إلى أبعد مسافةٍ يرمي إليها الطرف يَجِدُ كأنَّ القبَّة الزَّرْقَاءِ قد التحمت بالبسيطة الخضراء، فإذا ذهب وقف إلى حيث انتهى بَصَرُهُ يجد الحال كذلك، فإذا استمر على هذه الكيفية طاف حول الأرض وهو يحسب أنه يمشي على مُنْبَسَطٍ غير مستدير.

وعلى ذِكْرِ الجُغرافيا تمثّل أمامي على الخريطة وأنا أنظر ما على شواطئه من المُدُنِ والثّغُور وحركات عُمَّالِ الجمارك، وكُلّ ذَاتِ ألوَاحٍ ودُسُرٍ تمخرُ في عبابه، وبينما أنا ناظرٌ إلى ما رُسِمَ في مُخيِّلتِي من ثغور هذا البحر، تذكَّرت تاريخ مجد الإسلام وممالك الدولة العربية فرأيتُ كأن العلم الإسلامي يخفق فوق ربوعها التي أصبحت الآن في يد الأجانب، بحيث لو كانت هذه البلاد والجُزُرِ والممالك الآن في قبضة الإسلام، لكانت دولتنا العليَّة تُدعَى سيِّدةُ البحار، أمَّا مِصْرُ فأدعُ الكلام عنها الآن؛ لأنها لم تزل تحت سيادة الدَّولة العليَّة والكلام عليها يخرج بنا عن الموضوع الذي لأجله كتبنا هذه الرحلة، كما أتركُ الكلام على سواحل سوريا، والبوسفور، وكريد، والأرخبيل.

فأوَّلُ ما ذَكَّرَنِي مَجْدَ الإسلام جزيرة رودس التي ساق إليها الأسطول سيدنا معاوية بن أبي سفيان وهو أولُ أسطول إسلامي ذهب للفتح في البحر، فأخذ هذه الجزيرة من يد الإفرنج، وعاد الأسطول إلى سواحل الشام ظافرًا، ثُمَّ جزيرة قبرص التي أخذتها إنكلترا جائزة لها من الدولة العليَّة في الحرب الروسية التي حصلت معها، ثُمَّ مملكة اليونان التي كانت ضمن ولايات الدولة العليَّة فأصبحت الآن مملكة مستقلة، وقادها الغرور في سنة 1897 إلى محاربتها وبلغت درجت الغرور لديها أنها طمعت في فتح القستنطينية وردها إليها بعد أن أخذها السلطان محمد الفاتح من عنمنويل سنة 1453 ميلادية الموافقة سنة 857 هجرية.

وما كِدْتُ أفرغ من النظر بعين المَخيلة إلى هذه الجزيرة والبلاد، حتى اعترتني دهشة وقشعريرة وحُزْنٌ استولى على القلب حين ما وقفتُ على سواحل إسبانيا.

هذه المملكة التي كانت تُمَثِّلُ مجْدَ الإسلام وفخْر العرب أجَلَّ تمثيل، فتح المُسْلِمون هذه البلاد في عهد الدولة الأموية في بدئها؛ حيث ذهب إليها موسى بن نصير وطارق بن زياد بجيشٍ لم يكن كثير العدد ولكنه كان يعادل الفرد الواحد من جنوده ألفًا، وبوغاز جبل طارق سُمِّي بهذا الاسم لأن طارق بن زياد حين مجيئه بالسُّفن إلى هذا المكان وأنزل الجنود عمد إلى السُّفُنِ فأحرقها، وقال للجنود: إمَّا المَوْتُ وإمَّا النَّصْرُ؛ لأننا إذا نكصنا على الأعقاب فلا نجدُ سُفنًا للنَّجاة، فدَبَّتْ رُوحُ الحماس في الجنود.

وهكذا تكون شجاعة الرجال وعظماء القواد والأبطال.

وما زال موسى بن نصير يفتح البلاد الإسبانية حتى وقف على حدود فرنسا، وأخذ جزءًا عظيمًا منها وجزءًا أيضًا من البرتغال.

وقد بَقِيَتْ الأندلسُ أربعمائة عام تقريبًا، وهي تحت حُكم العَرب وكان السلطان فيها يُقالُ له: "أميرُ المُسْلِمين".

وما كادت قَدمُ العرب تستقر في هذه البلاد، حتى ظهرت فيها المدنية الإسلامية بأجمل مظاهرها، وكانت سوق الأدب فيها رائجة بالشعراء، والمؤلفين، والأدباء، والفلاسفة، مع الأخذ في أسباب الترف والنعيم من بناء القصور الشامخات ذات الرياش الفاخرة، والجواري، والمماليك، والقيان، والغلمان إلى غير ذلك مما نشاهد آثارها الآن بعين الدهشة والاستغراب.

ومِمَّا يُحكَى أن زوجة أحَدِ الخلفاء فيها رأت إحدى الجواري تدوس برجليها في حفرة بها طين فكاشفت الخليفة برغبتها في أن تفعل فِعْلَ الجارية فأمَرَهَا بأن تضعَ المِسْكَ في حُفْرَةٍ بَدَلَ الطّين وتَدُوسُهُ برجليها فَفَعَلَتْ، وبعد زَمَنٍ وقَعَ نُفُورٌ بينها وبينهُ فقالت له في عُرْضِ حديثها: إنِّي لم أر مِنْكَ يَوْمًا يَسُرُّنِي، فقال لها: وَلَا يَوْمُ الطّينِ! فَتَذَكَّرَتْ وخَجِلَتْ.

وقد نقل المؤرخون من تفنُّن العرب في الأندلس في ضُروب المدينة والحضارة ما يُغني الاطلاع عليه في محاله عن ذِكْرِهِ هنا.

ثُمَّ حَوَّلْتُ نظري إلى بوغاز جبل طارق الذي أصبح الآن في قبضة إنكلترا فمَلَكَتْ به زمام البحر الأبيض المتوسط من جهة المُحيط الأطلنطي، والذي له خبرة بحلِّ الطلاسم السياسية يرى أن إنكلترا لَمَّا استحوذت على هذا البوغاز رأت ضرورة أخذ قنال السويس لسهولة الوصول إلى الهند من طريق تملُّكها أو على الأقل يكون لها فيها امتياز بنوع خصوصي على سائر الدول، وأودعت رغبتها هذه ضمير الليالي حتى ساعدتها ظروف الأحوال بمُشتري الأسهم من إسماعيل باشا، ثُمَّ جاءت الثورة العُرابيَّة واحْتَلّتْ مِصْرَ، فأصبح هذا القنالُ في حكم بوغاز جبل طارق، ولا عبرة بكونه حُرًّا مع وجود الاحتلال.

فلو كان بوغاز جبل طارق باقيًا في حوزة الخلافة مع قنال السويس وبوغاز البوسفور لكانت دولتنا اليوم قابضة على البحر الأبيض المتوسط، ولكان نفوذها فيه لا يُعادله نفوذ أيَّة دولة أخرى.

ثُمَّ عطفتُ نظري إلى المملكة المراكشية وتأمَّلتُ أحوالها السياسية والاقتصادية، وماضي تاريخ مُلُوكِهَا، وما كانت عليه من الاستقلال التام قبل انعقاد مؤتمر الجزيرة الذي جعل استقلال هذه المملكة صوريًّا.

فلو كانت هذه المملكة سائرة على نهج التَّرقِّي المادي والأدبي الذي سار عليه من قبل مُلُوكِهَا من عهد دخول العرب إلى إسبانيا لكان لنا بها بعض العزاء على ضياع الأندلس من يد العرب.

على أنَّ وقائع العبر لم تؤثِّر على مراكش التأثر الذي يجعلها تحافظ على البقية الباقية من استقلال الممالك الإسلامية في الغرب.

وأيُّ العبر لديها بعد فقد تونس والجزائر من يد ملوكهما وأمرائهما وطموح إيطاليا إلى امتلاك طرابلس الغرب ثُمَّ احتلال إنكلترا لمصر.
•••
اجتمعت أساطيل دولتي فرنسا وإسبانيا في مياه طنجة لأجل تنفيذ مواد مؤتمر الجزيرة وهذه المواد لم تضمن غير إجراء نظامٍ جديد وإصلاح حسن مضمون الفائدة في بعض الوجوه الإدارية في المملكة المراكشية.

وكان الأوْلَى أن يكون للمراكشيين وازعٌ من أنفسهم بإجراء هذه الإصلاحات بدون تَدَخُّلٍ لأية دولةٍ أجنبية، ولكنها الدُّولُ كالأجسام تمرض وتعالج.

على أن منزلة مراكش بهذا الاعتبار كما يقول الشاعر:
…………
ألم المريض عقوبة الإهمال


أمَّا مملكة تونس فلا أقول كلمةً عنها في هذا الموضوع من حيث أحوالها الحاضرة والغابرة، ولكن أقول إن عاصمة هذه المملكة إذا قرأنا تاريخ الأدوار الزَّمانيَّة التي مَرَّتْ عليها نقفُ موقفَ الدَّهشة والاستغراب في تحويل الأحوال وتصرُّفات الدُّهور، وسنفيض الكلام عنها عند ذكر قدومي إليها وعن فرنسا التي تداخلت في شئون المغرب الأقصى، وامتلكت الجزائر، ووضعت الحماية على تونس.

وامتلاك فرنسا للجزائر يُبَيِّنُ للمُطَّلِع عليه كيف يكون امتلاكُ دولُ أوروبا للبلاد الأجنبية عنها؛ إذ ربما حكمت الملايين من النفوس فديةً لِفَرْدٍ وَاحِدٍ من رعيَّتها.

فقد نقل الرُّواةُ أن سبب أخذ فرنسا للجزائر هو أنه حصل شقاق بين أميرها وسفير فرنسا، أدَّى إلى أن يضرب الأمير السفير بمِنَشَّة كانت في يده، فانتقمت فرنسا لسفيرها بإعلان الحرب التي للأمير عبد القادر الجزائري فيها ذِكْرٌ مشهورٌ فاحتلّتها وامتلكتها بعد نفي الأمير عبد القادر إلى بلاد الشام.

وسأجعلُ الكلام على سياسة فرنسا في الجزائر مُدْمَجًا في الكلام على تونس عندما أصل إلى موضعه.

وقف بي التأمُّلِ في أحوال ممالكِ الإسلام الواقعة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط عند حدود طرابلس الغرب، فشبَّهْتُها وهي بين ملك الدولة العلية وطمع إيطاليا بلقمةٍ سائغة في يد رجلٍ بخيل حريص يشتهيها على طمعٍ وجشع، وآخر يتحيَّنُ الفُرص لاغتيالها، وليس لهذه المطامع الأوروبية حدٌّ تقف عنده، بل هي تطمع في تمزيق جسم الدولة العلية واقتسامها بينها.
•••
إلى هُنَا كنتُ قد مللت من الوقوف على شاطئ البحر الأبيض المتوسط كما مَلَّ خاطري من الجَوَلَانِ على سواحله في البلاد الإسلامية، تارةً بالنظر إلى حالتها الحاضرة، وحينًا بقلب صفحاتها التاريخية، وبقراءتي ما طرأ عليها من تقلُّباتِ الزمان وما دهاها من طوارق الحَدَثان.

فلْيتأمَّل ذو اللبِّ الحكيم إلى هذه الممالك ولْيُقَدِّرَ الإسلام قَدْرُهُ لو كانت كلها مُتحِدة الكلمة عاملة على ترقية الشعب حاكمة نفسها بنفسها، بل ليقدر الخلافة قدرها لو كانت ممالك الغرب متحدة الكلمة مع باقي ممالك الدولة الإسلامية؛ حيث بذلك تكون الرابطة الإسلامية الوثيقة العُرى رابطة مراكش بالجزائر فتونس فطرابلس فمصر والسودان، وسوريا، وبلاد العرب، ففارس، فالأفغان، ولا يخفى ما يقوم به مسلمو الروسيا، والهند، والصين من المساعي الحميدة في إعزاز الجامعة الإسلامية التي تربط كُلَّ مسلمي الأرض ببعضهم وتجعلهم مُتحدِين وإن لم يكونوا في حكم الخلافة الإسلامية.
•••
هذا وإن دول أوروبا التي تتخوَّفُ من الجامعة الإسلامية تعمل جهدها في تفريق كلمة المُسْلِمين بدسِّ الدَّسائس، وقد تعبت في ذلك كثيرًا وذاقتْ ثُمَّرةَ أتعابها.

ولَمَّا كانت الدُّولُ والشُّعوبُ تتراوح بين الشُّبُوبيَّة والطفُوليَّة والكُهُوليَّة كان الرَّجاءُ في عَوْدَةِ الإسلام إلى عصر شبابه، ومَجده، وعِزِّهِ مِلْئ قلبِ كُلِّ مُسْلِمٍ نظر إلى هذه الحركة الجديدة في كثير من بلاد الإسلام.