الرحلة اليابانية
(1) خواطر وأفكار بين مصر والإسكندرية:
في صبيحة يوم الجمعة 30 يونيو سنة 1906 أفرنكية أخذتُ الأُهْبَةَ للسَّفر، وما وصلتُ إلى محطة القاهرة، حتى رأيتُ لفيف الأصدقاء والمُحِبِّينَ قد جاءوا لودَاعِي، وما أصعب موقف الوداع وأشدّه تأثيرًا في النَّفس!

فكنتُ أطارحَ إخوانِي عبارات الوداع والدَّمع في الجفن حائر، حتى إذا تحرَّك القطارُ أسلمته المحاجر ولَمَّا بَعُدَ القطارُ قليلًا:
أشاروا بتسليم فجُدْنَا بأنفس
تسيل من الآماق والسم أدمع


وما زال القطار سائرًا الهوينا، حتى إذا اجتاز المُنحنى واستقام له الطريق أخذ ينهبُ الأرضَ نهبًا لا يُشق له غبار، وتضلُّ دون شأوه الأنظار، وكنت في هذه الحالة أودِّعُ القاهرة وملك الفراعنة، وكلما ابتعدتُ عنها تضاءلت في نظري تلك الصُّروح المُمرَّدَةِ والقُصُور الشَّامخات، حتى غابت عن لحْظ العين ولم أعد أنظر إلَّا إلى منارتين يلوحُ للناظر إليهما من هذه المسافة أنهما ركبتا على قمَّة جبل المُقطم، فعلمتُ أنهما منارتا جامع القلعة الذي أنشأه “محمد علي باشا” رئيس العائلة الخديوية الذي كانت توليته على مصر مُفتتَح تاريخٍ جديد لها.

وفي هذه اللحظة عاودتني ذكرى الحوادث التي حدثت على عهده في هذه البُقعة وأخصَّها حادثة دعوة المماليك إلى الاحتفال بوداع الجيوش الذاهبة إلى حرب الوهابيين فأخذهم على غُرَّةٍ منهم وأعمل فيهم السَّيف، حتى أفناهم عن آخرهم، ولم ينجُ منهم إلَّا المملوك الشَّارد، وما زالت تَرِدُ على ذاكرتي الوقائع التي ولدتها الأيامُ في عهده، حتى وقف القطارُ على محطة قليوب، وحينئذٍ خطر بذاكرتي سعادة الشورابي باشا الذي له أثر اليد البيضاء على هذه البلدة، وخَلَّدَ بمآثرهِ فيها ذِكْرًا جميلًا تذكره به سكانها كُلَّما ذُكِرَ الكرامُ الذين خدموا الإنسانية بجاههم، وأموالهم، وكُلِّ ما في وسعهم، حتى سار مدحُهم في سائر الأزمان والأجيال مسير الأمثال.

وبعد أن قام القطارُ من قليوب صرتُ في حالة دهشةٍ وأسفٍ شديدٍ كاد يترك الكبد فلذًا وما ذلك إلَّا لذكراي أن أول جلسة للمحكمة المخصوصة عُقِدَت لمحاكمة قاطني هذه البلدة، وتسرَّب الفِكْرُ حينئذٍ إلى حادث دنشواي؛ لأنه كان قريبَ العهدِ بالحُدُوثِ فشعرتُ بالتهاب بين الجوانح وسمعتُ في أعماق قلبي أزيزًا كأزيز المِرْجَل، وكان الفؤادُ يُرشَق بنبال تُكسَّر فيه النِّصال على النِّصال.

فأخذتُ ألتمسُ الوسائلَ التي بها أنَفِّسُ بها عن قلبي الغُمَّة بمُحادثة بعضِّ الرُّكَّابِ تارةً، وبالقراءة تارةً أخرى، حتى وقفَ القطارُ على محطة بنها، فنظرتُ إلى مَحَلِّ السَّراي التي كان يختلف إليها المرحوم عباس باشا الأول والتي اسْتُشْهِدَ فيها، ولم يذكر أحَدٌ من المُؤرخينَ هذه الحادثة بالتفصيل؛ ولذلك كانت الحقيقة غامضة، ولن تزال كذلك ضميرًا مُستترًا في صدر الأيام، ومهما تكهَّنَ الباحثُ عن أسباب التَّعَدِّي على هذا المَقام الرَّفيع فلا يكون مبلغ عِلْمِهِ إلَّا أنَّ التنافس في المُلكِ والتَّحاسُد عليه قد يُوقِع المُلُوكَ في مثل هذه الأخطار، وليست هذه بالأولى في الإسلام وحوادث مُلُوكِ الأنام.

ثُمَّ صَارَ القطارُ حتى وصل مدينة طنطا وهي في الدِّلتا بمنزلة القلب من الجسم، ووجهُ الشَّبَهِ بينهما أن عند هذه المدينة تجتمعُ كُلّ أطراف خُطوط السِّكَكِ الحديديَّة التي في أنحاء الدِّلتا، كما أن القلب تجتمع عنده أطراف العروق التي توزِّعُ الدَّمَ على سائرَ أنحاءِ الجسم.

وفي هذه اللحظة خطر بذاكرتي رَجُلُ الدُّنيا وواحدُها ومُحْسِنُ مصر الكبير ذو الأيادي البيضاء، والهمَّةِ الشَّمَّاءِ، مَنْ هو في عِقْدِ الكُرماء اليتيمة العصماء المرحوم أحمد باشا المنشاوي أمير الغربية وبطل القرشية.

فنظرتُ نظرة في تاريخ حياة هذا الرجل العظامي العصامي فإذا هو مملوء بالحوادث الغريبة والوقائع المدهشة.

ومن العجيب أن المصريين لا يتذكَّرون لهذا الرَّجُل إلَّا مَبَرَّاتِهِ الجَمَّة وإحساناته التي طوَّقَ بها جِيدَ الإنسانيَّة، ولم يأتِ بمثلها مصريٌ غيرُه على كثرة عدد الأغنياء فيهم من أمثاله.

على أنه لم يكن في الكَرَمِ أقل منه في النَّجدة، والشَّهأمَّة، وإباء الضّيم، وإغاثة المَلهُوف، فقد حفظ له التاريخ حادثة مذبحة طنطا في إبَّان الثورة العُرابيَّة؛ حيث رَدَّ يَدَ الثائرين عن المسيحيين واليهود القاطنين في طنطا، وآوى منهم نحو الألفي نسمة إلى سراية بالقرشية، وآمنهم وحملهم إلى بلادهم على نفقته الخصوصية بعد أن دفن موتاهم وتلطخت ثيابه بدمائهم؛ حيث كان يحملهم وهم مطروحون في الشوارع والأزقَّة، ويضعهم على العربات.

وقد أهدته الدول الأوروبية جزاء هذا الجميل بنياشين علَّقها على صدره مكان الدِّمَاء، ولولا خوف الإطالة لذكرتُ من حوادثه الغريبة شيئًا كثيرًا.

وقد نظم بعض الشعراء قصيدة ضمَّنها الحوادث العُرَابِيَة، وغيرها من مسائل شتَّى تتعلّق بالمنشاوي باشا جاء فيها ما يأتي:
على يوم طنطا في الزمان تحية
يعمُّ شذاها كُلَّ باد وحاضر
رأى قوم موسى والمسيح كأنهم
سوام أُتيحَت يوم نحْرِ لجازر
فكشَّف عنهم فادح الكرب بعدما
كسا الأرض ثوبًا بالدماء الموائر
فشتَّت شمْل الثائرين كأنهم
فوارط أسراب النعام النوافر
على صفحات الظلم خطَّت يدُ الأسى
ولا قلم غير المدى والخناجر
فكم من مُحيا في النجيع مُضرَّج
وبطن خميص قد أصيبت بباقر
وأم وليد غادرته برغمها
فريسة أنياب المنايا الكواشر
وكم قاصرات الطرف أصبحن بالعرا
حواسر عما في ضمان المآزر
تمزِّق أيدي الظالمين جسومها
فيا لك من أيدٍ مُنِيت بباتر
يصحن بميمون النقيبة لابن
أخي نجدة حامي الحقيقة تامر
إذا لجأ العاني إليه فقد بنى
له معقلًا بين النجوم الزواهر
ومن نكد الدنيا على الحرِّ أن يرى
محامده معدودة في الجرائر


ولَمَّا غادر القطارُ مدينة طنطا ووصل إلى محطة كفر الزَّيَّاتِ واجتاز الكوبري المُمتد على النيل، ذكرتُ في الحال ما وقع لأميرين من أمراء العائلة الخديوية في عهد إسماعيل باشا؛ إذ كان هذان الأميران راكبين في قطار السِّكَّة الحديدية قاصدين الإسكندرية، ولَمَّا وصل القطارُ بهما إلى كفر الزيات كان الكوبري مفتوحًا على خلاف العادة، فسقط القطار في البحر وغرق كثيرٌ من الرُّكَّابِ ومِمَّنْ غرق أحد هذين الأميرين ونجا الآخر فيمَنْ نجا، ولهذه الحادثة ذكرٌ باق إلى الآن في أفواه العأمَّة والخاصَّة ولكنْ المؤرخون أغفلوه كأنه لم يكن من الحوادث ذات البال في تاريخ مصر السياسي وما قلناهُ من خصوص السَّبب في قتل عباس باشا الأول في سراي بنها يُقالُ في هذه الحادثة.

وهكذا بقيتُ مفكِّرًا في صُرُوفِ الأيَّام والليالي التي كانت أرضُ مصرَ مرسحًا لتمثيل روايتها حتى وصلنا إلى محطة الإسكندرية.