بَشَّرَكِ اللهُ بخير
قال سعيد بن العاص: قالت أم حبيبة أم المؤمنين -رضي لله عنها-: رأيت في النوم كأن عبيد الله بن جحش زوجي باسوأ صورةٍ وأشوهه.
ففزعت فقلت: تغيّرت والله حالهُ.
فاذا هو يقول حين أصبح: يا أم حبيبة إني نظرتُ في الدِّين فلم أر ديناً خيراً من النصرانية، وكنتُ قد دنتُ بها ثم دخلتُ في دين محمد، ثم رجعتُ في النصرانية.
فقلت: والله ما خير لكَ.
واخبرته بالرؤيا التي رأيتها فلم يحفل بها وأكَبَّ على الخمر حتى مات: فأرى في النوم كأن آتياً يقول: يا أمَّ المؤمنينَ ففزعتُ فأوَّلتُها أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتزوجني.
قالت: فما هو إلا أن قد انقضت عِدَّتِي فما شعرتُ إلا برسول النجاشي على بابي يستأذن.
فإذا جاريةٌ له يُقال لها أبرهة كانت تقوم على ثيابه ودهنه فَدَخَلَتْ عَلَيَّ فقالت: إنَّ الملك يقول لكِ إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كتب إليَّ أنَّ أزَوِّجَهُ فقالت: بَشَّرَكِ اللهُ بخير.
قالت: يقول لكِ الملكُ وكِّلي مَنْ يُزَوّجَكِ.
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(1) - الكبائر للذهبي.

فارسلتُ خالد بن سعيد بن العاص فوكَّلتُهُ واعطت أبرهة سوارين من فِضَّةٍ وخَدَمتَين كانتا في رجليها وخواتيم فِضَّةٍ كانت في أصابع رجليها سُرُوراً بما بَشَّرَتْهَا.
فلمَّا كان العَشِىُّ أمَرَ النجاشيُ جعفر بن ابي طالب ومَنْ هناك من المسلمين فَخَطَبَ النجاشي فقال: الحمد لله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار، أشهد أنَّ لا اله الا الله وأنَّ محمداً عبده ورسوله وأنَّهُ الذي بَشَّرَ به عيسى ابنُ مريم...
أمَّا بعد:
فإنَّ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- كتب إلِيَّ أن أزوجه أمَّ حبيبة بنت أبي سُفيان فأجبتُ إلى ما دعا إليه رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وقد أصْدَقْتُهَا أربعمائة دينار.
ثم سَكَبَ الدنانير بين يدي القوم.
فتكلَّم خالد بن سعيد فقال: الحمد لله، أحمده واستعينه واستنصره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليُظهره على الدِّين كله ولو كَرِهَ المشركون...
أما بعد:
أجَبْتُ إلى ما دعا إليه رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- وزوّجته ام حبيبة بنت ابي سفيان فبارك اللهُ لرسول -صلى الله عليه وسلم-.
ودفع الدنانير إلى خالد بن سعيد بن العاص فقبضها.
ثم أرادوا أن يقوموا فقال: اجلسوا فإنَّ سُنَّةَ الأنبياء إذا تزوَّجوا أن يؤكل طعامٌ على التزويج.         
فدعا بطعام وأكلوا ثم تفرَّقوا.
قالت أمُّ حبيبة: فلمَّا وصل إليَّ المالُ أرسلتُ إلى أبرهة التي بَشَّرَتْنِي فقلتُ لها: إني كنتُ أعطيتُكِ ما أعطيتُكِ يومئذٍ ولا مال بيدي فهذه خمسون مثقالاً فخُذيها فاستعيني بها.
فأبِتْ وأخْرِجْتُ حُقًّا فيه كل ما كُنْتُ أعطيتُها فردَّتهُ عَلَيَّ وقالت: عَزَمَ عَلَيَّ الملكُ أن لا أرزأكِ شيئاً وأنا التي أقوم على ثيابه ودهنه وقد اتبعت دِينَ محمدٍ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأسلمت لله عَزَّ وَجَلَّ وقد أمر الملكُ نساءَهُ أن يبعثن إليكِ بكل ما عندهنَّ من العِطْرِ.
قالت: فلمَّا كان الغَدُ جاءتني بِعُودٍ وَوَرَسٍ وعَنْبَرٍ وزَبَادٍ كثير فقَدِمْتُ بذلك كله على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكان يراهُ عليَّ وعِنْدِي فلا يُنْكِرْهُ.
ثم قالت أبرهةُ: فحاجتي إليكِ أن تقرأي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مِنِّي السَّلام وتُعلميه أني قد اتبعتُ دينهُ.
قالت: ثم لطفت بي وكانت التي جَهَّزَتْنِي، وكانت كلما دَخَلَتْ عليَّ تقول: لا تَنْسِي حاجتي إليكِ.
قالت: فلمَّا قَدِمْتُ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخْبَرْتُهُ كيف كانت الخطبة وما فعلت بي أبرهة فتبسَّم وأقْرَأْتُهُ منها السلام فقال: وعليها السلام ورحمة الله وبركاته.
قال الزهري: لَمَا قَدِمَ أبو سفيان بن حرب المدينة جاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يريد غزو مكة، فكللَّمَهُ أن يَزِيدَ في هُدْنَةِ الحُديببة فلم يُقبل عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقام ودخل على ابنته أمَّ حبيبة فلمَّا ذهب ليجلس على فراش النبي -صلى الله عليه وسلم- طوته دونه فقال: يا بُنَيَّةَ أرَغِبْتِ بهذا الفراش عنِّي أم بي عنه؟
فقالت: بل هو فراش رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنت امرؤٌ نَجِسٌ مُشْرِكٌ.
فقال: يا بُنَيَّةَ لقد أصابكِ بعدي شَرٌّ.
قالت عائشة -رضي الله عنها-: دعتني أمَّ حبيبة عند موتها فقالت: قد كان يكون بيننا ما يكون بين الضَّرائر فغفرَ اللهُ لي ولكِ ما كان من ذلك.
فقلت: غفر اللهُ لكِ ذلك كلَّه وتجاوز وحلَّكِ من ذلك كله.
فقالت: سَرَرْتِنِي سَرَّكِ اللهُ.
وأرسلتُ إلى أم سلمة فقالت لها مثل ذلك.
وتوفيت سنة أربع وأربعين في خلافة معاوية.