من طرائف هند بنت النعمان
حكي أن هند ابنة النعمان كانت أحسن أهل زمانها، فوصف للحجاج حسنها، فأنفذ إليها يخطبها، وبذل لها مالاً جزيلاً، وتزوَّج بها، وشرط لها عليه بعد الصداق مائتي ألف درهم ودخل بها.. ثم إنها انحدرت معه إلى بلد أبيها المعرة وكانت هند فصيحة أديبة.. فأقام بها الحجاج بالمعرة مدة طويلة، ثم إن الحجاج رحل بها إلى العراق فأقامت معه ما شاء الله، ثم دخل عليها في بعض الأيام وهي تنظر في المرآة وتقول:
وما هند إلا مهرة عربية ... سليلة أفراس تحللها بغل
فإن ولدت فحلاً فلله درها ... وإن ولدت بغلاً فجاء به البغل

فانصرف الحجاج راجعاً ولم يدخل عليها، ولم تكن علمت به.. فأراد الحجاج طلاقها، فأنفذ إليها عبد الله بن طاهر، وأنفذ لها معه مائتي ألف درهم، وهي التي كانت لها عليه.. وقال: يا ابن طاهر طلقها بكلمتين، ولا تزد عليهما، فدخل عبد الله بن طاهر عليها، فقال لها: يقول لك أبو محمد الحجاج كُنْتِ فبِنْتِ، وهذه المائتا ألف درهم التي كانت لك قِبَلهُ.. فقالت: اعلم يا ابن طاهر: أنا والله كُنَّا فما حمدنا، وبِنَّا فما ندمنا، وهذه المائتا ألف درهم التي جئت بها بشارة لك بخلاصي من كلب بني ثقيف.. ثم بعد ذلك بلغ أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان خبرها ووصف له جمالها، فأرسل إليها يخطبها، فأرسلت إليه كتاباً تقول فيه بعد الثناء عليه: اعلم يا أمير المؤمنين، أن الإناء ولغ فيه الكلب فلما قرأ عبد الملك الكتاب ضحك من قولها، وكتب إليها يقول: إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً إحداهن بالتراب، فاغسلي الإناء يحل الاستعمال، فلما قرأت كتاب أمير المؤمنين لم يمكنها المخالفة.. فكتبت إليه بعد الثناء عليه، يا أمير المؤمنين، والله لا أحل العقد إلا بشرط، فإن قلت ما هو الشرط؟ قلت: أن يقود الحجاج محملي من المعرة إلى بلدك التي أنت فيها، ويكون ماشياً حافياً بحليته التي كان فيها أولاً، فلما قرأ عبد الملك ذلك الكتاب ضحك ضحكاً شديداً.. وأنفذ إلى الحجاج وأمره بذلك، فلما قرأ الحجاج رسالة أمير المؤمنين أجاب وامتثل الأمر ولم يخالف، وأنفذ إلى هند يأمرها بالتجهز، فتجهزت، وسار الحجاج في موكبه حتى وصل المعرة بلد هند، فركبت هند في محمل الزفاف، وركب حولها جواريها وخدمها، وأخذ الحجاج بزمام البعير يقوده ويسير بها فجعلت هند تتواغد عليه وتضحك مع الهيفاء دايتها، ثم إنها قالت للهيفاء: يا داية اكشفي لي سجف المحمل، فكشفته، فوقع وجهها في وجه الحجاج، فضحكت عليه...

فأنشأ يقول:
فإن تضحكي مني فيا طول ليلة... تركتك فيها كالقباء المفرج

فأجابته هند تقول:
وما نبالي إذا أرواحنا سلمت... بما فقدناه من مال ومن نشب
فالمال مكتسب والعز مرتجع... إذا النفوس وقاها الله من عطب

ولم تزل كذلك تضحك وتلعب إلى أن قربت من بلد الخليفة، فرمت بدينار على الأرض، ونادت: يا جمَّال إنه قد سقط منا درهم، فارفعه إلينا.. فنظر الحجاج إلى الأرض، فلم يجد إلا ديناراً، فقال: إنما هو دينار، فقالت: بل هو درهم قال: بل دينار، فقالت: الحمد لله سقط منا درهم، فعوضنا الله ديناراً، فخجل الحجاج وسكت، ولم يرد جواباً، ثم دخل بها على عبد الملك بن مروان، فتزوج بها، وكان من أمرها ما كان (1).

- التعليق:
هند بنت النعمان بن المنذر ابن امرئ القيس اللخمية: نبيلة، أديبة شاعرة (74 هـ - 693 م) ولدت ونشأت في بيت المُلك بالحيرة.. ولما غضب كسرى على أبيها النعمان وحبسه ومات في حبسه وفقدت بصرها، ترهبت ولبست المسوح، وأقامت في دير بنته (بين الحيرة والكوفة) عرف بدير هند.

وجدير بالذكر أن الأبيات التي ذكرتها أنفاً عن الحجاج جاء في وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان "لابن خلكان" ما نصه: هند بنت النعمان ابن بشير الأنصاري, كان روح بن زنباع الجذامي صاحب عبد الملك بن مروان قد تزوَّجها وكانت تكرهه...

وفيه تقول:
وهل هند إلا مهرةٌ عربيةٌ... سليلة أفراسٍ تحلَّلها بغلُ
فإن نتجت مهراً كريماً فبالحرى... وإن يك إقرافٌ فما أنجب الفحلُ.

ولا ريب أن هناك خلط واضح من الخلط الذي نبهنا القاريء إليه, ولكن ذكرنا قصتها هنا علي الرغم من الاختلاف في كلمات البيتين والشخصية المقصوده بها, لأنه ثبتت صحتها في معناها علي الأقل تاريخياً والله أعلم (1).
ومعني إلإقراف: أن تكون الأم عربية والأب ليس كذلك.
ولهند قصة أخري طريفة مع المغيرة بن شعبة نذكرها هنا.
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(1) - المستطرف للأبشيهي.