تحويل القبلة إلى الكعبة حدث عظيم في تاريخ الأمة
القاهرة (الاتحاد)
من الأحداث المهمة في السيرة النبوية حادثة تحويل القبلة من بيت المقدس، قبلة الأنبياء السابقين، إلى بيت الله الحرام أول بيتٍ وُضع للناس في الأرض، وقد اختبر الله المسلمين واليهود في هذه الحادثة، في السمع والطاعة، والتصديق والتجرد والعمل.        

وأوضح علماء الدين أنه كانت الرغبة في تحويل القبلة تشغل عقل النبي صلى الله عليه وسلم وتفكيره، يقلب بصره في السماء، وقد استجاب الله له، وحقق أمنيته، وهذا يدل على مكانة النبي ومنزلته عند ربه، ويتعلم المسلمون من وحدة القبلة، وحدة الأمة في الهدف والغاية، وأن الوحدة والاتحاد ضرورة في كل شؤون حياتهم الدينية والدنيوية.       

حدث عظيم
أكد الدكتور علي جمعة، مفتي مصر السابق، أن تحويل القبلة في شهر شعبان، يعد حدثاً عظيماً في تاريخ الأمة الإسلامية، حيث كان ذلك في البدء من الكعبة إلى المسجد الأقصى لحكمة تربوية، وهي العمل على تقوية إيمان المؤمنين وتنقية النفوس من شوائب الجاهلية، (...وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ...)، "سورة البقرة: الآية 143"، فقد كان العرب قبل الإسلام يعظمون البيت الحرام ويمجدونه، ولأن هدف الإسلام هو تعبد الناس لله وتنقية القلوب وتجريدها من التعلق بغير الله وحثها على إتباع المنهج الإسلامي المرتبط بالله مباشرة، فقد اختار لهم التوجه قِبل المسجد الأقصى، ليخلص نفوسهم ويطهر قلوبهم مما علق بها من الجاهلية، وليظهر من يتبع الرسول اتباعاً صادقاً عن اقتناع وتسليم، ممن ينقلب على عقبيه ويتعلق قلبه بدعاوى الجاهلية ورواسبها، وبعد أن استتب الأمر لدولة الإسلام في المدينة، صدر الأمر الإلهي بالاتجاه إلى المسجد الحرام، ليس تقليلاً من شأن المسجد الأقصى، ولكنه ربط لقلوب المسلمين بحقيقة أخرى هي حقيقة الإسلام، حيث رفع سيدنا إبراهيم وسيدنا إسماعيل قواعد هذا البيت العتيق ليكون خالصاً لله، وليكون قبلة للإسلام والمسلمين، وليؤكد أن دين الأنبياء جميعاً هو الإسلام: (...مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ...)، "سورة الحج: الآية 78".       

وأكَّد الدكتور جمعة أن تحويل القبلة إلى مكة المكرمة، كان تأكيداً للرابطة الوثيقة بين المسجدين، وإذا كانت رحلة الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى قد قطع فيها النبي مسافة زمانية، فقد كان تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام رحلة تعبدية، الغرض منها التوجه إلى الله تعالى من دون قطع مسافات، إذ لا مسافة بين الخالق والمخلوق، قال تعالى: (...وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ...)، "سورة الحديد: الآية 4"، وعندما يتجه الإنسان من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، فهو بذلك يعود إلى أصل القبلة التي قال عنها تبارك وتعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ)، "سورة آل عمران: الآية 96"، فهي دائرة بدأت بآدم مروراً بإبراهيم حتى عيسى عليهم السلام، ولكنها لم تتم أو تكتمل إلا بالرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم، فقد أخره الله ليقدمه، فهو وإن تأخر في الزمان فقد تحقق على يديه الكمال.        

ويرى الدكتور جمعة أن تحويل القبلة إلى المسجد الحرام في شهر شعبان، كان تكريماً ومكرمة للنبي صلى الله عليه وسلم الذي ظل قلبه معلقاً بمكة منذ هاجر إلى المدينة المنورة، وقد كرَّم اللهُ نبيه بأن طيَّب خاطره بتحويل القبلة والاستجابة لرجائه، قال تعالى: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ...)، "سورة البقرة: الآية 144".       

رمز إسلامي
وقال الدكتور سالم عبد الجليل وكيل وزارة الأوقاف المصرية الأسبق: إن القبلة جزء من رموز الإسلام لا تقل عن الصلاة، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتا، فهو المسلم، له ما لنا وعليه ما علينا"، وإذا كان العالم يبحث عن أسباب توحده وتجمعه ومصادر للقوة، فالأولى بالأمة الإسلامية أن تتوحد لأن ربهم واحد ونبيهم واحد وكتابهم واحد وقبلتهم واحدة.        

ولقد كان في نفس رسول الله رغبة أن يأمره الله بالتوجه في صلاته والمسلمين إلى البيت الحرام في مكة، فنزل قول الله سبحانه: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ...)، "سورة البقرة: الآية 144"، وحدد أهل الحديث أن هذا كان في شهر شعبان من السنة الثانية للهجرة، وكان أمر الله بتحويل القبلة في السابع عشر من شعبان.       

خصوصية وتميُّز للأمة
ويقول الدكتور أحمد عمر هاشم أستاذ الحديث بجامعة الأزهر، وعضو مجمع البحوث الإسلامية: لشهر شعبان منزلة كريمة، ومكانة عظيمة، اختصه الله تعالى بأنه الشهر الذي ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكثر من الصيام فيه.        

وأمر الله نبيه في مكة بالتوجه في الصلاة نحو بيت المقدس، قبلة الأنبياء السابقين، وذلك لوحدة الرسالات السابقة، في مصدرها وهدفها وغايتها، واستمر الحال هكذا ستة عشر شهراً، إلى ما بعد الهجرة، ثم تكلم اليهود في ذلك، فقالوا: ما بال محمد يتبع قبلتنا ولا يتبع ديننا، فنزلت الآيات، لتبين حقيقة الموضوع، ويتعلم الناس منها دروساً تربوية مهمة، قال تعالى: (سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا...)، "سورة البقرة: الآية 142".       

وهذه الآية من إعجاز القرآن الكريم، حيث تحدثت عن المقولة قبل وقوعها، ولم يستطع اليهود أن يكذبوا القرآن، إنها كانت اختباراً لهم فرسبوا، وكانت اختباراً للصحابة فنجحوا، قال تعالى: (...وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ...)، "سورة البقرة: الآية 143".       

ولم يلتفت النبي والصحابة لما قاله اليهود، لأن الذي أمر بالتوجه إلى كلتا القبلتين إنما هو الله سبحانه وتعالى، وهذا يزيد المسلم ثقة في هذا الدين وتعاليمه، فالهداية من الله وحده، قال تعالى: (...قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، "سورة البقرة: الآية 142"، والخصوصية والتميُّز ضروريان للأمة المسلمة، في التصور والاعتقاد، وفي القبلة والعبادة، وفي شخصية المسلم، وفي كل شيء في حياة المسلمين.       

قبلة أهل الأرض
ويقول الدكتور أحمد كريمة أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر: البيت العتيق الذي رفع قواعده سيدنا إبراهيم وسيدنا إسماعيل عليهما السلام، هو قبلة أهل الأرض، كما أن البيت المعمور قبلة أهل السماء، قال الله عز وجل: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)، "سورة البقرة: الآية 127"، وقال: (وَالطُّورِ* وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ* فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ* وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ)، "سورة الطور: الآيات 1 - 4".       

واقتضت حكمة الله عز وجل أن يجمع الموحدين على قبلة واحدة، فأمر خليله إبراهيم عليه السلام ببناء البيت العتيق ليكون مثابة للناس وأمناً، ومصدراً للإشعاع والنور الرباني، ومكاناً لحج بيته المعظم، يأتيه الناس من كل فج عميق، ليشهدوا منافع لهم ويذكروا الله، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالتوجه إليه في الصلاة، بعد أن توجه إلى بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهراً، وذلك لحكمة جليلة هي امتحان إيمان الناس، واختبار صدق يقينهم، ليظهر المؤمن الصادق من الكاذب المنافق، ولتكون الريادة لهذه الأمة: (...هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ...)، "سورة الحج: الآية 78".       

المصدر:
https://www.alittihad.ae/article/31843/2018