منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers

(إسلامي.. ثقافي.. اجتماعي.. إعلامي.. علمي.. تاريخي.. دعوي.. تربوي.. طبي.. رياضي.. أدبي..)
 
الرئيسيةالأحداثأحدث الصورالتسجيل
(وما من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه) (فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه)

soon after IZHAR UL-HAQ (Truth Revealed) By: Rahmatullah Kairanvi
قال الفيلسوف توماس كارليل في كتابه الأبطال عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد مُتمدين من أبناء هذا العصر؛ أن يُصْغِي إلى ما يظن من أنَّ دِينَ الإسلام كَذِبٌ، وأنَّ مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- خَدَّاعٌ مُزُوِّرٌ، وآنَ لنا أنْ نُحارب ما يُشَاعُ من مثل هذه الأقوال السَّخيفة المُخْجِلَةِ؛ فإنَّ الرِّسَالة التي أدَّاهَا ذلك الرَّسُولُ ما زالت السِّراج المُنير مُدَّةَ اثني عشر قرناً، لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا، خلقهم اللهُ الذي خلقنا، (وقت كتابة الفيلسوف توماس كارليل لهذا الكتاب)، إقرأ بقية كتاب الفيلسوف توماس كارليل عن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، على هذا الرابط: محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-.

يقول المستشرق الإسباني جان ليك في كتاب (العرب): "لا يمكن أن توصف حياة محمد بأحسن مما وصفها الله بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين) فكان محمدٌ رحمة حقيقية، وإني أصلي عليه بلهفة وشوق".
فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ على سائر البُلدان، كما فَضَّلَ بعض الناس على بعض والأيام والليالي بعضها على بعض، والفضلُ على ضربين: في دِينٍ أو دُنْيَا، أو فيهما جميعاً، وقد فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ وشَهِدَ لها في كتابهِ بالكَرَمِ وعِظَم المَنزلة وذَكَرَهَا باسمها وخَصَّهَا دُونَ غيرها، وكَرَّرَ ذِكْرَهَا، وأبَانَ فضلها في آياتٍ تُتْلَى من القرآن العظيم.
(وما من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه) (فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه)

المهندس حسن فتحي فيلسوف العمارة ومهندس الفقراء: هو معماري مصري بارز، من مواليد مدينة الأسكندرية، وتخرَّجَ من المُهندس خانة بجامعة فؤاد الأول، اشْتُهِرَ بطرازهِ المعماري الفريد الذي استمَدَّ مَصَادِرَهُ مِنَ العِمَارَةِ الريفية النوبية المَبنية بالطوب اللبن، ومن البيوت والقصور بالقاهرة القديمة في العصرين المملوكي والعُثماني.
رُبَّ ضَارَّةٍ نَافِعَةٍ.. فوائدُ فيروس كورونا غير المتوقعة للبشرية أنَّه لم يكن يَخطرُ على بال أحَدِنَا منذ أن ظهر وباء فيروس كورونا المُستجد، أنْ يكونَ لهذه الجائحة فوائدُ وإيجابيات ملموسة أفادَت كوكب الأرض.. فكيف حدث ذلك؟!...
تخليص الإبريز في تلخيص باريز: هو الكتاب الذي ألّفَهُ الشيخ "رفاعة رافع الطهطاوي" رائد التنوير في العصر الحديث كما يُلَقَّب، ويُمَثِّلُ هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث.
الشيخ علي الجرجاوي (رحمه الله) قَامَ برحلةٍ إلى اليابان العام 1906م لحُضُورِ مؤتمر الأديان بطوكيو، الذي دعا إليه الإمبراطور الياباني عُلَمَاءَ الأديان لعرض عقائد دينهم على الشعب الياباني، وقد أنفق على رحلته الشَّاقَّةِ من مَالِهِ الخاص، وكان رُكُوبُ البحر وسيلته؛ مِمَّا أتَاحَ لَهُ مُشَاهَدَةَ العَدِيدِ مِنَ المُدُنِ السَّاحِلِيَّةِ في أنحاء العالم، ويُعَدُّ أوَّلَ دَاعِيَةٍ للإسلام في بلاد اليابان في العصر الحديث.


 

 سورة النحل الآيات من 041-045

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 49318
العمر : 72

سورة النحل الآيات من 041-045 Empty
مُساهمةموضوع: سورة النحل الآيات من 041-045   سورة النحل الآيات من 041-045 Emptyالأربعاء 01 يناير 2020, 8:39 pm

وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (٤١)
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)

المهاجرون قوم آمنوا بالله إيماناً صار إلى مرتبة من مراتب اليقين جعلتهم يتحمَّلون الأذى والظلم والاضطهاد في سبيل إيمانهم، فلا يمكن أن يُضحِّي الإنسان بماله وأهله ونفسه إلا إذا كان لأمر يقينيّ.

وقد جاءت هذه الآية بعد آية إثبات البعث الذي أنكره الكافرون وألحُّوا في إنكاره وبالغوا فيه، بل وأقسموا على ذلك: (وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ ٱللَّهُ مَن يَمُوتُ) (النحل: 38).

وهم يعلمون أن من الخلق مَنْ يُسيء، ومنهم من يُحسِن، فهل يعتقدون -في عُرْف العقل- أن يتركَ الله من أساء ليُعربد في خَلْق الله دون أن يُجازيه؟

ذلك يعني أنهم خائفون من البعث، فلو أنهم كانوا محسنين لَتَمنَّوا البعث، أمَا وقد أسرفوا على أنفسهم إسرافاً يُشفِقون معه على أنفسهم من الحساب والجزاء، فمن الطبيعي أنْ يُنِكروا البعث، ويلجأوا إلى تمنية أنفسهم بالأماني الكاذبة، ليطمئنوا على أن ما أخذوه من مظالم الناس ودمائهم وكرامتهم وأمنهم أمرٌ لا يُحاسبون عليه.

وإذا كانوا قد أنكروا البعث، ويوجد رسول ومعه مؤمنون به يؤمنون بالبعث والجزاء إيماناً يصل إلى درجة اليقين الذي يدفعهم إلى التضحية في سبيل هذا الإيمان.

إذن: لابُدَّ من وجود معركة شرسة بين أهل الإيمان وأهل الكفر، معركة بين الحق والباطل.

ومن حكمة الله أن ينتشر الإسلام في بدايته بين الضعفاء، حتى لا يظن ظَانٌّ أن المؤمنين فرضوا إيمانهم بالقوة، لا.

هؤلاء هم الضعفاء الذين لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، والكفار هم السادة.

إذن: جاء الإسلام ليعاند الكبارَ الصناديدَ العتاة.

وكان من الممكن أن ينصرَ الله هؤلاء الضعفاء ويُعلي كلمة الدين من البداية، ولكن أراد الحق تبارك وتعالى أن تكون الصيحةُ الإيمانية في مكَّة أولاً؛ لأن مكة مركز السيادة في جزيرة العرب، وقريش هم أصحاب المهابة وأصحاب النفوذ والسلطان، ولا تقوى أيَّ قبيلة في الجزيرة أن تعارضها، ومعلوم أنهم أخذوا هذه المكانة من رعايتهم لبيت الله الحرام وخدمتهم للوافدين إليه.

فلو أن الإسلام اختار بقعة غير مكة لَقَالوا: إن الإسلام استضعفَ جماعة من الناس، وأغرَاهم بالقول حتى آمنوا به.

لا، فالصيحة الإسلاميةُ جاءت في أُذن سادة قريش وسادة الجزيرة الذين أمَّنهم الله في رحلة الشتاء والصيف، وهم أصحاب القوة وأصحاب المال.

وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا لم ينصر الله دينه في بلد السادة؟

نقول: لا.

الصيحة في أذن الباطل تكون في بلد السادة في مكة، لكن نُصْرة الدين لا تأتي على يد هؤلاء السادة، وإنما تأتي في المدينة.

وهذا من حكمة الله تعالى حتى لا يقول قائل فيما بعد: إن العصبية لمحمد في مكة فرضتْ الإيمان بمحمد.

لا بل يريد أن يكون الإيمان بمحمد -صلى الله عليه وسلم- هو الذي خلق العصبية لمحمد، فجاء له بعصبية بعيدة عن قريش، وبعد ذلك دانتْ لها قريش نفسها.

وما دامت هناك معركة، فمَن المطحون فيها؟

المطحون فيها هو الضعيف الذي لا يستطيع أنْ يحميَ نفسه.وهؤلاء هم الذين ظُلِموا.

ظُلِموا في المكان الذي يعيشون فيه؛ ولذلك كان ولابُدَّ أن يرفع الله عنهم هذا الظلم.

وقد جاء رَفْع الظلم عن هؤلاء الضعفاء على مراحل.

فكانت المرحلة الأولى أن ينتقلَ المستضعفون من مكة، لا إلى دار إيمان تحميهم وتساعدهم على نَشْر دينهم، بل إلى دار أَمْن فقط يأمنون فيها على دينهم.

مجرد أَمْن يتيح لهم فرصة أداء أوامر الدين.

ولذلك استعرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- البلاد كلها لينظر أيَّ الأماكن تصلح دار أَمْن يهاجر إليها المؤمنون بدعوته فلا يعارضهم أحد، فلم يجد إلا الحبشة؛ ولذلك قال عنها: "إن بأرض الحبشة ملكاً لا يُظلم عنده أحد، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه".

وتكفي هذه الصفة في ملك الحبشة ليهاجر إليه المؤمنون، ففي هذه المرحلة من نُصْرة الدين لا نريد أكثر من ذلك، وهكذا تمت الهجرة الأولى إلى الحبشة.

ثم يسَّر الله لدينه أتباعاً وأنصاراً التقوْا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبايعوه على النُّصْرة والتأييد، ذلكم هم الأنصار من أهل المدينة الذين بايعوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند العقبة ومَهَّدوا للهجرة الثانية إلى المدينة، وهي هجرةٌ -هذه المرة- إلى دار أَمْن وإيمان، يأمن فيها المسلمون على دينهم، ويجدون الفرصة لنشره في رُبُوع المعمورة.

ونقف هنا عند قوله تعالى: (وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ.) (النحل: 41).

ومادة هذا الفعل: هجر.

وهناك فَرْق بين هجر وبين هاجر: هجر: أن يكره الإنسانُ الإقامةَ في مكان، فيتركه إلى مكان آخر يرى أنه خَيْرٌ منه، إنما المكان نفسه لم يُكرهه على الهجرة.

أي المعنى: ترك المكان مختاراً.

أما هاجر: وهي تدل على المفاعلة من الجانبين، فالفاعل هنا ليس كارهاً للمكان، ولكن المفاعلة التي حدثتْ من القوم هي التي اضطرتْه للهجرة.

وهذا ما حدث في هجرة المؤمنين من مكة؛ لأنهم لم يتركوها إلى غيرها إلاَّ بعد أن تعرضوا للاضطهاد والظُلْم، فكأنهم بذلك شاركوا في الفعل، فلو لم يتعرَّضوا لهم ويظلموهم لما هاجروا.

ولذلك قال الحق تبارك وتعالى: (مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ.) (النحل: 41).

وينطبق هذا المعنى على قول المتنبي:
إِذَا ترحلْتَ عن قَوْمٍ وَقَدْ قَدَرُوا     ألاَّ تُفارِقهم فَالرَّاحِلُون هُمُوا

يعني: إذا كنت في جماعة وأردْتَ الرحيل عنهم، وفي إمكانهم أن يقدموا لك من المساعدة ما يُيسِّر لك الإقامة بينهم ولكنهم لم يفعلوا، وتركوك ترحل مع مقدرتهم، فالراحلون في الحقيقة هم، لأنهم لم يساعدوك على الإقامة.

كذلك كانت الحال عندما هاجر المؤمنون من مكة؛ لأنه أيضاً لا يعقل أن يكره هؤلاء مكة وفيها البيت الحرام الذي يتمنى كل مسلم الإقامة في جواره.

إذن: لم يترك المهاجرون مكة، بل اضطروا إلى تركها وأجبروا عليه، وطبيعي إذن أن يلجأوا إلى دار أخرى حتى تقوى شوكتهم ثم يعودون للإقامة ثانية في مكة إقامة طبيعية صحيحة.

ثم إن الحق تبارك وتعالى قال: (هَاجَرُواْ فِي ٱللَّهِ..) (النحل: 41).

ونلاحظ في الحديث الشريف الذي يوضح معنى هذه الآية: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه".

فما الفرق هنا بين: هاجر في الله، وهاجر إلى الله؟

هاجر إلى مكان تدل على أن المكان الذي هاجر إليه أفضل من الذي تركه، وكأن الذي هاجر منه ليس مناسباً له.

أما هاجر في الله فتدل على أن الإقامة السابقة كانت أيضاً في الله.

إقامتهم نفسها في مكة وتحمُّلهم الأذى والظلم والاضطهاد كانت أيضاً في الله.

أما لو قالت الآية "هاجروا إلى الله" لدلَّ ذلك على أن إقامتهم الأولى لم تكن لله.

إذن: معنى الآية: (هَاجَرُواْ فِي ٱللَّهِ) (النحل: 41).

أي: أن إقامتهم كانت لله، وهجرتهم كانت لله.

ومثل هذا قوله تعالى: (وَسَارِعُوۤاْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ) (آل عمران: 133).

أي: إذا لم تكونوا في مغفرة فسارعوا إلى المغفرة، وفي الآية الأخرى: (يُسَارِعُونَ فِي ٱلْخَيْرَاتِ) (المؤمنون: 61).

ذلك لأنهم كانوا في خير سابق، وسوف يسارعون إلى خير آخر.

أي: أنتم في خير ولكن سارعوا إلى خير منه.

وهناك ملمح آخر في قوله تعالى: (وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ) (النحل: 41).

نلاحظ أن كلمة "الذين" جمع.

لكن هل هي خاصة بمَنْ نزلت فيهم الآية؟

أم هي عامة في كُلِّ مَنْ ظُلِم في أيِّ مكان -في الله- ثم هاجر منه؟

الحقيقة أن العبرة هنا بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهي عامة في كل مَنْ انطبقت عليه هذه الظروف، فإن كانت هذه الآية نزلت في نفر من الصحابة منهم: صُهيب، وعمار، وخباب، وبلال، إلا أنها تنتظم غيرهم مِمَّن اضطروا إلى الهجرة فِراراً بدينهم.

ونعلم قصة صهيب -رضي الله عنه- وكان رجلاً حداداً - لما أراد أنْ يهاجر بدينه، عرض الأمر على قريش: والله أنا رجل كبير السِّنِّ، إنْ كنت معكم فلن أنفعكم، وإنْ كنت مع المسلمين فلن أضايقكم، وعندي مال.

خذوه واتركوني أهاجر، فرضَوْا بذلك، وأخذوا مال صُهَيب وتركوه لهجرته.

ولذلك قال له -صلى الله عليه وسلم-: "ربح البيع يا صُهَيْب".

أي: بيعة رابحة.

ويقول له عمر -رضي الله عنه-: "نعْم العبدُ صُهيب، لو لم يخَفِ الله لم يَعْصِه".

وكأن عدم عصيانه ليس خوفاً من العقاب، بل حُبّاً في الله تعالى، فهو سبحانه لا يستحق أنْ يُعصى.

ثم يقول الحق تبارك وتعالى: (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً) (النحل: 41).

نُبوِّئ، مثل قوله تعالى: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ ٱلْبَيْتِ) (الحج: 26).

أي: بيَّنا له مكانه، ونقول: باء الإنسان إلى بيته إذا رجع إليه، فالإنسان يخرج للسعي في مناكب الأرض في زراعة أو تجارة، ثم يأوي ويبوء إلى بيته، إذن: باء بمعنى رجع، أو هو مسكن الإنسان، وما أعدَّه الله له.

فإنْ كان المؤمنون سيخرجون الآن من مكة مغلوبين مضطهدين فسوف نعطيهم ونُحِلهم ونُنزِلهم منزلةً أحسن من التي كانوا فيها، فقد كانوا مُضطهدين في مكة، فأصبحوا آمنين في المدينة، وإنْ كانوا تركوا بلدهم فسوف نُمهّد لهم الدنيا كلها ينتشرون فيها بمنهج الله، ويجنُون خير الدنيا كلها، ثم بعد ذلك نُرجعهم إلى بلدهم سادة أعزَّة بعد أن تكون مكة بلداً لله خالصة من عبادة الأوثان والأصنام.

هذه هي الحسنة في الدنيا.

ثم يقول تعالى: (وَلأَجْرُ ٱلآخِرَةِ أَكْبَرُ) (النحل: 41).

ما ذكرناه من حسنة الدنيا وخيرها للمؤمنين هذا من المعجِّلات للعمل، ولكن حسنات الدنيا مهما كانت ستؤول إلى زوال، إما أنْ تفارقها، وإما أن تُفارقك، وقد أنجز الله وَعْده للمؤمنين في الدنيا، فعادوا منتصرين إلى مكة، بل دانتْ لهم الجزيرة العربية كلها بل العالم كله، وانساحوا في الشرق في فارس، وفي الغرب في الرومان، وفي نصف قرن كانوا سادة العالم أجمع.

وإنْ كانت هذه هي حسنة الدنيا المعَجَّلة، فهناك حسنة الآخرة المؤجلة: (وَلأَجْرُ ٱلآخِرَةِ أَكْبَرُ) (النحل: 41).

أي: أن ما أعدَّ لهم من نعيم الآخرة أعظم مما وجدوه في الدنيا.

ولذلك كان سيدنا عمر -رضي الله عنه- إذا أعطى أحد الصحابة نصيب المهاجرين من العطاء يقول له: "بارك الله لك فيه.

هذا ما وعدك الله في الدنيا، وما ادخر لك في الآخرة أكبر من هذا".

فهذه حسنة الدنيا.

(وَلأَجْرُ ٱلآخِرَةِ أَكْبَرُ) (النحل: 41).

وساعة أنْ تسمع كلمة (أكبر) فاعلم أن مقابلها ليس أصغر أو صغير، بل مقابلها (كبير) فتكون حسنة الدنيا التي بوَّأهم الله إياها هي (الكبيرة)، لكن ما ينتظرهم في الآخرة (أكبر).

وكذلك قد تكون صيغةُ أفعل التفضيل أقلَّ في المدح من غير أفعل التفضيل.

فمن أسماء الله الحسنى (الكبير) في حين أن الأكبر صفةٌ من صفاته تعالى، وليس اسماً من أسمائه، وفي شعار ندائنا لله نقول: الله أكبر ولا نقول: الله كبير.

ذلك لأن كبير ما عداه يكون صغيراً.

إنما أكبر، ما عداه يكون كبيراً، فنقول في الأذان: الله أكبر لأن أمور الدنيا في حَقِّ المؤمن كبيرة من حيث هي وسيلة للآخرة.

فإياك أنْ تظنَّ أن حركةَ الدنيا التي تتركها من أجل الصلاة أنها صغيرة، بل هي كبيرة بما فيها من وسائل تُعينك على طاعة الله، فبها تأكل وتشرب وتتقوَّى، وبها تجمع المال لِتسُدَّ به حاجتك، وتُؤدِّي الزكاة إلى غير ذلك، ومن هنا كانت حركة الدنيا كبيرة، وكانت الصلاة والوقوف بين يدي الله أكبر.

ولذلك حينما قال الحق تبارك وتعالى: (يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ) (الجمعة: 9).

أخرجنا بهذا النداء من عمل الدنيا وحركتها، ثم قال: (فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلاَةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَٱبْتَغُواْ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ) (الجمعة: 10).

فأمرنا بالعودة إلى حركة الحياة؛ لأنها الوسيلةُ للدار الآخرة، والمزرعة التي نُعد فيها الزاد للقاء الله تعالى.

إذن: الدنيا أهم من أنْ تُنسَى من حيث هي معونة للآخرة، ولكنها أتفَهُ من أن تكونَ غاية في حَدِّ ذاتها.

ثم يقول الحق سبحانه: (لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ) (النحل: 41).

الخطاب هنا عن مَنْ؟

الخطاب هنا يمكن أن يتجه إلى ثلاثة أشياء: يمكن أنْ يُراد به الكافرون.

ويكون المعنى: لو كانوا يعلمون عاقبة الإيمان وجزاء المؤمنين لآثروه على الكفر.

ويمكن أنْ يُراد به المهاجرون.

ويكون المعنى: لو كانوا يعلمون لازدادوا في عمل الخير.

وأخيراً قد يُرَاد به المؤمن الذي لم يهاجر.

ويكون المعنى: لو كان يعلم نتيجة الهجرة لسارع إليها.

وهذه الأوجه التي يحتملها التعبير القرآني دليل على ثراء الأداء وبلاغة القرآن الكريم، وهذا ما يسمونه تربيب الفوائد.

ثم يقول الحق سبحانه: (ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ...).



سورة النحل الآيات من 041-045 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 49318
العمر : 72

سورة النحل الآيات من 041-045 Empty
مُساهمةموضوع: رد: سورة النحل الآيات من 041-045   سورة النحل الآيات من 041-045 Emptyالأربعاء 01 يناير 2020, 8:40 pm

الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢)
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)

الحق تبارك وتعالى يريد أن يعطينا تشريحاً لحال المهاجرين، فقد ظُلِموا واضْطهِدوا وأُوذُوا في سبيل الله، ولم يفتنهم هذا كله عن دينهم، بل صبروا وتحمَّلوا، بل خرجوا من أموالهم وأولادهم، وتركوا بلدهم وأرضهم في سبيل دينهم وعقيدتهم، حدث هذا منهم اتكالاً على أن الله تعالى لن يُضيّعهم.

ولذلك جاء التعبير القرآني هكذا (صَبَرُواْ) بصيغة الماضي، فقد حدث منهم الصبر فعلاً، كأن الإيذاء الذي صبروا عليه فترة مضتْ وانتهت، والباقي لهم عِزّة ومنَعة وقوة لا يستطيع أحد أنْ يضطهدهم بعد ذلك، وهذه من البشارات في الأداء القرآني.

أما في التوكل، فقال تعالى في حقهم: (وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (النحل: 42).

بصيغة المضارع؛ لأن التوكُّل على الله حدث منهم في الماضي، ومستمرون فيه في الحاضر والمستقبل، وهكذا يكون حال المؤمن.

وبعد ذلك تكلَّم القرآن الكريم عن قضية وقف منها الكافرون أيضاً موقف العناد والمكابرة والتكذيب، وهي مسألة إرسال الرسل، فقال تعالى: (وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ...).



سورة النحل الآيات من 041-045 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 49318
العمر : 72

سورة النحل الآيات من 041-045 Empty
مُساهمةموضوع: رد: سورة النحل الآيات من 041-045   سورة النحل الآيات من 041-045 Emptyالأربعاء 01 يناير 2020, 8:40 pm

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٤٣)
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)


وقد اعترض المعاندون من الكفار على كون الرسول بشراً.

وقالوا: إذا أراد الله أن يرسل رسولاً فينبغي أن يكون مَلَكاً فقالوا: (وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً) (المؤمنون: 24).

وكأنهم استقلُّوا الرسالة عن طريق بشر، وهذا أيضاً من غباء الكفر وحماقة الكافرين؛ لأن الرسول حين يُبلّغ رسالة الله تقع على عاتقه مسئوليتان: مسئولية البلاغ بالعلم، ومسئولية التطبيق بالعمل ونموذجية السلوك.

فيأمر بالصلاة ويُصلِّي، وبالزكاة ويُزكِّي، وبالصبر ويصبر، فليس البلاغ بالقول فقط، لا بل بالسلوك العمليّ النموذجيّ.

ولذلك كانت السيدة عائشة -رضي الله عنها- تقول عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كان خُلقه القرآن".

وكان قرآناً يمشي على الأرض، والمعنى: كان تطبيقاً كاملاً للمنهج الذي جاء به من الحق تبارك وتعالى.

ويقول تعالى في حقِّه -صلى الله عليه وسلم-: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (الأحزاب: 21).

فكيف نتصور أن يكون الرسول مَلَكاً؟

وكيف يقوم بهذه الرسالة بين البشر؟

قد يؤدي الملك مهمة البلاغ، ولكن كيف يُؤدِّي مهمة القدوة والتطبيق العملي النموذجي؟

كيف ونحن نعلم أن الملائكة خَلْق جُبِلوا على طاعة الله: (لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (التحريم: 6).

ومن أين تأتيه منافذ الشهوة وهو لا يأكل ولا يشرب ولا يتناسل؟

فلو جاء مَلَك برسالة السماء، وأراد أن ينهى قومه عن إحدى المعاصي، ماذا نتوقع؟

نتوقع أن يقول قائلهم: لا. لا أستطيع ذلك، فأنت ملَك ذو طبيعة علوية تستطيع ترْك هذا الفعل، أما أنا فلا أستطيع.

إذن: طبيعة الأُسْوة تقتضي أن يكون الرسول بشراً، حتى إذا ما أمر كان هو أول المؤتمرين، وإذا ما نهى كان هو أول المنتهين.

ومن هنا كان من امتنان الله على العرب، ومن فضله عليهم أنْ بعثَ فيهم رسولاً من أنفسهم: (لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ) (التوبة: 128).

فهو أولاً من أنفسكم، وهذه تعطيه المباشرة، ثم هو بشر، ومن العرب وليس من أمة أعجمية.

بل من بيئتكم، ومن نفس بلدكم مكة ومن قريش؛ ذلك لتكونوا على علم كامل بتاريخه وأخلاقه وسلوكه، تعرفون حركاته وسكناته، وقد كنتم تعترفون له بالصدق والأمانة، وتأتمنونه على كل غَال ونفيس لديكم لعلمكم بأمانته، فكيف تكفرون به الآن وتتهمونه بالكذب؟

 لذلك رَدَّ عليهم الحق تبارك وتعالى في آية أخرى فقال: (وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوۤاْ إِذْ جَآءَهُمُ ٱلْهُدَىٰ إِلاَّ أَن قَالُوۤاْ أَبَعَثَ ٱللَّهُ بَشَراً رَّسُولاً) (الإسراء: 94).

فالذي صَدَّكم عن الإيمان به كَوْنه بشراً!! ثم نأخذ على هؤلاء مأخذاً آخر؛ لأنهم تنازلوا عن دعواهم هذه بأنْ يأتيَ الرسول من الملائكة وقالوا: (لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (الزخرف: 31).

فهذا تردُّد عجيب من الكفار، وعدم ثبات على رأي.

مجرد لَجَاجة وإنكار، وقديماً قالوا: إنْ كنتَ كذوباً فكُنْ ذَكُوراً.

ويرد عليهم القرآن: (قُل لَوْ كَانَ فِي ٱلأَرْضِ مَلاۤئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَلَكاً رَّسُولاً) (الإسراء: 95).

فلو كان في الأرض ملائكة لنزَّلنا لهم ملكاً حتى تتحقَّق الأُسْوة.

إذن: لابُدَّ في القدوة من اتحاد الجنس.

ولنضرب لذلك مثلاً: هَبْ أنك رأيتَ أسداً يثور ويجول في الغابة مثلاً يفترس كُلَّ ما أمامه، ولا يستطيع أحد أنْ يتعرَّض له.

هل تفكر ساعتها أن تصير أسداً؟

لا.

إنما لو رأيتَ فارساً يمسك بسيفه، ويطيح به رقاب الأعداء.

ألا تحب أن تكون فارساً؟

بلى أحب.

فهذه هي القدوة الحقيقية النافعة، فإذا ما اختلف الجنس فلا تصلح القدوة.

وهنا يردُّ الحق تبارك وتعالى على افتراءات الكفار بقوله تعالى: (وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِيۤ إِلَيْهِمْ) (النحل: 43).

أي: أنك يا محمد لَسْتَ بدْعاً في الرسل، فَمْن سبقوك كانوا رجالاً طيلة القرون الماضية، وفي موكب الرسالات جميعاً.

وجاءتْ هنا كلمة (رِجَالاً) لتفيد البشرية أولاً كجنس، ثم لتفيد النوع المذكَّر ثانياً؛ ذلك لأن طبيعة الرسول قائمة على المخالطة والمعاشرة لقومه.

يظهر للجميع ويتحدث إلى الجميع.

أما المرأة فمبنية على التستُّر، ولا تستطيع أن تقوم بدور الأُسْوة للناس، ولو نظرنا لطبيعة المرأة لوجدنا في طبيعتها أموراً كثيرة لا تناسب دور النبوة، ولا تتمشَّى مع مهمة النبي، مثل انقطاعها عن الصلاة والتعبد لأنها حائض أو نُفَساء.

كذلك جاءت كلمة (رِجَالاً) مُقيَّدة بقوله: (نُّوحِيۤ إِلَيْهِمْ) (النحل: 43).

فالرسول رجل، ولكن إياك أنْ تقول: هو رجل مثْلي وبشر مِثْلي.

لا هناك مَيْزة أخرى أنه يُوحَى إليه، وهذه منزلة عالية يجب أن نحفظها للأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-.

ثم يقول الحق سبحانه: (فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ) (النحل: 43).

أي: إذا غابتْ عنكم هذه القضية، قضية إرسال الرسل من البشر -ولا أظنها تغيب- لأنها عامَّة في الرسالات كلها.

وما كانت لتخفَى عليكم خصوصاً وعندكم أهل العلم بالأديان السابقة، مثل ورقة بن نوفل وغيره، وعندكم أهل السِّيَر والتاريخ، وعندكم اليهود والنصارى.

فاسألوا هؤلاء جميعاً عن بشرية الرسل.

فهذه قضية واضحة لا تُنكر، ولا يمكن المخالفة فيها.

وماذا سيقول اليهود والنصارى؟.

موسى وعيسى.

إذنْ بشر.

وقوله تعالى: (إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ) (النحل: 43).

يوحى بأنهم يعلمون، وليس لديهم شَكٌّ في هذه القضية.

مثل لو قلتَ لمخاطبك: اسأل عن كذا إنْ كنت لا تعرف.

هذا يعني أنه يعرف، أما إذا كان في القضية شَكٌّ فنقول: اسأل عن كذا دون أداة الشرط.

إذن: هم يعرفون، ولكنه الجدال والعناد والاستكبار عن قبول الحق.



سورة النحل الآيات من 041-045 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 49318
العمر : 72

سورة النحل الآيات من 041-045 Empty
مُساهمةموضوع: رد: سورة النحل الآيات من 041-045   سورة النحل الآيات من 041-045 Emptyالأربعاء 01 يناير 2020, 8:43 pm

بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤)
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)

استهل الحق سبحانه الآية بقوله: (بِٱلْبَيِّنَاتِ وَٱلزُّبُرِ) (النحل: 44).

ويقول أهل اللغة: إن الجار والمجرور لابُدَّ له من متعلق.

فبماذا يتعلق الجار والمجرور هنا؟

قالوا: يجوز أنْ يتعلّق بالفعل (نُوحِي) ويكون السياق: وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نُوحِي إليهم بالبينات والزبر.

وقد يتعلق الجار والمجرور بأهل الذكر.

فيكون المعنى: فاسألوا أهل الذكر بالبينات والزبر، فهذان وجهان لعودة الجار والمجرور.

والبينات: هي الأمر البيِّن الواضح الذي لا يشكُّ فيه أحد.

وهو إما أن يكون أمارة ثُبوت صِدْق الرسالة كالمعجزة التي تتحدى المكذِّبين أنْ يأتوا بمثلها.

أو: هي الآيات الكونية التي تلفِتُ الخَلْق إلى وجود الخالق سبحانه وتعالى، مثل آيات الليل والنهارَ والشمس والقمر والنجوم.

أما الزُّبُر، فمعناها: الكتب المكتوبة.

ولا يُكتب عادة إلا الشيء النفيس مخافة أنْ يضيعَ، وليس هنا أنفَسُ مما يأتينا من منهج الله لِيُنظِّم لَنا حركة حياتنا.

ونعرف أن العرب -قديماً- كانوا يسألون عن كُلِّ شيء مهما كان حقيراً، فكان عندهم عِلمٌ بالسهم ومَنْ أول صانع لها، وعن القوس والرَّحْل، ومثل هذه الأشياء البسيطة.

ألاَ يسألون عن آيات الله في الكون وما فيها من أسرار وعجائب في خَلْقها تدلُّ على الخالق سبحانه وتعالى؟

ثم يقول الحق تبارك وتعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (النحل: 44).

كلمة الذكر وردتْ كثيراً في القرآن الكريم بمعانٍ متعددة، وأَصلْ الذكر أنْ يظلَّ الشيءُ على البال بحيث لا يغيب، وبذلك يكون ضِدّه النسيان.

إذن: عندنا ذِكْر ونسيان.

فكلمة "ذكر" هنا معناها وجود شيء لا ينبغي لنا نسيانه.

فما هو؟

الحق سبحانه وتعالى حينما خلق آدم -عليه السلام- أخذ العهد على كُلِّ ذرِّة فيه، فقال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَافِلِينَ) (الأعراف: 172).

وأخْذ العهد على آدم هو عَهْد على جميع ذريته، ذلك لأن في كُلِّ واحد من بني آدم ذَرَّة من أبيه آدم.

وجزءاً حيّاً منه نتيجة التوالُد والتناسُل من لَدُن آدم حتى قيام الساعة، وما دُمْنا كذلك فقد شهدنا أخذ العهد: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ).

وكأن كلمة (ذكر) جاءت لتُذكِّرنا بالعهد المطمور في تكويننا، والذي ما كان لنا أنْ ننساه، فلما حدث النسيان اقتضى الأمرُ إرسالَ الرسل وإنزالَ الكتب لتذكِّرنا بعهد الله لنا: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ) (الأعراف: 172).

ومن هنا سَمّينا الكتب المنزلة ذِكراً، لكن الذكْر يأتي تدريجياً وعلى مراحل.كلُّ رسول يأتي لِيُذكَّر قومه على حَسْب ما لديهم من غفلة.

أما الرسول الخاتم -صلى الله عليه وسلم- الذي جاء للناس كافّة إلى قيام الساعة، فقد جاء بالذكر الحقيقي الذي لا ذِكْر بعده، وهو القرآن الكريم.

وقد تأتي كلمة (الذكْر) بمعنى الشَّرَف والرِّفْعة كما في قوله تعالى للعرب: (لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ) (الأنبياء: 10).

وقد أصبح للعرب مكانة بالقرآن، وعاشت لغتهم بالقرآن، وتبوءوا مكان الصدارة بين الأمم بالقرآن.

وقد يأتي الذكْر من الله للعبد، وقد يأتي من العبد لله تعالى كما في قوله سبحانه: (فَٱذْكُرُونِيۤ أَذْكُرْكُمْ) (البقرة: 152).

والمعنى: فاذكروني بالطاعة والإيمان أذكركم بالفيوضات والبركة والخير والإمداد وبثوابي.

وإذا أُطلقت كلمة الذكر انصرفت إلى ما نزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه الكتاب الجامع لكُلِّ ما نزل على الرسُل السابقين، ولكل ما تحتاج إليه البشرية إلى أنْ تقومَ الساعة.

كما أن كلمة كتاب تطلق على أي كتاب، لكنها إذا جاءت بالتعريف (الكتاب) انصرفت إلى القرآن الكريم، وهذا ما نسميه (عَلَم بالغلبة).

والذكْر هو القرآن الذي نزل على محمد -صلى الله عليه وسلم-، وهو معجزته الخالدة في الوقت نفسه، فهو منهج ومعجزة، وقد جاء الرسُل السابقون بمعجزات لحالها، وكتب لحالها، فالكتاب منفصل عن المعجزة.

فموسى كتابه التوراة ومعجزته العصا، وعيسى كتابه ومنهجه الإنجيل ومعجزته إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله.

أما محمد -صلى الله عليه وسلم- فمعجزته هي نفس كتاب منهجه، لا ينفصل أحدهما عن الآخر لتظلّ المعجزة مُسَاندة للمنهج إلى قيام الساعة.

وهذا هو السِّر في أن الحق تبارك وتعالى تكفل بحفظ القرآن وحمايته، فقال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: 9).

أما الكتب السابقة فقد عُهد إلى التابعين لكل رسول منهم بحِفْظ كتابه، كما قال تعالى: (إِنَّآ أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلرَّبَّانِيُّونَ وَٱلأَحْبَارُ بِمَا ٱسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ ٱللَّهِ) (المائدة: 44).

ومعنى اسْتُحفِظوا: أي طلبَ الله منهم أنْ يحفظوا التوراة، وهذا أمْرُ تكليف قد يُطاع وقد يُعصى، والذي حدث أن اليهود عَصَوْا وبدّلوا وحَرَّفوا في التوراة.

أما القرآن فقد تعهَّد الله تعالى بحفْظه ولم يترك هذا لأحد؛ لأنه الكتاب الخاتَم الذي سيصاحب البشرية إلى قيام الساعة.

ومن الذِّكْر أيضاً ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع القرآن، وهو الحديث الشريف، فللرسول مُهِمة أخرى، وهي منهجه الكلاميّ وحديثه الشريف الذي جاء من مِشْكاة القرآن مبيِّناً له ومُوضِّحاً له.

كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "أَلاَ وإنِّي قد أُوتِيتُ القرآن ومِثْله معه، يُوشك رجل شبعان يتكىء على أريكته يُحدَّث بالحديث عنِّي فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال حَلَّلْناه، وما وجدنا فيه من حرام حَرَّمناه، أَلاَ وإنَّه ليس كذلك".

ويقول الحق سبحانه: (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (النحل: 44).

إذن: جاء القرآن كتابَ معجزة، وجاء كتابَ منهج، إلا أنه ذكر أصول هذا المنهج فقط، ولم يذكر التعريفات المنهجية والشروح اللازمة لتوضيح هذا المنهج، وإلاَّ لَطالتْ المسألة، وتضخَّم القرآن وربما بَعُد عن مُرَاده.

فجاء القرآن بالأصول الثابتة، وترك للرسول -صلى الله عليه وسلم- مهمة أنْ يُبيِّنه للناس، ويشرحه ويُوضِّح ما فيه.

وقد يظن البعض أن كُلَّ ما جاءتْ به السُّنة لا يلزمنا القيام به؛ لأنه سنة يُثَاب مَنْ فعلها ولا يُعاقب مَنْ تركها.

نقول: لا.

لابُدَّ أن نُفرِّق هنا بين سُنّية الدليل وسُنّية الحكم، حتى لا يلتبس الأمر على الناس.

فسُنّية الدليل تعني وجود فَرْض، إلا أن دليله ثابت من السنة.

وذلك كبيان عدد ركعات الفرائض: الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء، فهذه ثابتة بالسنة وهي فَرْض.

أما سُنيّة الحكم: فهي أمور وأحكام فقهية وردت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يُثَاب فاعلها ولا يُعاقب تاركها.

فحين يُبيِّن لنا الرسول بسلوكه وأُسْوته حُكْماً ننظر: هل هي سُنّية الدليل فيكون فَرْضاً، أم سُنّية الحكم فيكون سُنة؟

ويظهر لنا هذا أيضاً من مواظبة الرسول على هذا الأمر، فإنْ واظب عليه والتزمه فهو فَرْض، وإنْ لم يواظب عليه فهو سُنة.

إذن: مهمة الرسول ليست مجرد مُنَاولة القرآن وإبلاغه للناس، بل وبيان ما جاء فيه من المنهج الإلهي، فلا يستقيم هنا البلاغ دون بيان.

ولابُدَّ أن نفرّق بين العطائين: العطاء القرآني، والعطاء النبوي.

ويجب أن نعلم هنا أن من المَيْزات التي مُيِّز بها النبي -صلى الله عليه وسلم- عن سائر إخوانه من الرُّسُل، أنه الرسول الوحيد الذي أمنه الله على التشريع، فقد كان الرسل السابقون يُبلِّغون أوامر السماء فَقط وانتهتْ المسألة، أما محمد -صلى الله عليه وسلم- فقد قال الحق تبارك وتعالى في حقِّه: (وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ) (الحشر: 7).

إذن: أخذ مَيْزة التشريع، فأصبحت سُنّته هي التشريع الثاني بعد القرآن الكريم.

ثم يقول تعالى: (وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل: 44).

يتفكرون.

في أي شيء؟

يتفكرون في حال الرسول -صلى الله عليه وسلم- قبل البعثة، حيث لم يُؤْثَر عنه أنه كان خطيباً أو أديباً شاعراً، ولم يُؤْثَر عنه أنه كان كاتباً مُتعلِّماً.

لم يُعرف عنه هذا أبداً طيلة أربعين عاماً من عمره الشريف، لذلك أمرهم بالتفكُّر والتدبُّر في هذا الأمر.

فليس ما جاء به محمد عبقرية تفجَّرت هكذا مرَّة واحدة في الأربعين من عمره، فالعمر الطبيعي للعبقريات يأتي في أواخر العِقْد الثاني وأوائل العِقْد الثالث من العمر.

ولا يُعقل أنْ تُؤجّل العبقرية عند رسول الله إلى هذا السن وهو يرى القوم يُصْرعون حوله.

فيموت أبوه وهو في بطن أمه، ثم تموت أمه وما يزال طفلاً صغيراً، ثم يموت جَدُّه، فمَنْ يضمن له الحياة إلى سِنِّ الأربعين، حيث تتفجَّر عنده هذه العبقرية؟! إذن: تفكَّروا، فليستْ هذه عبقرية من محمد، بل هي أمْر من السماء؛ ولذلك أمره ربُّه تبارك وتعالى أن يقول لهم: (قُل لَّوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) (يونس: 16).

فكان عليكم أنْ تفكِّروا في هذه المسألة.

ولو فكرتُمْ فيها كان يجب عليكم أنْ تتهافتوا على الإسلام، فأنتم أعلم الناس بمحمد، وما جرَّبتم عليه لا كذباً ولا خيانةً، ولا اشتغالاً بالشعر أو الخطابة، فما كان لِيْصدق عندكم ويكذب على الله.

ولابُدَّ أن نُفرّق بين العقل والفكر.

فالعقل هو الأداة التي تستقبل المحسَّات وتُميِّزها، وتخرج منها القضايا العامة التي ستكون هي المبادىء التي يعيش الإنسان عليها، والتي ستكون عبارة عن معلومات مُخْتزنة، أما الفكر فهو أن تفكر في هذه الأشياء لكي تستنبط منها الحكم.

والله سبحانه وتعالى ترك لنا حُرية التفكير وحرية العقل في أمور دنيانا، لكنه ضبطنا بأمور قَسْرية يفسَد العالم بدونها، فالذي يفسد العالم أن نترك ما شرعه الله لنا.

والباقي الذي لا يترتب عليه ضرر يترك لنا فيه مجالاً للتفكير والتجربة؛ لأن الفشل فيه لا يضر.

فما أراده الله حُكْماً قسْرياً فرضه بنصٍّ صريح لا خلافَ فيه، وما أراده على وجوه متعددة يتركه للاجتهاد حيث يحتمل الفعل فيه أوجهاً متعددة، ولا يؤدي الخطأ فيه إلى فساد.

فالمسألة ميزان فكري يتحكم في المحسَّات ويُنظم القضايا، لنرى أولاً ما يريده الله بتاً وما يريده اجتهاداً، وما دام اجتهاداً فما وصل إليه المجتهد يصح أنْ يعبد الله به، ولكن آفة الناس في الأمور الاجتهادية أن منهم مَنْ يتهم مخالفه، وقد تصل الحال بهؤلاء إلى رَمْي مخالفيهم بالكفر والعياذ بالله.

ونقول لمثل هذا: اتق الله، فهذا اجتهادٌ مَنْ أصاب فيه فَلَهُ أجران، ومَنْ أخطأ فله أجر.

ولذلك نجد من العلماء مَنْ يعرف طبيعة الأمور الاجتهادية فنراه يقول: رَأْيي صواب يحتمل الخطأ، ورَأْي غيري خطأ يحتمل الصواب.

وهكذا يتعايش الجميع وتُحتَرم الآراء.

ومن رحمة الله بعباده أن يأمرهم بالتفكُّر والتدبُّر والنظر؛ ذلك لأنهم خَلْقه سبحانه، وهم أكرم عليه من أنْ يتركهم للضلال والكفر، بعد أن أكرمهم بالخَلْق والعقل، فأراد سبحانه أن يكرمهم إكراماً آخر بالطاعة والإيمان.

وكأنه سبحانه يقول لهم: رُدُّوا عقولكم ونفوسكم عن كبرياء الجدل ولَجَج الخصومة، وإنْ كنتم لا تؤمنون بالبعث في الآخرة، وبما أُعدَّ للظالمين فيها من عقاب، فانظروا إلى ما حدث لهم وما عُجِّل لهم من عذاب في الدنيا.

انظروا للذين سبقوكم من الأمم المكذَّبة وما آلَ إليه مصيرهم، أم أنتم آمنون من العذاب، بعيدون عنه؟! ثم يقول تبارك وتعالى: (أَفَأَمِنَ ٱلَّذِينَ مَكَرُواْ...).



سورة النحل الآيات من 041-045 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 49318
العمر : 72

سورة النحل الآيات من 041-045 Empty
مُساهمةموضوع: رد: سورة النحل الآيات من 041-045   سورة النحل الآيات من 041-045 Emptyالأربعاء 01 يناير 2020, 8:43 pm

أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (٤٥)
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)

قوله تعالى: (أَفَأَمِنَ) (النحل: 45).

عبارة عن همزة الاستفهام التي تستفهم عن مضمون الجملة بعدها.

أما الفاء بعدها فهي حَرْف عَطْف يعطف جملة على جملة.

إذنْ: هنا جملة قبل الفاء تقديرها: أجهلوا ما وقع لمخالفي الأنبياء السابقين من العذاب، فأمِنُوا مكر الله؟

أي: أن أَمْنهم لمكر الله ناشىءٌ عن جهلهم بما وقع للمكَذِّبين من الأمم السابقة.

ثم يقول تعالى: (مَكَرُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ) (النحل: 45).

المكر: هو التبييت الخفيّ للنيْل ممَّنْ لا تستطيع مجابهته بالحق ومجاهرته به، فأنت لا تُبيِّت لأحد إلا إذا كانت قدرتُك عاجزة عن مُصَارحته مباشرة، فكوْنُك تُبيّت له وتمكر به دليل على عَجْزك؛ ولذلك جعلوا المكر أول مراتب الجُبْن؛ لأن الماكر ما مكر إلا لعجزه عن المواجهة، وعلى قَدْر ما يكون المكْر عظيماً يكون الضعف كذلك.

وهذا ما نلحظه من قوله تعالى في حَقِّ النساء: (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) (يوسف: 28).

وقال في حَقِّ الشيطان: (إِنَّ كَيْدَ ٱلشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً) (النساء: 76).

فالمكر دليل على الضعف، وما دام كَيْدهُن عظيماً إذن: ضَعْفُهن أيضاً عظيم، وكذلك في كيد الشيطان.

وقديماً قالوا: إياك أنْ يملكَك الضعيف؛ ذلك لأنه إذا تمكَّن منك وواتَتْه الفرصة فلن يدعَكَ تُفلت منه؛ لأنه يعلم ضعفه، ولا يضمن أن تُتاحَ له الفرصة مرة أخرى؛ لذلك لا يضيعها على عكس القويّ، فهو لا يحرص على الانتقام إذا أُتيحَتْ له الفرصة وربما فَوَّتها لِقُوته وقُدرته على خَصْمه، وتمكّنه منه في أيِّ وقت يريد.

وفي نفس المعنى جاء قول الشاعر:
وَضَعِيفة فإذَا أَصَابتْ فُرْصةً    قتلَتْ كذلِكَ قُدرةُ الضُّعَفاءِ

إذن: قدرة الضعفاء قد تقتل، أما قدرة القويّ فليستْ كذلك.

ثم لنا وقْفة أخرى مع المكْر، من حيث إن المكر قد ينصرك على مُساويك وعلى مثلك من بني الإنسان، فإذا ما تعرضْتَ لمن هو أقوى منك وأكثر منك حَيْطة، وأحكم منك مكْراً، فربما لا يُجدِي مكرُك به، بل ربما غلبك هو بمكْره واحتياطه، فكيف الحال إذا كَان الماكر بك هو ربِّ العالمين تبارك وتعالى؟

وصدق الله العظيم حيث قال: (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ) (الأنفال: 30).

وقال: (وَلاَ يَحِيقُ ٱلْمَكْرُ ٱلسَّيِّىءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ) (فاطر: 43).

فمكْر العباد مكشوف عند الله، أما مكْرُه سبحانه فلا يقدر عليه أحد، ولا يحتاط منه أحد؛ لذلك كان الحق سبحانه خَيْر الماكرين.

والمكْر السَّيء هو المكْر البطَّال الذي لا يكون إلا في الشر، كما حدث من مَكْر المكذِّبين للرسل على مَرِّ العصور، وهو أن تكيد للغير كيْداً يُبطل حَقّاً.

وكل رسول قابله قومه المنكرون له بالمكر والخديعة، دليل على أنهم لا يستطيعون مواجهته مباشرة، وقد تعرَّض الرسول -صلى الله عليه وسلم- لمراحل متعددة من الكَيْد والمكْر والخديعة، وذلك لحكمة أرادها الحق تبارك وتعالى وهي أن يُوئس الكفار من الانتصار عليه -صلى الله عليه وسلم-، فقد بيَّتوا له ودَبَّروا لقتله، وحَاكُوا في سبيل ذلك الخطط، وقد باءتْ خُطتهم ليلة الهجرة بالفشل.

وفي مكيدة أخرى حاولوا أن يَسْحروه -صلى الله عليه وسلم-، ولكن كشف الله أمرهم وخيَّب سَعْيهم.

إذن: فأيّ وسيلة من وسائل دَحْض هذه الدعوة لم تنجحوا فيها، ونصره الله عليكم.

كما قال تعالى: (كَتَبَ ٱللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِيۤ) (المجادلة: 21).

وقوله تعالى: (أَن يَخْسِفَ ٱللَّهُ بِهِمُ ٱلأَرْضَ) (النحل: 45).

الخْسف: هو تغييب الأرض ما على ظهرها.

فانخسفَ الشيء أيْ: غاب في باطن الأرض، ومنه خُسوف القمر أي: غياب ضَوْئه.

ومن ذلك أيضاً قوله تعالى عن قارون: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ ٱلأَرْضَ) (القصص: 81).

وهذا نوع من العذاب الذي جاء على صُور متعددة كما ذكرها القرآن الكريم: (فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ ٱلصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ ٱلأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا) (العنكبوت: 40).

هذه ألوان من العذاب الذي حاقَ بالمكذبين، وكان يجب على هؤلاء أن يأخذوا من سابقيهم عبرة وعظة، وأنْ يحتاطوا أن يحدث لهم كما حدث لسابقيهم.

ثم يقول الحق تبارك وتعالى: (أَوْ يَأْتِيَهُمُ ٱلْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ) (النحل: 45).

والمراد أنهم إذا احتاطوا لمكْر الله وللعذاب الواقع بهم، أتاهم الله من وجهة لا يشعرون بها، ولم تخطُر لهم على بال، وطالما لم تخطُرْ لهم على بال، إذن: فلم يحتاطوا لها، فيكون أَخْذهم يسيراً، كما قال تعالى: (فَأَتَاهُمُ ٱللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ) (الحشر: 2).

ويتابع الحق سبحانه، فيقول: (أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي...).



سورة النحل الآيات من 041-045 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
 
سورة النحل الآيات من 041-045
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» سورة النحل الآيات من 081-085
» سورة النحل الآيات من 086-090
» سورة النحل الآيات من 091-095
» سورة النحل الآيات من 036-040
» سورة النحل الآيات من 096-100

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers :: (العربي) :: الـقــــــــــــــرآن الـكـــــــــــــــريـم :: مجمـــوعــة تفاســـــير :: خواطر الشعراوي :: النَّحل-
انتقل الى: