الله والعلاج الطبي
كتبه: بول ارنست ادولف
طبيب وجراح
حاصل على درجة الماجستير والدكتوراه في الطب من جامعة بنسلفانيا - عضو الإرسالية الطبية بالصين - أستاذ مساعد التشريح بجامعة سانت جولس - عضو جمعية الجراحين الأمريكية - مؤلف عدة كتب في رسالة الطب.

المُشَارَكَة:
للإجابة عن السُّؤال الذي هو موضوع هذا الكتاب أحِبُّ أن أقول أنني أؤمن بالله إيماناً راسخاً لا ريب فيه، وليس إيماني به نتيجة خبرة روحية فحسب، ولكن اشتغالي بالطب قد دعم ذلك الإيمان.

لقد درستُ -عندما كنت أتعلّمُ الطّبَّ- أحَدِ المبادئ المادية الأساسية التي تُفَسِّرُ ما يحدث من تغيُّراتٍ داخل الأنسجة عندما يُصيبها عطبٌ أو تلفٌ، تفسيراً مادِّياً صِرْفاً، كما فحصت قطاعات مجهرية لهذه الأنسجة، وتبيَّنتُ أن الظروف المُناسبة تُعينُهَا على أن تلتئم بسُرعة وتتقدَّم نحو الشفاء.

وعندما اشتغلتُ جرَّاحاً في أحَدِ المُستشفيات بعد ذلك، كنت استخدم المبدأ السَّابق استخداماً يتَّسِمُ بالثقة فيه والاطمئنإن إليه، ولم يكن عَلَيَّ إلا أنْ أهَيِّئَ الظروف المادية والطبية المُناسبة، ثم أدع الجُرح يلتئم وكُلِّي ثقة بالنتيجة المُرتقبة.

ولكنني لم ألبث غير قليل حتى اكتشفتُ أنني قد فاتني أن أُضَمِّنَ علاجي وأفكاري الطبية أهم العناصر وأبعدها أثراً في إتمام الشفاء ألا وهو الاستعانة بالله.

وعندما كنت أعمل جرَّاحاً في أحد المستشفيات، جاءتني ذات يوم جَدَّةٌ مريضة جاوزت السَّبعين تشكو من شدخ في عظام ردفها، وبعد أن وضِعَتْ فترة تحت العلاج أدركتُ من فحص سلسلة الصُّوَر التي أخِذَتْ لها على فتراتٍ تحت الأشعة إنها تتقدَّم بسرعة نحو الشفاء.

ولم تمض أيامٌ قليلة حتى تقدَّمْتُ إليها مُهنِّئاً بما تمَّ لها من شفاءٍ نادرٍ وعجيب.

عندئذ استطاعت السيدة أن تتحرَّك فوق المقعد ذي العجلات، ثم سارت وحدها متوكئة على عصاها، وقرَّرنا أن تخرج تلك السيدة في مدى أربع وعشرين ساعة وتذهب إلى بيتها، فلم يَعُدْ بها حاجة إلى البقاء في المستشفى.

وكان صباح اليوم التالي هو الأحد، وقد عادتها ابنتها في زيارة الأحد المُعتادة حيث أخبرتُها أنها تستطيع أن تأخذ والدتها في الصباح إلى المنزل لأنها تستطيع الآن أن تسير متوكئة على عصاها.

ولم تذكر لي ابنتها شيئاً مما جال في خاطرها، ولكنها انتحت بأمِّهَا جانباً وأخبرتها أنها قد قرَّرت بالاتفاق مع زوجها أن يأخذا الأم إلى أحد ملاجئ العجزة لأنهما لا يستطيعان أن يأخذاها إلى المنزل.

ولم تكد تنقضي بضعُ ساعاتٍ على ذلك حتى اسْتُدْعِيتُ على عَجَلٍ لإسعاف السيدة العجوز.

ويا لهول ما رأيت.

لقد كانت المرأةُ تحتضر، ولم تمض ساعات قليلة حتى أسلمت الرُّوحَ.

إنها لم تَمُتْ من كسر في عظام ردفها، ولكنها ماتت من انكسار في قلبها.

لقد حاولتُ دون جدوى أن أقَدِّمَ لها أقصى ما يُمكن من وسائل الإسعاف، وضاعت كل الجُهود سُدَى.

لقد شُفِيَتْ من مرضها بسهولة ولكن قلبها الكسير لم يمكن شفاؤه برغم ما كانت قد تناولته في أثناء العلاج من الفيتامينات والعقاقير المُقويَّة، وما تهيَّأ لها من أسباب الرَّاحة، ومن الاحتياجات التي كانت تُتَّخَذُ لتُعينُها على المرض وتُعَجِّلُ لها الشفاء.

 لقد التأمت عظامها المكسُورة التئاماً تامّاً، ومع ذلك فإنها ماتت.

لماذا؟

إن أهم عامل في شفائها لم يكن الفيتامينات ولا العقاقير ولا التئام العظام، ولكنه كان الأمل.

وعندما ضاع الأمل تعذَّر الشِّفاء.

وأثّرَتْ هذه الحادثة في نفسي تأثيراً عميقاً، وقلت في نفسي: لو أن هذه السيدة وضعت أملها في الله ما ضيَّعها وما انهارت ولَمَا حدث لها ما حدث.

وبرغم أنني كنت أؤمن بالله خالق كل شيءٍ بحكم اشتغالي بالعلوم الطبية، فإنني كنت أفاضل بين معلوماتي الطبية والمادية وبين اعتقادي في وجود الله كما لو لم تكن هنالك صلة بين هذين الأمرين.

ولكن هل يوجد ما يدعو إلى هذا الانفصال بين هاتين الناحيتين؟

ها هي ذي السيدة العجوز التي تَمَّ لها الشفاء وسلامة الجسد فقدت رُوحها ونظرة التفاؤل إلى الحياة.

لقد عقدت كل آمالها حول ابنتها الوحيدة، وعندما خلت بها ابنتها انهارت آمالها فواجهت الموت بدلاً من أن تواجه الحياة.

ولقد صدق عيسى (عليه السلام) عندما قال: (كيف ينتفع الإنسان بهذه الدنيا إذا ملكها كلها وفقد روحه).

لقد أيقنت أن العلاج الحقيقي لابد أن يشمل الروح والجسم معاً، وفي وقت واحد، وأدركتُ أن من واجبي أن أطبق معلوماتي الطبية والجراحية إلى جانب إيماني بالله وعلمي به، ولقد أقمتُ كلتا الناحيتين على أساس قويم.

بهذه الطريقة وحدها استطعت أن اقدِّمَ لمرضاي العلاج الكامل الذي يحتاجون اليه.

ولقد وجدت بعد تَدَبُّرٍ عميق أن معلوماتي الطبية وعقيدتي في الله هما الأساس الذي ينبغي أن تقوم عليه الفلسفة الطبية الحديثة.

والواقع أن النتيجة التي وصلت إليها تتفق كل الاتفاق مع النظرية الطبية الحديثة عن أهمية العنصر السيكولوجي في العلاج الحديث، فقد دلّت الإحصائيات الدقيقة على أن 80% من المرضى بشتى أنواع الأمراض في جميع المُدُنِ الأمريكية الكبرى ترجع أمراضهم إلى حَدٍّ كبير إلى مُسبِّبَاتً نفسيه، ونصف هذه النسبة من الاشخاص الذين ليس لديهم مرض عضوي في أية صورة من الصور.

وليس معنى ذلك أن هذه الأمراض مجرد أوهام خيالية، فهي أمراض حقيقية، وليست أسبابها خيالية ولكنها موجودة فعلاً ويمكن الوصول إليها عندما يستخدم الطبيب المعالج بصيرته بها.

فما هي الأسباب الرئيسية لما نسميه الأمراض العصبية؟

إن من الأسباب الرئيسية لهذه الأمراض الشعور بالإثم أو الخطيئة، والحقد والخوف والقلق والكبت والتردُّد والشك والغيرة والأثرة والسأم.

ومما يؤسف له أن كثيراً مِمَّنْ يشتغلون بالعلاج النفسي قد ينجحون في تقصِّي أسباب الاضطراب النفسي الذي يُسَبِّبُ المرض، ولكنهم يفشلون في معالجة هذه الاضطرابات لأنهم لا يلجأون إلى بَثِّ الإيمان بالله في نفوس هؤلاء المرضى.

ونحن فوق ذلك لنا أن نتساءل عن هذه الاضطرابات الانفعالية والعوامل التي تسبب تلك الأمراض، إنها هي ذاتها الاضطرابات التي جاءت الأديان لكي تعمل على تحريرنا منها.

فلقد أدرك اللهُ بقدرته وحِكْمَتِهِ حاجاتنا النفسية ودَبَّرَ لها العلاج الكامل.

ولقد وصف الأخصائيون النفسيون القفل الذي يُغلق باب الصحة، وأمدنا الله بالمفتاح الذي يفتح هذا الباب.

ولا يمكن أن يقودنا التخبُّط الأعمى إلى فتح هذا القفل المُعَقَّد، بل إنه لا يستطيع أن يمُدَّنا بالمفتاح الذي يفتح باب الرُّوح الإنسانية، فالله وحده هو الذي يستطيع أن يهدينا طريق الصواب.

ويقول الشاعر كوبر في هذا المعنى:
الجحود الأعمى يوقعنا في الأخطاء
ويجعلنا نبصر آياته ولكننا نكفر بها
استعن بالله على فهم الأمور
وسوف يوضح لك كل غامض عليك

فماذا يخبرنا الله -المُستعان على فهم الأمور- عن هذه المفاتيح؟

إن ذلك يتلخّص في إننا نرتكب الإثم والذنوب ونحتاج إلى عفو الله ومغفرته، حتى نعود إلى رحابه ونعفو عن غيرنا.

إن المُذنبين الذين ينالهم هذه الصَّفح تتجلّى في نفوسهم روح الله فيذهب عنهم الخوف والقلق، ولا يكون هنالك سبيل إلى إصابتهم بالكبت والغيرة والأثرة.

فعندما تَحِلُّ محبته في القلوب، تفارقنا الشُّرور والآثام، ولا ينتابها السَّأم وتفيض بالآمال الحيَّة التي تنبعث منها الحياة.

لقد وجدت في أثناء ممارستي للطب أن تسلّحي بالنواحي الروحية إلى جانب إلمامي بالمادة العلمية يمكناني من معالجة جميع الأمراض علاجاً يتَّسِمُ بالبركة الحقيقية، أمَّا إذا أبعد الإنسان ربه عن هذه المحيط، فإن محاولاته لا تكون إلا نصف العلاج، بل قد لا تبلغ هذا القدر.

فمعظم القرح المعدية لا ترجع إلى ما يأكله الناس كما يُقال، وإنما إلى ما تأكل قلوبهم، ولابد لعلاج المريض بها من علاج قلبه وأحقاده أولاً، وليكن لنا أسوة بالأنبياء الذين كانوا يُصَلُّونَ من أجل أعدائهم ويدعون لهم بالخير.

فإذا تطهَّرت قلوبنا وصِرْنَا مخلصين، فإننا نشق طريقنا نحو الشفاء، وبخاصة إذا كان العلاج الرُّوحي مصحوباً بتناول المواد ضد الحامضية وغيرها من العقاقير التي تساعد على الشفاء من هذه القُرَح.

وهنالك كثير من الحالات النفسية التي يلعب الخوف والقلق دوراً هامّاً فيها، فإذا عولج الخوف والقلق على أساس تدعيم إيمان الإنسان بالله، فإن الصحة والشفاء يعودان إلى الإنسان بصورة كأنها السِّحر في كثير من الحالات.

ولا يتسع المقام لذكر كثير من الحالات التي تَمَّ فيها الشفاء فوراً بسبب الالتجاء إلى الله والثقة به، وقد وصفت كثيراً من هذه الحالات في أحد الكُتُب التي ألّفتها وهو: (الصحة تتدفق)، وبيَّنت في هذا الكتاب كيف كان الإيمان بالله جزءاً هاماً من العلاج النفسي والطبي، وكيف أدَّى إلى نتائج تدعو إلى العجب.

إن الجسم الإنساني يُصبح على أفضل ما يمكن عندما يكون على وفاق مع صانعه وخالقه، وبدون ذلك يصيبنا الاضطراب والمرض.

نعم هنالك إِلَهٌ.

ولقد عرفته في مواطن كثيرة، وهو الذي يشفي العظام المكسورة والقلوب المُحَطّمَة (1).
-----------------------------------------
(1) -) أمَّنْ يُجِيبُ المُضطر إذا دَعَاهُ ويَكْشِفُ السَّوءَ ويَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضَ، أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ) سورة النمل، آية: 62.
-----------------------------------------