فلننظر إلى الحقائق دون ملل أو تَحَيُّز
كتبها: ادوارد لوثركيسيل
أخصائي في علم الحيوإن والحشرات - حاصل على دكتوراه من جامعة كاليفورنيا - أستاذ علم الأحياء ورئيس القسم بجامعة سان فرانسيسكو - متخصص في دراسة أجنة الحشرات والسلامندر والحشرات ذوات الجناحين.

المُشارَكَة:
أضاف البحث العلمي خلال السنوات الأخيرة أدلة جديدة على وجود الله زيادة على الأدلة الفلسفية التقليدية.
ونحن لا نقصد من ذلك أن الأدلة الجديدة لازمة أو لا غنى عنها، فقد كان في الإثباتات القديمة ما يكفي لإقناع أي إنسان يستطيع أن ينظر إلى الموضوع نظرة مُجَرَّدَة عن الميل أو التحيُّز.
وأنا بوصفي مِمَّنْ يؤمنون بالله أرحب بهذه الأدلة الجديدة لسببين: فهي أولاً تزيد معرفتنا بآيات الله وضوحاً.
وهي ثانياً تساعد على كشف الغطاء عن أعين كثير من صرحاء الشكيين حتى يُسَلِّمُوا بوجود الله.
لقد عَمَّتْ أمريكا في السنوات الأخيرة مَوْجَة من العودة إلى الدين، ولم تتخط هذه الموجة معاهد العلم لدينا.
ولا شك أن الكشوف العلمية الحديثة التي تشير إلى ضرورة وجود إله لهذا الكون قد لعبت دوراً كبيراً في هذه العودة إلى رحاب الله والاتجاه إليه.وطبيعي أن البحوث العلمية التي أدَّتْ إلى هذه الادلة لم يكن يُقصد من اجرائها إثبات وجود الخالق، فغاية العلوم هي البحث عن خبايا الطبيعة واستغلال قواها، وهي لا تدخل في البحث عن مشكلة النَّشأة الأولى، فهذه من المُشكلات الفلسفية، والعلوم لا تهتم إلا بمعرفة كيف تؤدي الأشياء وظائفها، وهي لا تهتم بمعرفة مَنْ الذي جعلها تعمل أو تؤدي هذه الوظائف.
ولكن كل إنسان -حتى أولئك الذين يشتغلون بالعلوم الطبيعية- لديه ميل أو نزعة نحو الفلسفة.
ومما يؤسف له أن المرموقين من العلماء ليسوا دائماً من الفلاسفة الممتازين، فقليل منهم هم الذين يفكرون في أمور النشأة الأولى.
وقد يعتقد بعضهم أن هذا الكون هو خالق نفسه، على حين يرى البعض الآخر أن الاعتقاد في أزلية هذا الكون ليس أصعب من الاعتقاد في وجود إلَهٍ أزلي.
ولكن القانون الثاني من قوانين الديناميكا الحرارية يُثْبِتُ خطأ هذا الرأي الأخير.
فالعلوم تثبت بكل وضوح أن هذا الكون لا يمكن أن يكون أزلياً، فهنالك انتقال حراري مستمر من الأجسام الحارة إلى الأجسام الباردة، ولا يمكن أن يحدث العكس بقوة ذاتية بحيث تعود الحرارة فترتد من الأجسام الباردة إلى الأجسام الحارة.
ومعنى ذلك أن الكون يتجه إلى درجة تتساوى فيها حرارة جميع الأجسام وينضب فيها معين الطاقة.
ويومئذ لن تكون هنالك عمليات كيماوية أو طبيعية، ولن يكون هنالك أثر للحياة نفسها في هذا الكون.
ولَمَّا كانت الحياة لا تزال قائمة، ولا تزال العمليات الكيماوية والطبيعية تسير في طريقها، فإننا نستطيع أن نستنتج أن هذا الكون لا يمكن أن يكون أزلياً، وإلا لاستهلكت طاقته منذ زمن بعيد وتوقف كل نشاط في الوجود.
وهكذا توصَّلت العلوم -دون قصد- إلى أن لهذا الكون بداية.
وهي بذلك تُثْبِتُ وجود الله، لأن ما له بداية لا يمكن أن يكون قد بدأ نفسه ولابد من مُبْدِئٍ، أو من مُحَرِكٍ أول، أو من خالق، هو الإله.
ولا يقتصر ما قدمته العلوم على اثبات أن لهذا الكون بداية، فقد اثبتت فوق ذلك أنه بدأ دفعة واحدة منذ نحو خمسة بلايين سنة.
والواقع أن الكون لا يزال في عملية انتشار مستمر تبدأ من مركز نشأته.
واليوم لابد لِمَنْ يؤمنون بنتائج العلوم أن يؤمنوا بفكرة الخالق أيضاً، وهي فكرة تستشرف على سُنَنِ الطبيعة، لأن هذه السُّنَن إنَّمَا هي ثمرة الخلق، ولابد لهم أن يُسَلِّمُوا بفكرة الخالق الذي وضع قوانين هذا الكون، لأن هذه القوانين ذاتها مخلوقة، وليس من المعقول أن يكون هنالك خلق دون خالق: هو الله.وما أن أوجد الله مادة هذا الكون والقوانين التي تخضع لها حتى سَخَّرَهَا جميعاً لاستمرار عملية الخلق عن طريق التطور.
إنني واثق أن كلمة التطوُّر قد أسِيءَ فهمُها في كثير من الدوائر حتى صار مُجَرَّد النُّطق بها يثير التعجُّب.
وإنني أفهم ما يعنيه هؤلاء الأصدقاء، بل أتفق معهم في أن التطور المقصود هنا هو التطور المادي أو الميكانيكي الذي ينبغي أن نُفَرِّقَ بينه وبين التطور الخَلْقِي أو الإبداعي كل التفرقة.
ولو أن جميع المُشتغلين بالعلوم نظروا إلى ما تُعطيهم العلوم من أدلّةٍ على وجود الخالق بنفس روح الأمَانة والبُعد عن التحيُّز الذي ينظرون به إلى نتائج بحوثهم، ولو أنهم حرَّرُوا عقولهم من سُلطإن التأثر بعواطفهم وانفعالاتهم، فإنهم سوف يُسَلِّمُونَ دون شك بوجود الله، وهذا هو الحل الوحيد الذي يفسر الحقائق.
فدراسة العلوم بعقل مُتَفَتِّحٍ سوف تقودُنا بدون شَكٍ إلى إدراك وجود السَّبب الأول الذي هو الله (1).
ولقد مَنَّ الخالقُ على جيلنا وبارك جهودنا العلمية بكشف كثير من الأمور حول الطبيعة، وصار من الواجب على كل إنسان، سواءً أكإن من المُشتغلين بالعلوم أو من غير المُشتغلين بها، أن يستفيد من هذه الكُشُوف العلمية في تدعيم إيمانه بالله.
وكما ينبغي أن يتدبَّرَ العالم المُتفتح العقل وجود الله ويُسَلّمَ به، فإن غير المُشتغل بالعلوم ينبغي له أن يفحص هو أيضاً هذه الأدلة ويُدرك أن التطور الإبداعي هو وسيلة الخالق في خلقه، وأن الله هو الذي أبدع هذا الكون بقدرته وسَنَّ قوانينه الطبيعية.
-----------------------------------------
(1) (إنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ) قرآن كريم سورة فاطر، آية: 28.
-----------------------------------------
فالخلق الإبداعي هو التفسير الوحيد الذي يُوَضِّحُ لنا سِرَّ هذا الوجود ويوفّق بين ظواهره المختلفة التي يبسطها لنا كتاب الطبيعة التي نقرأ صفحاتها في جميع العلوم المختلفة من علم التصوير العضوي (المورفولوجية) ووظائف الأعضاء، والأجنّة، والكيمياء العضوية، والتوريث والأحافيز، وتصنيف الأحياء، والجغرافية الحيوانية، الخ.
والانتخاب الطبيعي هو أحد العوامل الميكانيكية للتطوُّر، كما أن التطوُّر هو أحد عوامل عملية الخلق، فالتطوّثر اذن ليس إلا أحَدَ السُّنَنِ الكونيَّة أو القوانين الطبيعية، وهو كسائر القوانين العلمية الأخرى يقوم بدور ثانوي، لأنه هو ذاته يحتاج إلى مَنْ يُبْدِعُهُ.
ولا شك في أنه من خلق الله وصُنْعِهِ.
والكائنات التي تنشأ بطريق عملية الانتخاب الطبيعي قد خلقها الله أيضاً كما خلق القوانين التي تخضع لها، فالانتخاب الطبيعي ذاته لا يستطيع أن يخلق شيئاً، وكل ما يفعله هو أنه إحدى الطرق التي تسلكها بعض الكائنات في سبيل البقاء أو الزوال عن طريق الحياة والتكاثر بين الأنواع المختلفة.
أمَّا الأنواع ذاتها التي يتم فيها هذا الانتقاء فإنها تنشأ عن طَفَرَاتٍ تخضع لقوانين الوراثة وظواهرها، وهذه القوانين لا تسير على غير هُدَى ولا تخضع للمُصادفة العمياء كما يتوهَّمُ المادِّيون أو يريدوننا أن نعتقد.
إن الطفرات أو التغيُّرات الفُجائية ليست مجرَّد خبطٍ عشواء -كما يدَّعي بعض الباحثين- لفترة طويلة من الزمان، فالطفرات التي تُحَدِّدُ أحجام الأعضاء مثلاً قد تؤدِّي -كما ثبت من بعض البحوث الحديثة- إلى صغر حجم الأعضاء المُختصَّة، والانتخاب الطبيعي الذي يعتمد على الطفرات التي تتم بمحض المُصادفة لا يقضي إلا على الأعضاء الضارَّة.
ومع ذلك فإننا نُشاهد أن الأعضاء المُتعادلة التي ليس لها ضرر ولا نفع تتضاءل هي الأخرى، مِمَّا يُثْبِتُ أن الطفرات ليست دائماً عشوائية وإن التطور لا يعتمد على المُصادفة العمياء.
وعلى ذلك فإنه لا مفر من التسليم بأن هنالك حكمة وتدبيراً وراءَ الخلق ووراء القوانين التي توجهه.
ولا مفر لنا كذلك من التسليم بأن التطور ذاته قد صُمِّمَ بحكمةٍ وأنه يحتاج هو أيضاً إلى خَالِقٍ يُبدعه.
ولا يتسع المقام لسرد أدلة أخرى لبيإن الحكمة والتصميم والإبداع في هذا الكون، لكنني وصلتُ إلى كثير من هذه الأدلة فيما قمت به من البحوث المحدودة حول أجنة الحشرات وتطورها.
وكلما استرسلتُ في دراستي للطبيعة والكون، ازداد اقتناعي وقويَ إيماني بهذه الأدلة.
فالعمليات والظواهر التي تهتم العلوم بدراستها، ليست إلا مظاهر وآيات بينات على وجود الخالق المُبدعُ لهذا الكون.
وليس التطور إلا مرحلة من مراحل عملية الخلق.
وبرغم أن صيحات الماديين والطبيعيين قد حجبت كثيراً من الباحثين الأمناء عن الحقيقة، فإن فكرة التطوُّر الخَلْقِي لا يمكن أن تكون منافية للعقيدة الدينية.بل على النقيض من ذلك نجد من الحماقة والتناقض في الرأي أن يُسَلِّمَ الإنسانُ بفكرة التطوُّر ويرفض أن يُسَلِّمَ بحقيقة وجود الخالق الذي أوجد هذا التطور.
لقد عاش منذ عهد أوغستين العظيم في القرن الرابع حتى اليوم كثير مِمَّنْ آمنوا بالله ورفضوا فكرة الخلق بمعنى الصناعة، وقبلوا فكرة الخلق على أساس التطوُّر.
والواقع أنه بالنسبة لهؤلاء -وأنا من بينهم- نجد أن للتطور أهمية من الناحية الدينية، فهو يقود العقل الأمين المُتَجَرِّدَ من التحيُّز إلى فكرة وجود الله تعالى.
وأعود فأقول أن دراسة العلوم بعقل متفتح تجعل الإنسان يُسَلِّمُ بضرورة وجود الله والإيمان به.