الفصل التاسع: تطور العقل
مِمَّا يدعُو إلى أشَدِّ العَجَبِ أنَّهُ في أنواع الحياة الحيوانيَّة التي لا تُحصى -سواء أبقيَت الحيوانات.. أم انقرَضت- لسنا نجد عندها أي مَظهر للعقل، ولكنَّا نجد الغرائزَ وحدها حتى نصل إلى الإنسان، فتراهُ قد استأثر بالعقل وحده.

إنَّ أي حيوان لم يُسجِّل لنفسه قدرة على تربيع حجر، أو العَدِّ لغاية عشرة، أو فهم معنى عشرة!

في خليج الخلق، قد أتيح لكثير من المخلوقات أنْ تُبدى درجة عالية من أشكال مُعيَّنة من الغريزة أو الذَّكاء أو ما لا ندري.

فالزُّنبُور مثلاً يصيد الجُندُب (النَّطّاط) ويحفر حفرة في الأرض، ويحزُّ الجُندُبَ في المكان المناسب تماماً حتى يفقد وعيه، ولكنه يعيش كنوع من اللحم المحفوظ.

وأنثى (الزَّنبُور) تضع بيضاً في المكان المُناسب بالضبط، ولعلها لا تدري أنَّ صِغارها حين تفقس يُمكنها أنْ تتغذَّى دون أنْ تقتل الحشرة التي هي غذاؤها فيكون ذلك خطراً على وجودها، ولابد أنْ (الزُّنبُور) قد فعل ذلك من البداية وكرَّرهُ دائماً، وإلا ما بقيت زنابير على وجه الأرض.

والعِلْمُ لا يجد تفسيراً لهذه الظاهرة الخفيَّة، ولكنها مع ذلك لا يمكن أنْ تُنسب إلى المُصَادَفة!

إنَّ أنثى (الزُّنبُور) تُغطي حفرة في الأرض، وترحلُ فرحاً، ثم تموت.

فلا هي ولا أسلافها قد فكرن في هذه العملية، ولا هي تعلَم ماذا يحدث لصغارها، أو أنْ هناك شيئاً يُسمَّى صِغاراً.. بل إنَّها لا تدري أنَّها عاشت وعملت لحفظ نوعها.

والنَّحل والنَّمل يبدو أنها تُدرك كيف تنظم وتحكم نفسها، فلها جنودها، وعمالها، وعبيدها، ويعاسيها (1).

ولكنك إذا التقطت قطعة كهرمان على شاطئ البلطيق، فقد تجد بها نملة محبوسة منذ دهور لا تُعَدُّ.

وستجدها نسخة طبق الأصل من النَّمل الموجود الآن.

فهل وقف التطوُّر عن سيره حين طوبق بين النَّملةِ وبيئتها في الطبيعة؟

وهل كان ذهن النَّملة الصغيرة، أداة أشَدُّ ضآلة مِنْ أن تضطلع بغرض أكبر، لا شك أنَّ النَّملة بوصفها أصبحت حشرة اجتماعية، قد تعلّمت الكثير، ويبدو أنها تُطبِّقُ النظرية العجيبة القائلة: (أعظم خير لأكثر عدد)، وأنها تظل بها إلى نهايتها المنطقية، كما فعل بعض أهالى الهند الشرقية من الجيل الأخير.
---------------------------------------
(1) - قال الإمام علي كرَّم اللهُ وجهه في وصف النملة: (من كتاب نهج البلاغة):
(انظروا إلى النملة في صغر جثتها، ولطافة هيئتها، لا تكاد تنال بلحظ البصر، ولا بمستدرك الفكر، كيف دبت على ارضها وصبت على رزقها، تنقل الحبة إلى جحرها، وتعدها في مستقر لها، تجمع في حرها لبردها، وفي ورودها لصدرها، مكفولة برزقها، مرزوقة بوفقها، لا يغفلها المنان، ولا يحرمها الديان، ولو في الصفا اليابس، والحجر الجامس، ولو فكرت في مجاري أكلها، في علوها وسفلها، وما في الجوف من شراسيف بطنها، وما في الرأس من عينها وإذنها، لقضيت من خلقها عجبا، ولقيت من وصفها تعبا.. فتعالى الذي أقامها على قوائمها، وبناها على دعائمها، لم يُشركه في فطراته فاطر، ولم يُعنه في خلقها قادر).
(المُتَرْجِمْ).
---------------------------------------

وفي بعض أنواع النَّمل، يأتي العَمَلَةُ منه بحبوب صغيرة لإطعام غيرها من النَّمل من خلال فصل الشتاء.

ويُنشئُ النَّمل ما هو معروف (بمخزن الطحن)، وفيه يقوم النَّمل الذي أوتي أفكاكاً كبيرة مُعَدَّةً للطحن، بإعداد الطعام للمُستعمرة، وهذا هو شاغلها الوحيد.

وحين يأتي الخريف، وتكون الحُبوب كلها قد طُحِنَتْ، فإن (أعظم خير لأكبر عدد) يتطلب حفظ تلك المؤونة من الطعام، وما دام الجيل الجديد سينتظم كثيراً من النَّمل الطحَّان، فإن جنود النَّمل تقتل النَّمل الطاحن الموجود، ولعلها تُرضِى ضميرها الحشري بأن ذلك النَّمل قد نال جزاءه الكافي إذا كانت له الفرصة الأولى في الإفادة من الغذاء أثناء طحنه.

وهناك أنواع من النَّمل تدفعها الغريزة أو التفكير (واختر منها ما يحلو لك)، إلى زرع أعشاش للطعام فيما يمكن تسميته (بحدائق الأعشاش) وتصيد أنواعاً مُعيَّنة من الدُّود والأرق أو اليرق (1).

فهذه المخلوقات هي بَقَرُ النَّمل وعنزاتها، ومنها يأخذ النَّمل إفرازات مُعيَّنة تُشبه العسل ليكون طعاماً لها.

والنَّمل يأسر طوائف منه ويسترقُّها.

وبعض النَّمل حين يصنع أعشاشه، يقطع الأوراق مُطابقة للحجم المطلوب، وبينما يضع بعض عَمَلَةِ النَّمل الأطراف في مكانها، تستخدم صغارها -التي وهي في الطور اليرقي تقدر أن تغزل الحرير- لحياكتها معاً.

وربما حُرِمَ طفلُ النَّمل فرصة عمل شرنقة لنفسه ولكنه قد خدم الجماعة.

فكيف يُتاح لذرَّات المَادَّة التي تتكوَّن منها النَّملة، أنْ تقوم بهذه العمليات المُعَقَّدَة؟

لا شك أن هناك خالقاً أرشدها إلى كل ذلك.
---------------------------------------
(1) – Aphid:
هي الأرقة وجمعها الأرق.
وهي حشرات صغيرة آفة النَّدوة العسليَّة.
(المُتَرْجِمْ).
---------------------------------------

إنَّ الإنسان وحده هو الذي أوتيَ عقلاً بلغ من التَّطوُّر أنه يستطيع أن يفكر به تفكُّراً عالياً.

والغريزة ليست إلا كنغمة واحدة من النَّاي.

نغمة جميلة ولكنها محدودة.

في حين أنَّ العقل البشري يحتوي كل الأنغام التي لكل الآلات الموسيقية في أوركسترا.

والإنسان يمكنه أنْ يوفِّق بين تلك الأنغام جميعُها، وأنْ يُقَدِّمَ للعالم قِطَعَاً موسيقية مُتَّحدة النَّغم (سيمفونيَّات) تدنو من الإعجاز.

إلى أنَّ خُلِقَ الإنسانُ، لم تُخرج العناية الإلهيَّة كائناً حيًّا من بين الصخور الفطرية، وله عقل مرن كعقل الإنسان.

والآن يُمكنُنا أنْ نتصوَّر إمكان تلقِّي الإنسان قبساً من نور الله يجعله سيداً على الأرض، عجيباً في مقدرته، باقياً في مصيره.

إنَّ التطوُّر لابد له، طِبْقاً لكل قانون من قوانين الطبيعة، والكيميا، من أنْ يقصر أقصى حدوده على أكثر ما يمكن من المطابقة البيئة.

يُقال أنَّ جمال ريش أحَدِ الطيور إنَّمَا هو إظهار للجاذبيَّة الجنسيَّة، وبذا يُمكن تفسيره، ولكن الرَّسم الجميل ليس ضرورياً لوجود الإنسان، وأنْ تكن المرأة الجميلة لازمة لهذا الوجود.. إنَّ المَادَّة، كالذَّرَّات والصُّخور والماء، قد تتَّحِدْ، وإذا نُفِخَتْ فيها الحياة، فقد تتطوَّر إلى انسان.

ولكن أيُمكن هذه العناصر، بعد إذ أتمَّت المُطابقة الكاملة للبيئة الطبيعية، أنْ تقطع مرحلة أخرى، وتنتج رجلاً موسيقياً يستطيع أنْ يكتب الأنغام الموسيقيَّة (النوتات) على الورق، ويسجل تناسقها البديع، ويصنع بيانو، ويخلب ألباب الجمهور المستمع، ويدع موسيقاه تُسَجَّلُ على أقراص من البلاستيك، وتذاع حول العالم عن طريق وسيط يُسَمَّى (الأثير) ولا تعرف الذَّرَّات شيئاً عنه سوى أنها توجد فيه أو بوساطته؟

إنَّ بعض أنواع الحيوانات تتعاون في جهودها، فهي لا تصطاد إلا في جماعات، وهي تجمع غذاءها وتُخزنه للمستقبل، وهي تُضاعف جهودها الفرديَّة بطرق شتَّى بفضل العمل المُشترك، ولكنها لا يبدو أنَّها تخطو خطوة واحدة بعد ذلك.

أمَّا الإنسانُ فإنه من جهةٍ أخرى قد شيَّدَ الأهرامَ بمُضاعفة القوة الفرديَّة، ولكنَّهُ كذلك اكتشف الرَّافعة والطَّنبور، والعجلة، والنَّار.

وقد جعل حيوانات الحَمْلَ مُستأنَسَة، وأضاف إليها عَجَلَتَهُ، وبذا أطال في ساقيه، وقوَّى من ظهره.

وقد تغلّب على قوة سُقُوط الماء، وتحكَّمَ في البُخار والغاز، والكهرباء، وحوَّلَ العمل اليدويَّ إلى مُجرَّد السَّيطرة على الأجهزة الميكانيكيَّة التي هي من مُستحدثات عقله.

وهو في انتقاله من مكان إلى مكان، قد فاق الظّبي في سُرعته، وحين ركَّبَ أجنحة لعربته، قد سَبَقَ الطّيور في طيرانها، فهل حدث ذلك كله عن طريق تفاعل في المَادَّة وقع مُصادفة؟

والجَمَالُ يبدو مُلازماً للطبيعة، وجَمَالُ السُّحب، وقوس قزح، والسَّماء الزَّرقاء، والبهجة الرَّائعة التي تملأ نفس الناظر إلى النُّجوم، وإلى القمر في طلوعه، والشَّمس في غُرُوبهَا، وإلى روعة الظهر الفائقة، كل ذلك يَهُزُّ مشاعر الإنسان ويسحره.

وتحت الميكروسكوب تجد أصغر حيوان وأدق زهرة، تُزَينُهَا خطوطٌ من الجَمَال مُحكمَة الصُّنع.

والخطوط البلورية التي للعناصر والمُرَكَبَّات، من ندفة الثلج إلى الأشكال الأصغر منها، إلى ما لا نهاية، هي مُصادَفة لدرجة مُدهشة، حتى إنَّ الفنان ليس بوسعه إلا أنْ يُقلدُهَا أو يجمعها معاً.

وكل ورقة من أوراق كل شجرة سليمة مُشَكّلَةٌ في أكمل شَكْلٍ، وتخطيط كل نبات يعمل بصفة فرديَّة، وبخطوط فَنٍ أصيل، والأزهار مُشَكَّلَةٌ برشاقة وبتنظيمات كاملة، وتخطيطها وفق تصميمات صحيحة، وألوانُها مُوَزَّعَةٌ بشكلٍ مُدهِشٍ، ومن النَّادر، إنْ لم يكُنْ من المُحَالِ، أن تختلط معاً.

والحيوانُ الكاملُ هو شيءٌ جميلٌ، وحركاته مملوءة بالسُّهولة والرَّشاقة.

وحينما تطوَّر مخلوقٌ عن طريق المُطابقة الضَّرُوريَّة البيئة والوقاية، وبدا غير مُتناسب الشَّكل، فإنَّهُ يبدو فريداً في نوعه حتى ليَحسبه النَّاظر إليه تعبيراً فنياً عن إحدى المَضَاحِكِ.

إنَّ الوادي الأخضر، والنَّهر والأشجار الباسقة، والصُّخور، والجبال التي يُجَلِّلُ قِمَمَهَا الثلجُ - كل أولاء تُحْدِثُ في النَّفس أثراً عميقاً.

وإنَّ الإنسانَ ليستمد البهجة من رؤية كُثبان الرِّمَالِ الفسيحة المُمْتَدَّة في الصَّحراء.

وإنَّ التَّتَابُعَ الفاخر لأمواج المُحيط، وتلاطمِهَا على أرض الشَّاطئ، وتحليق الطيور في الجو سواء فوق البحر أو على طول الشَّاطئ أو في الغابة مع ألوانها المُكَيَّفَة، كل أولاءِ تتحَّدى مَنْ لهُ عَيْنٌ يرى بها، وعَقْلٌ يُقَدِّرُ به.

وإنَّ حركات السَّمك، وتموجات حشائش البحر في نُعومةٍ تحت سطحه، لتملأُ نفس الإنسان بشعور من الانسجام يستجيب إلى تشوُّقِهِ.

والطبيعة إذا لم تنلها يَدُ التشويه، تبدو كأنها أعِدَّتْ لكي تستدرَّ أسْمَى الشَّعور في نفوسنا، وتُلهمُنَا الإعجاب بصُنع الخَالِقِ الذي وهبنا نعمة الجمال، تلك التي لا يُدْرِكُهَا بكل كمالها غير الإنسان!

والجَمَالُ هو الذي يرفع الإنسان وحده إلى مَرتَبَةٍ يكون فيها أقْرَبُ إلى الله.

ويبدو أنَّ (الغاية) جوهريَّة في جميع الأشياء، من القوانين التي تحكُمُ الكَوْنَ، إلى تركيبات الذَّرَّةِ التي تدهم حياتنا، وإذا لم يكن للتطور من غرض سوى إعداد أساس مَادِّيٍّ لِتَلَقِّي الرُّوح، فإنَّ هذه غاية مُدهشة في حَدِّ ذاتِها.

وإذا كانت حقيقة الغاية مقبولة بالنسبة لكل الاشياء، وإذا آمنَّا بأنَّ الإنسان هو أهم مظهر لتلك الغاية، فإن الاعتقاد العِلمِيّ بأنْ جسم الإنسان وجهاز مُخِّهِ مَادِّيَانِ، قد يكون سليماً.

فإنَّ الذّرَّاتِ والهباءات في المخلوقات الحيَّة تفعلُ أفعالاً مُدهشة، وتبني أجهزة عجيبة، ولكن هذه الأدوات عديمة النَّفعِ ما لم يُحَرِّكُهَا العَقْلُ، حركات ذات غرض.

فهُناك إذَنْ خَالِقُ الكَوْنِ لا يرقى إليه تفسير العِلْمِ، ولا يَقْدِرُ أنْ يَنْسِبَهُ إلى المَادَّةِ.