الفصل الثامن: غرائز الحيوانات
إنَّ تقدُّم الإنسان قد بلغ من الوجهة الطبيعية مبلغاً محموداً، ولا يبدو أنَّ ثمَّة مجالاً لنمو تكوين جسدي جديد به.         

ولكن ينبغي أنْ نتقَّدم بصحته، وأنْ يبلغ تقدُّمه الطبيعي درجة الكمال بفضل التغذية وعجائب الطِّبِّ والجراحة، وتبعاً لذلك يجب أنْ ترقى الأذهان بوجه عام.         

فهناك -على الأقل- مُتَّسع للعقلية الصَّالحة لكي تُعَبِّرَ عن نفسها، وبذا تتحسَّن أحوال الإنسان الماديَّة والخُلُقيَّة والرُّوحيَّة، سواءً من حيث الفرد أو الجنس.

إنَّ المدنية وقبول المقاييس الخلقية، تتحركان إلى الأمام وإلى الخلف، ولكن هناك كسباً دائماً، وقد كان تقدُّم الإنسان أمراً ملحوظاً بلا ريب، ولكن عليه أنْ يقطع مراحل عِدَّةٍ.         

ويبدو لحُسن الحظ أنَّهُ ليس هناك حَدٌ لِمَا يُمكن أن يقع من تقدُّم جديد في الذِّهن البشري مع الوقت، أعني الوقت الكافي، بوصفه العامل الغالب..

إنَّ الطيور لها غريزة العَودة إلى المَوطن، فعُصفُور الهزَّاز الذي عشَّشَ ببابك يُهاجر جنوباً في الخريف، ولكنه يعود إلى عُشِّهِ القديم في الربيع التالي.

وفي شهر سبتمبر تطير أسراب معظم طيورنا إلى الجنوب، وقد تقطع في الغالب نحو ألف ميل فوق عرض البحار، ولكنها لا تضل طريقها.

والحمام الزَّاجل إذا تحيَّر من جراء أصوات جديدة عليه في رحلة طويلة داخل قفص، يحوم برهة ثم يقصد قُدُماً إلى موطنه دون أن يضل.. والنَّحلة تجد خليَّتها مهما طمست الرِّيحُ في هُبُوبهَا على الأعشاب والأشجار، كل ذلك دليل يُرى.

وحاسَّة العَودة إلى الوطن هذه هي ضعيفة في الإنسان، ولكنَّه يُكملُ عتاده القليل منها بأدوات الملاحة.

ونحن في حاجة إلى هذه الغريزة، وعقولنا تَسُدُّ هذه الحاجة ولابد ان للحشرات الدقيقة عيوناً ميكروسكوبية لا ندري مبلغها من الإحكام، وأنَّ للصُّقور بصراً تلسكوبياً وهنا أيضاً يتفوَّقُ الإنسانُ بأدواته الميكانيكية.

فهو بتلسكوبه يمكنه أنْ يُبصر سديماً بلغ من الضعف أنَّهُ يحتاج إلى مُضاعفة قوة الإبصار مليوني مَرَّة ليراه، وهو بميكروسكوبه الكهربي يستطيع أنْ يرى بكتريا كانت غير مرئية، (بل كذلك الحشرات الصغيرة التي تعضها).

وأنت إذا تركت حصانك العجوز وحده، فإنَّه يلازم الطريق مهما اشتدَّت ظلمة الليل.

وهو يقدر أنْ يرى ولو في غير وضُوح، ولكنه يلحظ اختلاف درجة الحرارة في الطريق وجانبيه، بعينين تأثرتا قليلاً بالأشعة تحت الحمراء التي للطريق.

والبُومة تستطيع أنْ تُبصر الفأر الدَّافئ اللطيف وهو يجري على العُشب البارد مهما تكن ظلمة الليل.

ونحن نُقلِّبُ الليل نهاراً بإحداث إشعاع في تلك المجموعة التي نسميها بالضوء..

إنَّ عمليات عينك تلقي صورة على الشَّبكية، فتنظم العضلات العدسات بطريقة آليَّة إلى بؤرة مُحكمَة، وتتكوَّن الشَّبكيَّة من تسع طبقات منفصلة، هي في مجموعها ليست أسْمَكَ من ورقة رفيعة.

والطّبقة التي في أقصى الداخل تتكوَّن من أعواد ومخروطات، ويُقال أنَّ عدد الأولى ثلاثون مليون عُودٍ، وعدد الثانية ثلاثة ملايين مخروط.

وقد نُظِمَتْ هذه كلها في تناسُبٍ مُحْكَم، بعضها بالنسبة إلى بعض، وبالنسبة إلى العدسات، ولكن العجب أنَّها تُديرُ ظهورها للعدسات، وتنظر نحو الداخل لا نحو الخارج.

وإذا استطعت أنْ تنظر في خلال العدسات، فإنك ترى عدوَّك مقلوبَ الوضع، والجانب الأيمن منه هو الأيسر.

وهذا أمْرٌ يُربكُكَ إذا حاولت أن تُدافع عن نفسك، ولذا فإنَّ الطبيعة قد عرفت بطريقة ما ماذا سيحدث، ولذا أجرت ذلك التَّصميم قبل أنْ تقدر العين على الإبصار، ورتَّبَتْ إعادة تنظيم كاملة عن طريق ملايين من خيوط الأعصاب المُؤَدِّيَةِ إلى المُخ.

ثم رفعت مدى إدراكنا الحِسِّيِّ من الحرارة إلى الضُّوء، وبذا جعلت العين حسَّاسَة بالنسبة للضُّوء.

وهكذا نرى صورة مُلوَّنة للعالم من الجانب الأيمن إلى فوق، وهو احتياط بصري سليم.

وعدسة عينك تختلف في الكثافة، ولذا تجمع كل الأشعة في بؤرة.

ولا يحصل الإنسان على مثل ذلك في أيَّة مادَّة في جنس واحد كالزجاج مثلاً.

وكل هذه التنظيمات العجيبة العدسات والعيدان والمخروطات والأعصاب وغيرها.. لابُدَّ أنَّها حدثت في وقتٍ واحدٍ، لأنَّهُ قبل أنْ تكمل كل واحدة منها، كان الإبصار مستحيلاً.

فكيف استطاع كل عامل أنْ يعرف احتياجات العوامل الأخرى ويُوَاِئَم بين نفسه وبينها؟

إنَّ المحار العادي الذي تأكل عضله، له عيون عِدَّةٌ تشبه عيوننا كثيراً، وهي تلمع، لأن كل عين منها لها عاكسات صغيرة لا تُحصى، ويُقال أنَّهَا تُساعدها على رُؤية الأشياء من اليمين إلى فوق.

وهذه العاكسات غير موجودة في العين البشرية.

فهل رتَّبَتْ المحار تلك العاكسات لأنَّهُ لا يملك كالإنسان قوة ذهنية؟

ولَمَّا كان عدد العيون في الحيوانات يتراوح بين اثنتين وعِدَّةِ آلاف، وكلها مختلفة، فلا ريب أنَّ الطبيعة كانت تلقي مشقَّة كبيرة في إحكام علم المرئيات، اللهم إلا إذا وجدت عوناً من الخالق!

إنَّ نحلة العسل لا تجذبها الأزهار الزَّاهية كما نراها، ولكنها تراها بالضُّوء فوق البنفسجي الذي يجعلها أكثر جمالاً في نظرها.         

وفيما بين أشعة الاهتزازات البطيئة واللوحة الفوتوغرافية وما وراءها، عوالم من الجمال والبهجة والإلهام، بدأنا نقدرها ونسيطر عليها.

فلنأمل أنْ ياتي علينا يوم نستطيع فيه أنْ نستمتع بعالم الضوء عن طريق النُّبوغ في الابتكار.

وها نحن أولاء قد أصبحنا قادرين على أنْ نكتشف اهتزازات الحرارة في كوكب بعيد، ونقيس طاقتها.

إن العاملات من النَّحل تصنع حُجُرَاتٍ مختلفات الأحجام في المشط الذي يستخدم في التربية.

وتُعِدُّ الحُجُرات الصغيرات للعُمَّال، والأكبر منها لليعاسيب (1)، وتُعِدُّ غرفة خاصة للملكات الحوامل.

والنَّحلة الملكة تضع بيضاً غير مُخَصَّبٍ في الخلايا المُخصَّصَة للذَّكر، وبيضاً مُخَصَّبَاً في الحُجُرات الصِّحيَّة المُعَدَّة للعاملات الإناث والمَلِكَاِت المُنْتَظَرَات.

والعاملات اللائي هُنَّ إناث مُعَدَّلات بعد أن انتظرن طويلاً مجيء الجيل الجديد، تهيأن أيضاً لإعداد الغذاء للنَّحل الصَّغيرة بمضغ العسل واللقح، ومقدمات هضمه، ثم ينقطعن عن عملية المضغ ومقدمات الهضم عند مرحلة مُعيَّنة من تطوُّر الذكور والإناث، ولا يُغَذَيْنَ سوى العسل واللقح.

والإناث اللائي يُعالجن على هذا الشكل يُصبحن عاملات.
---------------------------------------
(1) - اليعسوب:
هو الذَّكَرُ مِنَ النَّحْل.
(المُتَرْجِمْ).
---------------------------------------

أمَّا الإناث اللائي في حُجُرات الملكة، فإن التغذية بالمضغ ومُقدمات الهضم تستمر عندهن.

وهؤلاء اللائي يُعاملن هذه المعاملة الخاصة يتطورون إلى ملكات نحل، وهُنَّ وحدهُنَّ اللائي يُنتجن بيضاً مُخصَّباً، وعملية تكرار الإنتاج هذه تتضمَّن حُجُرات خاصة، وبيضاً خاصَّاً، كما تتضمَّن الأثر العجيب الذي يؤدي لتغيير الغذاء.

وهذا يتطلب الانتظار والتمييز وتطبيق اكتشاف أثر الغذاء، وهذه التغيُّرات تنطبق بوجه خاص على حياة الجماعة، وتبدو ضرورية لوجودها، ولابد أنْ المعرفة والمهارة اللازمتين لذلك قد تَمَّ اكتسابهما بعد ابتداء هذه الحياة الجماعية، وليستا بالضرورة مُلازمتين لتكوين النَّحل ولا لبقائه على الحياة.

وعلى ذلك فيبدو أنَّ النَّحل قد فاق الإنسان معرفة تأثير الغذاء تحت ظروف معينة.

والكلبُ بما أوتي من أنْفٍ فُضُولي، يستطيع أنْ يُحِسَّ الحيوان الذي مَرَّ.

وليس ثمَّة أدَاةٍ من اختراع الإنسان لتُقَوِّيَ حاسَّة الشَّم الضَّعيفة لديه، ونحن لا نكاد ندري أين نبدأ لنفحص امتدادها.

ومع هذا فإنَّ حاسَّة الشَّم الخاصَّة بنا هي على ضَعْفِهَا قد بلغت من الدِّقَّة أنَّها يُمكنُها أنْ نتبيَّن الذَّرَّاتِ الميكروسكوبية البالغة الدِّقَّة.

وكيف نعرف أننا نتأثَّر جميعاً نفس التأثُّر من رائحةٍ بعينها؟ الواقع أنَّنَا لا نتأثَّر تأثَّراً واحداً.

كذلك حاسَّة الذَّوق تُعطي كُلَّاً مِنَّا شُعُوراً مُختلفاً عن شعور الآخر.

والعجيب أنَّ اختلافات الإحساس هذه هي ورائيَّة!

وكل الحيوانات تسمع الأصوات التي يكون كثير منها خارج دائرة الاهتزازات الخاصَّة بنا، وذلك بدقَّة تفوق كثيراً حاسَّة السَّمع المحدودة عندنا.

وقد أصبح الإنسان يستطيع بفضل وسائله أنْ يسمع صوت ذُبَابَةٍ تطير على بُعْدِ أميالٍ كما لو كانت فوق (طبلة) أذُنِهِ، ويستطيع بمثل تلك الأدوات أنْ يُسَجِّلَ وقع شُعاع الشمس.

إن جُزءاً من أذُن الإنسان هو سلسلة من نحو أربعة آلاف حنية (قَوْسٍ) دقيقة مُعَقَّدَةٍ، مُتدرِّجة بنظام بالغ، في الحجم والشَّكل.

ويُمكِنُ القول بأن هذه الحنيات تُشبه آلةً موسيقيَّة، ويبدو أنَّها مُعَدَّةٌ بحيثُ تلتقط، وتنقل إلى المخ، بشكلٍ مَا، كُلَّ وقْعِ صوتٍ أو ضَجَّةٍ، من قصف الرَّعد إلى حفيف الشَّجر فضلاً عن المزيج الرَّائع من أنغام كُلِّ أداةٍ موسيقيَّةٍ في الأوركسترا، ووحدتها المُنسجمة، لو كان المُراد عند تكوين الأذُن أنْ تُحَسِّنَ خلاياها الأدَاءَ، كي يعيش الإنسان، فلماذا لم يمتد مداها حتى تصل إلى إرهاف السَّمع؟

لعل (القوة) التي وراء نشاط هذه الخلايا قد توقَّعت حاجة الإنسان في المُستقبل إلى الاستماع الذِّهني أم أنَّ المُصادفة قد شاءت تكوين الأُذُنَ خيراً من المقصود؟

إنَّ إحدى العناكب (جمع عنكبوت) المائيَّة تصنع لنفسها عُشَّاً على شكل منطاد (بالون) من خيوط بيت العنكبوت وتُعَلِّقَهُ بشيءٍ ما تحت الماء، ثم تُمسك ببراعة فقَّاعة هواءٍ في شعر تحت جسمها، وتحملها إلى الماء ثم تُطلقُها تحت العُشِّ ثم تُكَرِّرُ هذه العمليَّة حتى ينتفخ العُشَّ، وعندئذٍ تَلِدُ صِغَارَهَا وتُرِبِّيهَا، آمِنَةً عليها من هُبُوبِ الهواء.

فها هنا نجد طريقة النَّسج، بما يشمله من هندسةٍ وتركيبٍ ومِلاحةٍ جويةٍ، ربما كان ذلك كله مصادفة.. ولكن ذلك لا يُفَسِّرُ لنا عمل العنكبوت!

وسَمَكِ (السَّلمُون) الصَّغير يُمضِي سنواتٍ في البحر، ثم يعود إلى نهره الخاصِّ به، والأكثر من ذلك أنَّهُ يصعد جانب النَّهر الذي يَصُبُّ عنده النَّهر الذي وُلِدَ فيه.

وقد تكون قوانين الولاية الأمريكية التي على أحد جانبي النَّهر صارمة وقوانين الولاية التي على الجانب الآخر غيرُ صارمة، ولكن هذه القوانين إنَّما تسري على السَّمك الذي يُمكن أنْ يُقال عنه أنَّه يَخُصُّ جانباً دُونَ الآخر.. فما الذي يجعل السَّمك يرجعُ إلى مكان مَوْلِدِهِ بهذا التَّحديد؟

إنَّ سمكة (السَّلمون) التي تسبح في النهر صعداً، إذا نُقِلَتْ إلى نُهرٍ آخر، أدْرَكَتْ تَوَّاً أنَّه ليس جَدْوَلُهَا، فهي لذلك تَشُقُّ طريقها خلال النَّهر، ثم تحيدُ ضِدَّ التَّيَّارِ قاصِدَةً إلى مصيرها.

وهُنَاكَ لُغْزٌ أصعبُ من ذلك، يتطّلبُ الحَلَّ، وهو الخَاُّص بثعابين الماء التي تسلُكُ عكس هذا المسلك، فإنَّ تلك المخلوقات العجيبة متى اكتمل نُمُوّهَا، هاجرت من مختلف البِرَكِ والأنهار، وإذا كانت في أوروبا قطعت آلاف الأميال في المُحيط، قاصِدَةً كلها إلى الأعماق السَّحيقة جنوبي برمودا، وهنا تبيضُ وتموت.

أمَّا صِغَارُهَا -تلك التي لا تملك الوسيلة تتعرَّف بها أيَّ شيءٍ سِوَى أنَّها في مياه قفزة- فإنها تعود أدْرَاجِهَا وتَجِدُ طريقها إلى الشاطِئِ الذي جاءت منه أمَّهاتِهَا، ومن ثَمَّ إلى كُلِّ نَهْرٍ أو بُحَيْرَةٍ أو بِرْكَةٍ صغيرة، ولِذَا يظلُّ كل جسم من الماء آهِلَاً بثعابين البحار لقد قاومت التيارات القوية وثبتت للأمداد والعواصف، وغالبت الأمواج المتلاطمة على كل شاطئٍ، وهي الآن يُتاحُ لها النُّمُو، حتى إذا اكتمل نُّمُوُّهَا، دفعها قانونٌ خَفِيٌ إلى الرُّجُوع حيث كانت بعد أن تتم المرحلة كلها.

فمِنْ أين ينشأ الحافزُ الذي يُوَجِّهُهَا لذلك؟

لم يحدث قط أنْ صِيدَ ثعبان ماء أمريكي في المياه الأوروبية، أو صِيدَ ثُعبان ماء أوروبي في المياه الأمريكية.

والطبيعة تُبْطِئُ في إنماء ثُعبان الماء الأوروبي مُدَّة سَنَةٍ أو أكثر لتعوِّض من زيادة مسافة الرِّحلة التي يقطعها.

تُرى هل الذَّرَّات والهباءات إذا تَوَحَّدَتْ معاً في ثعبان ماء، يكون لها حاسَّة التَّوجيه، وقوة الإرادة اللازمة للتنفيذ؟

ويبدو أن الحيوانات لها القُدرة على تبادل الشعور.

ومَنْ ذا الذي يرقُب طائر الطيطوي (او الزَّمَّار) ولم يُعجب به، وهو يُحَلّقُ في الجو، ويدور، حتى تطير كل طيور ذوات الصَّدر الأبيض في أشعَّة الشَّمس في وقتٍ واحدٍ؟

وإذا حملت الرِّيح فراشة أنثى من خلال نافذة إلى عِلْيَةَ بيتك، فإنها لا تلبث أن تُرسل إشارةً خفيَّة، وقد يكون الذَّكَرُ على مسافةٍ بعيدةٍ ولكنه يتلّقى تلك الإشارات ويُجاوبُها مهما أحدثت أنت رائحة بمعملك لتضليلهما.

تُرى هل لتلك المخلوقة الضئيلة محطة إذاعة، وهل لِذَكَرِ الفراشة جهاز راديو عقلي فضلاً عن السَّلك اللاقط للصَّوت (الإيريال)؟

أتُرَاهَا تَهُزُّ الأثير فهو يتلّقى الاهتزاز؟

والجندية (النطيط) الأمريكية (KATYDID) تَحُكُّ ساقيها أو جناحيها معاً، فيسمع صريرها هذا في الليلة السَّاكنة على مسافة نصف ميل.

إنها تَهُزُّ بها مئة طن من الهواء وتُنادي رفيقها.

والفراشة التي تعمل في عالم آخر من عوالم الطبيعة، وفي سُكُوتٍ ظاهر، تُنادي أيضاً مثل ذلك النِّداء المُجاب!

وقبل أن يُكتشف الرَّاديو، كان العلماء يقولون أنَّ الرَّائحة هي التي تجذب الفراش الذَّكَرَ إلى أنثاهُ، وسواءٌ أكان هذا أم ذاك، فإنها مُعجزة، لأنه لابُدَّ للرَّائحة أن تمضي في كل اتجاه، مع الرِّيح أو بدونها، وفي هذه الحالة يكون على الفَرَاشِ الذَّكر أن يتبيَّن هباءة (ذرَّة)، وأن يعرف الاتجاه الذي جاءت منه.

ونحن الآن نتَّخذ عُدَّةً هائلة لنكتسب مثل هذه القُدرة على الاتصال معاً، وسوف يأتي اليوم الذي يُنادي فيه الشَّاب حبيبته على بُعْدٍ، دون أداة ميكانيكية، فتُجَاوبُهُ، ولن يعوقهما حاجزٌ أو رتاجٌ.

إنَّ التِّليفون والرَّاديو هما من العجائب الآليَّة، وهما يُتيحان لنا الاتصال السَّريع، ولكنَّا مرتبطون في شأنهما بسلك ومكان.

وعلى ذلك لا تزال الفراشة متفوِّقة علينا من هذه الوجهة، وليس لنا إلا أن نحسدها على ذلك، حتى تبتكر عقولنا راديو فردياً.

وعندئذ نكتسب القُدرة على (انتقال الفِكْرِ) من بعض الوجوه.

والنَّبات يتحايل على استخدام وكلاء لمُواصَلة وجوده دون رغبة من جانبه.

كالحشرات التي تحمل اللقح من زهرة إلى أخرى، والرَّياح، وكل شيءٍ يطيرُ أو يمشي ليوزع بذوره.

وأخيراً قد أوقع النَّباتُ الإنسانَ ذا السِّيادة في الفَخِّ، فقد حسن الطبيعة، وجازته بسخاء، غير أنه شديد التكاثر حتى أصبح مقيداً بالمحراث.

وعليه أنْ يبذر، ويحصد، ويخزن، وعليه أنْ يُربِّي ويُهجِّن، وأن يُشَذِّبَ، ويُطْعِم.

وإذا هو أغفل هذه الأعمال، كانت المجاعة نصيبُه، وتدهورت المدنيَّة، وعادت الأرض إلى حالتها الفطرية.

والطيور التي تؤخذ صغيرة من أعشاشها، تصنع لنفسها حيت تكبر أعشاشاً على نمط نوعها، وللعادات المُتوارثة جذور عميقة في ظُلُمَاتِ القِدَمِ، فهل هذه الأعمال نتيجة المُصَادَفَة أم هي نتيجة إعداد حكيم خبير؟

إنَّ في هذا الكفاية لإظهار قوَّة العادة الوراثيَّة التي نُسَمِّيهَا بالغريزة.

ومن بين جميع الكائنات الحيَّة التي جابت نواحي الأرض، لا نجد أحداً منها حاز من قوة التعليل مثل ما حازه الإنسان.

فهناك بقاءٌ في الحياة بفضل الضبط، وهناك فناء لأن الضبط قد تخطى الحَدَّ اللازم.

ولكن الإنسان وحده هو الذي نَمَّى معرفته بالأرقام.

ولو أنَّ إحدى الحشرات عرفت عدد سيقانها، لَمَا أمكنها أنْ تعرف عدد سيقان اثنين من نوعها، فإنَّ ذلك يتطلّب قوة تعليل.

وكثير من الحيوانات هي مثل سرطان البحر (LOBSTER) الذي إذا فقد مِخْلَبَاً، عرف أنَّ جُزءاً من جسمه قد ضاع، وسارع إلى تعويضه بإعادة تنشيط الخلايا وعوامل الوراثة ومتى تَمَّ ذلك كَفَّ الخلايا عن العمل، لأنها تعرف بطريقة ما أنَّ وقت الرَّاحة قد حان.

(وكثير الأرجل) المائي إذا انقسم إلى قسمين: استطاع أن يُصلح نفسه عن طريق أحد هذين النصفين، وأنت إذا قطعت رأس (دودة الطعم) تُسارع إلى صُنع رأس بدلاً منه.

ونحن نستطيع أنْ نُنَشِّطَ التئام الجُرُوح ولكن متَّى يُتاح للجرَّاحين أنْ يعرفوا كيف يُحَرِكُونَ الخلايا لتُنتج ذراعاً جديدة، أو لحماً، أو عظاماً، أو أظافر، أو أعصاباً - إذا كان ذلك حقاً في حَيِّزَ الإمْكَان؟

وهناك حقيقة مُدهشة تُلقى بعض الضَّوء على لُغْزِ هذا الخلق من جديد: فإنَّ الخلايا في المراحل الأولى من تطويرها إذا تفرَّقت، صار لكل منها القدرة على خلق حيوان كامل.

ومِنْ ثَمَّ فإنه إذا انقسمت الخليَّة الأولى إلى قسمين، وتَفَرَّقَ هذان، تطوَّر منهما فردان.

وقد يكون في ذلك تفسير لتشابه التَّوأمين، ولكنه يدل على أكثر من ذلك، وهو أنَّ كل خليَّة في البداية يمكن أن تكون فرداً كاملاً بالتفصيل، فليس هناك شَكٌ إذن في أنَّك أنت، في كل خلية ونسيج.

وقد أشار المزمور 139 - 14 / 16 من مزامير داود في بساطة، إلى الطريقة العجيبة التي يمكن بها خلية أن تتطور إلى كائن مُفْرَد، إذ ورد فيه ما يأتي:
أحمدُكَ من أجلِ أني قد امتزتُ عجباً.
عجيبةٌ هيَ أعمالك ونفسي تعرفُ ذلك يقيناً.
لم تختفِ عنك عظامي حينما صُنعتْ في الخفاء ورُقمت في أعماق الأرض.
رأت عيناكَ أعضائي، وفي سفركَ كلّها كتبتْ يوم تصورتْ، إذ لم يسكن واحدٌ منها.

وفي الإمكان أنْ نملأ صفحات عِدَّة بعجائب الإحساس التي لا تزال فوق إدراكنا، ولكن هذه الأمثلة تكفي تماماً لأن تدلُّنا على أننا لا يزال أمامنا الكثير لنتعلمه، وإلى أنْ يتكوَّن لدى الإنسان حواس جديدة، أو إلى أنْ يُضاهى الحيوانات بالأجهزة التي يخترعها حتى يكتسب مثل كفاياتها الخاصة، فإنَّ أمامه طًرًقاًَ طويلة للتَّطوُّر.

إنَّ كل كفاية يملكها الحيوان ولا نملكها نحن، إنما هي تَحَدٍّ لذكائنا، ونحن لا نزال نَاقِصِي العِلْمِ حتى نستطيع الإجابة عن ذلك التَّحدِّي.

إننا حتَّى الآن لا نقدر أنْ نفهم الغريزة، ولا نَقدِرُ أنْ نضع قواعد عامَّة ونحن مطمئنون على أساس معرفة ناقصة، وإلى أن نملك كل حاسة كسبتها الكائنات الحيَّة، فإنَّنا سنبقى عاجزين عن إدراك الارتباط الحقيقي الذي بين قوانين الطبيعة، وسنظلُّ نبحث في اللانهائية بفهم جزئي.

إنَّ التَّطوُّر الرُّوحي للإنسان هو الآن في البداية.

والقبس الإلهي قد بدأ يسيطر في بطءٍ على عقله المَادِّي.

وأخطاء الإنسان، التي تصل به إلى هلاك نفسه بيده، إنما هي مآسي طفولته.

وزماننا إذا قيس بالأزلية الماضية والأبدية المستقبلة لا يزيد على دقة السَّاعة، غير أنَّ الرَّوحَ التي بنا، هي ملك لهذه وتلك.

ونحن إذا فَكَّرْنَا في الفضاء الذي لا يفتأ يمتدُّ أمامنا، وفي الزَّمن الذي لا بداية له ولا نهاية، وفي الطّاقة المُقيَّدة والمحبُوسَة في الذَّرَّة، وفي الكَوْنِ الذي لا حَدَّ له بعوامله التي لا تُحصى ونُجُومُهُ التي لا تُعَدُّ، وفي الاهتزازات التي نُسَمِّيهَا بالضوء والحرارة والكهرباء والمغناطيسية، وفي النشاط المُستمر للنجوم، وفي الجاذبية وسيطرة القوانين الطبيعية على العالم، إذا فكرنا في ذلك كله، أدركنا أننا لا نعرف في الحق إلا قليل.

فإلى أي حَدٍّ يجب ان يتقدَّم الإنسان حتى يُدرك تماماً وجود الخالق الأعلى، ويُحاول أنْ يرتفع إلى أعلى ما يستطيع بُلُوغُهُ من الفَهْم، دون أن يُحاول تفسير حِكْمَةِ اللهِ ومَقَاصِدَهُ أو يَصِفَ الصِّفات التي له تعالى؟